حاول الأستاذ مرة أخرى سبر أغوار جوهر العلمانية حيث أنه ذكر ( الديمقراطية في جوهرها علمانية لأنها تقوم على احترام الإختلاف والحريات وعلى رأسها حرية المعتقد قبل كل شيء ) .
بداية في معرض ردنا على الكاتب سنحاول أولا أن ننقب عن لمحة تاريخية لكل من الديمقراطية و العلمانية , لكشف المناورات القديمة التي يقوم بها المعسكر العلماني و التي أعادها الكاتب بصيغة أخرى آملا بذلك إحراج الصف الإسلامي .
العَلمانية أو اللادينية أو اللائكية هي مصطلحات ظهرت في أوربا ، منذ عصر الأنوار ، حيث تحرر المسيحيون من نير الدين و عقال المسيحية المتزمتة المحرفة ؛ ربما كانوا على حق ، لأن المسيحية أرادت خلق دولة دينية تحكم باسم الله كأنها ظل الله في الأرض ، تنكر حقائق العقل و المنطق ، ترتاب و تشك في كون المرأة كائن له روح ، لا تعترف بغرائز و شهواته و تستقذرها و تكبتها ؛ و بذلك تكون مُعاِرضة للفطرة البشرية ، مثلا الغريزة الجنسية : الحل الأوفق لدى المسيحية المحرفة هو عدم الزواج لأنه من رجس الشيطان و عمل الحيوان !! وبعد هذه التجربة المريرة من تسلط المسيحية و الكنيسة على الناس و تعذيبها لعلمائهم ، حيث اعتبرت العلم خرافة فأعدمت جاليلوا لأنه كشف حقيقة علمية محضة وهي أن الأرض تدور !؟ و غيره من العلماء ... و بعد هذه المحنة من الديكتاتورية الكَنسية ، تنادت أصوات للقطع مع الماضي و الانقلاب على الكنيسة و فتح المجال للعلم و العلماء .. و بذلك ابتعد الناس عن المسيحية إلى أبعد مدى متَوَغِّلين في غابة العلم فصار العلم هو الحياة وصارت الحياة هي العلم .. و بذلك أيضا تقدموا و تطوروا و ابتعدوا عن دينهم ؛ فظهرت مفاهيم العلمانية و اللادينية و العقلانية .. و لكن رغم التطور و التقدم الذي نتج عن النأي عن الدين المسيحي المُحَرَّف و إيجابياته، فإن له انعكاسات مُهوِلة و أكبر ألا و هي التجرد من القيم و الأخلاق و العيش في فراغ روحي قاتم ... فأصبح الناس ـ العلمانيون الجدد ـ أشبه بغَريقين نجوا من سفينة تحطمت ، فهُم إن أحسنوا السباحة ، كيف يغالبوا البحر و البحر يغالبهم ، و كيف يصارعوا الموج و الموج يصرعهم ؟ إنهم سيظلون يهبطون و يطفون ، دون أن يجدوا شاطئا يَرْسُون عليه ، أو قاربا ينجون به ، حتى تخور قِوَاهم ، و يبتلعهم اليم . هذا حال العلماني الذي هرب من الكنيسة و تعاليمها و عاش حياة فارغة من معنى الحياة ... و لنعد إلى الإسلام ، و كيف أن أذناب و تلامذة علمانيو أوربا أرادوا استنساخ نفس التجربة و تكرارها بتقليد أعمى ، نَسوا أو تَنَاسوْ أن الإسلام دين كامل لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، دين يحث على العلم ولا يعتبره خرافة ( طلب العلم فريضة على كل مسلم و مسلمة ) ، دين كرَّم المرأة أَيَّما تكريم وساواها مع أخيها الرجل ( النساء شقائق الرجال في الأحكام ) ، دين تُحفَظُ فيه الحقوق و الحريات و كرامة الإنسان ( و لقد كرمنا بني آدم )، دين يُحَرِّم الظلم في جميع المستويات ( إني حرَّمْت الظلم على نفسي و جعلته بينكم مُحرَّما ) ، دين يسعى للرُّقي بالأمَم ، دين كَوَّن أرقى حضارة غيرت مجرى التاريخ .. رغم كل أوصاف هذا الدين الحنيف و المنهج القويم و الشرع الحكيم و تناقضها التام مع سمات المسيحية المتزمتة ، إلا أن المُسْتوردون و المُقَلِّدون الذين يدَّعُون العقلانية ،غاب عنهم عقلهم و نسوا أن الإسلام دين العلم والعقل و أنه شَْرع الكامل القدير ـ جل و علا ـ في الحياة و ناموسه القرآن ؛ هذا الكتاب المُحْكم التنزيل المُكْتظ بتشريعات و توجيهات في شتى مناحي الحياة ، بفضل اللالتزام بها انْتُشِلت الحضارة الإنسانية من وهدة التخلف و الركود .لكن رغم ما حققه هذا المنهج القويم ـ منهج الله تعالى ـ من تقدم و ازدهار حضاري سابق لأوانه من حيث الأخلاق و القيم ، و انتظام العبادات ، و العلم و المعرفة .. فالمستوردون كما أسلفنا الذين ذابوا في الحضارة الغربية و انبهروا بجميلها و قبيحها ، أرادوا سُمُوَّ ما يسمى بالشرعية الدولية و المواثيق الدولية على الإسلام ـ شرع الله ـ . و هم الذين يزعمون أيضا التقدم و الحداثة ، تناسوا أنهم بعلمانيتهم تلك رجعيون يتقهقرون و يَحِنُّون إلى عهود ''الرومانية '' : ما لله لله و ما لقيصر لقيصر . '' و يتذرع العلمانيون بتعريف العلمانية بأنها فصل بين الدين و السياسة فقط ! لكن ما يُقال ما هو إلا شجرة تُخْفي وراءها غابة كبيرة .. فحقيقة العلمانية كما عرَّفها القُطب الإسلامي البارز ـ رحمه الله ـ عبد الوهاب المسيري : الذي كان في بداية حياته يدافع باستماتة عن الأطروحة العلمانية ثم استحال إلى نور الله ليمتشق قلمه و يفَنِّد كتاباته السابقة و يدافع عن الحل الإسلامي .. قَسَّم مفهوم العلمانية إلى مستَويَيْن الأول : فصل الدين عن السياسة أو عن الدولة و بالتالي تحكيم قوانين وضعية مُعاِرضة لناموس المسلمين القرآن الكريم ، من مواثيق دولية التي يخالف بعضها أحكام الإسلام مثلا في الإرث و نظام الأسرة و المعاملات الاقتصادية و الحدود ... المستوى الثاني : و هو المفهوم الكلي الشمولي للعلمانية الذي يتجلى في النأي بالدين عن الحياة أي حصر الدين في المساجد و الصلاة و الصيام و بعد القيام بالعبادات اِسرِق من شئت ، اِكذب ، زوِّر .. المهم قُم بجميع الآثام فالدين في المسجد فقط ... من هذا المنطلق الإسلام يختلف جوهريا مع الأطروحة العلمانية فهما ضدان لا يلتقيان ، فالمسلم بإحساسه بمراقبة الله ـ عز و جل ـ له لا يمكن بتاتا أن يسرق أو يكذب أو يزَوِّر لأنه يخاف يوما كان شره مستطيرا. أما العلماني فهل سيحاسب أمام القيم الكونية التي يتذرع بها أثناء إنجازعمل معين ؟ و هل ستقيه من عذاب يوم يشيب لِهَوله الِولدان ؟
ثانيا ، ننتقل إلى السيرورة التاريخية التي عرفها مفهوم " الديمقراطية" منذ ظهورها باليونان القديمة ؛ ترجع لفظة '' الديمقراطية '' اللاتينية من حيث الاشتقاق ، إلى اللفظتين اليونانيتين و تعني الشعب ، و كراتين تعني الحكم . و تدل على نظام سياسي ، يرى أن السيادة تنبثق من مجموع مواطني بلد ما ، و من إرادتهم الحرة . و يمكن هذا النظام كل مواطن من التعبير عن آرائه في قضايا الشأن العام .
عرف مفهوم الديمقراطية تطورا و كل مكون سياسي اجتهد في تطويره لهذا المفهوم فخلص الغرب إلى مفهوم جديد و هو ما عبر عنه الكاتب في قوله ( احترام الإختلاف والحريات وعلى رأسها حرية المعتقد قبل كل شيء ) . كما أن رواد الفكر في العالم الإسلامي كان لهم حظهم في فهم الديمقراطية حسب عقيدتهم و شريعتهم . فهل من الواجب أن نكون دائما تبعيين للغرب في مفاهيمه حتى نُبرَّأ من الاتهامات , أو حتى نمارس الديمقراطية الحقة ؟
المسلمون أخذوا الديمقراطية على أنها فلسفة للحكم و التداول على السلطة ، تجسد مفهوم '' الدولة الأمة '' بشكل أوضح . أما ما يتعلق بالحريات و الحقوق فلا أحد يزايد في ذلك على شرع رب العالمين ؛ الله سبحانه و تعالى خلق الإنسان في هذا الكون و سخره كل ما فيه باعتبار هذا الإنسان مستخلف ليس إلا في أرجاء المعمور ، هذا الاستخلاف يقتضي أن يكون له ضوابط و حدود كي لا يفسد التوازن الذي خلقه الله في الوجود . و بذلك وهب الخالق عزوجل للإنسان جميع حرياته و حقوقه كي يمارس المهمة الجليلة التي وكَّله بها ، كما حرّم عيه أمورا أخرى عَلِم جَلَّ شأنه أنها ضرر لهذا المخلوق و مفسدة على حياته و دنياه و أخراه. و بالتالي فجميع الحقوق و الحريات التي تتغنى بها '' المواثيق الدولية '' أو المجسدة ضمن المفهوم الغربي للديمقراطية المعقولة منها و الموافقة للفطرة السوية ، مكفولة في شرع رب العالمين و دين الإسلام العظيم ، أما الحقوق التي تكرس '' الإيباحية '' و خلخلة التوازن القائم في الكون فلا مكان لها بين شرع العليم بخفايا النفوس .
أما حرية المعتقد التي يثير عليها الملاحدة زوابع و توابع نظرا لتخفيهم عن أنظار المجتمع في كل بلاد الإسلام بعد أن علموا أن المجتمع المسلم يستنكر المجاهرة بهذا الشذوذ الفكري . حرية المعتقد لا تحتاج منا الكثير للقول بأنها من صميم شرع رب العالمين . فيكفينا الرجوع إلى أحد عمالقة و فطاحلة رواد الفكر الإسلامي '' الشيخ راشد الغنوشي '' و كتابه '' مقاربات في العَلمانية و المجتمع المدني '' ، أورد فيه فقرة خاصة عن حرية المعتقد و أهم ما جاء فيها :
حرية العقيدة في الإسلام هي أساس الحريات و الحقوق ، و الأصل العام في هذا الصدد مبدأ حرية الاعتقاد الذي قطعت به بشكل حاسم آية ( لا إكراه في الدين ) من سورة البقرة ، و يترتب على ذلك حرية الإنسان في اختيار عقيدته و ممارستها ، و الدعوة إليها . و يترتب على ذلك في المجتمع الإسلامي القبول بالتعدد الديني و الثقافي و السياسي من باب الأولى ، فالدولة الإسلامية عبر التاريخ الإسلامي ، و ابتداء بدولة المدينة عرفت تعدد الأديان و اعترفت بها ، و أعطتها الحماية الحماية الضرورية .
بينما ظل الغرب في ظلماته قرونا طويلة يخوض حروبا دينية طاحنة ، إلى أن عرف عبر المسلمين فضيلة التسامح الديني ، و أقر على نحو محتشم مبدأ الحرية الدينية ، و إن كان عمق ذلك لا يزال محدودا في الثقافة الغربية التي لم تعترف بالآخر إلا أن يكون من جنس العائلة كما هو شأن الأحزاب الكبرى في الديمقراطيات ، أما الآخر المختلف دينا و حضارة و لونا فلا يزال منكورا ، و شاهد ذلك ما تتعرض له الأقليات الإسلامية في فرنسا و ألمانيا ، ناهيك عن البوسنة ، ليس إلا تعبيرا عن طغيان نزوعات المركزية الغربية ، و ادعاء احتكار الحق و النموذج الحضاري الأمثل .
على مثل هذه الخلفية الإيديولوجية شنت أوربا حروبها الصليبية و الاستعمارية ضد الحضارات و الأعراق و الديانات الأخرى ، و استمرت تنهب موارد العالم تاركة ملايين من الأطفال في العالم يقضون جوعا و مرضا بعد أن تصحرت أراضيهم ، و نُهبت مواردهم ، و شُوهت أو دمرت ثقافاتهم لحساب قلة من المثقفين في الغرب.
يوسف
يا متنوروا هذا االوطن الظلام و الرجعية و التخلف يزحفون فلتتحملوا مسؤوليتكم التاريخية