محمد ابجطيط
توطئة.
قضية المرأة في الإسلام هي إحدى القضايا التي أثار حولها المستشرقون والمبشرون الكثير من الشبهات قديماً، وما زالت تُطرح في عصرنا الحاضر؛ من طرف خصوم الإسلام على اختلاف ألسنتهم وألوانهم؛ مُستدلين بآية القوامة، الواردة في سورة النساء، على أن المرأة في الإسلام مسلوبة الحقوق، ومظلومة من طرف الرجل الذي يُمارس عليها تسلطه وجبروته، استنادًا منه لآية القوامة هذه؛ كما يَزعمون!. كما لا يَفوتُنا، في البداية، أن ننبه إلى أن ثمة بعض التفسيرات، في تراثنا الإسلامي نفسه، بَعيدة عن مراد الله عز وجل؛ ذلك لأنها استندت إلى أمور لا تنسجم مع ضوابط الاستدلال لدى علماء الشريعة (مثل: الإسرائيليات - ما كان عليه حال المرأة قديمًا قبل الإسلام -الأعراف المجتمعية الفاسدة، والمتعارضة مع نصوص الشريعة ومقاصدها- الفهوم الشخصية والاجتهادات الفردانية...).
وعليه، فإننا نقدم هذه الدراسة، بمناسبة اليوم الأممي للمرأة الذي يصادف الثامن من شهر مارس من كل عام، لننفض الغبار عن مفهوم القوامة في شريعتنا الغراء، وتبيان المعنى الصحيح لها، بعيداً عن "تحريف الغاليين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" على حد تعبير الحديث النبوي الشريف.
مفهوم القوامة في اصطلاح المفسرين:
لعل أول مَن عُني بهذا الموضوع، وتولى تبيان مفهوم القوامة في الشريعة الإسلامية، هم علماء التفسير، الذين انبَروا لمهمة تبيان مراد الله عز وجل من كلامه؛ لما يَتوفرونَ عليه من القدرات المعرفية، والمؤهلات العلمية، التي تخول لهم ممارسة هذه المهمة، لاسيما وأنَّ معظمَهم كانوا موسوعيين ومتمكنين في علوم الشريعة. ومن هنا، فقد كانت معظم اجتهاداتهم، في هذا المجال، نابعة من روح الشريعة، ومستندة إلى نصوص الوحيَيْن.
وسنحاول، في هذه الدراسة، أن نتتبَّعَ بعض هذه الاجتهادات التفسيرية، التي رامت القبض على مفهوم القوامة في الشريعة الإسلامية، وتبيان مشمولاتها، ومبرراتها... لنقدّم في النهاية صورة عن مفهومها الصحيح، الذي يَتفق مع الأصل، ويُوافق العصر؛ مفنِّدين بذلك ما يَدعيه خصوم الإسلام الجدد اليوم.
إذا رجعنا إلى تفسير ابن جرير الطبري، سنجدُ المؤلف قد لامَسَ دلالة هذا المفهوم القرآني حين فسَّرَ الآية الكريمة:"الرجَالُ قَوامُونَ عَلَى النسَاء" بقوله:"الرجال أهل قيام على نسائهم في تأديبهن، والأخذ على أيديهن، فيما يَجبُ عليهن لله ولأنفسهم" .
أما القرطبي، فيقول مُعلقًا على الآية: "أي يَقومون بالنفقة عليهن، والذَّبِّ عنهن؛ وأيضًا فإن فيهم الحكام والأمراء ومن يَغزو، وليس ذلك في النساء" .ثم يُبَيِّنُ مفهوم القوامة، من وجهة نظره، قائلا: "أنه يَقومَ بتدبيرها، وتأديبها، وإمساكها في بيتها، ومنعِها من البروز، وأن عليها طاعتَه وقبولَ أمره، ما لم تكن معصية" .
كما نجده، يُعلل هذه القوامة، مُستندًا إلى كلام أهل العلم، قائلا: "إن الرجالَ لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير؛ فجُعل لهم حق القيام عليهنَّ لذلك. وقيل: للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء؛ لأن طبعَ الرجال، غلبَ عليه الحرارة واليبوسة، فيكون فيه قوة وشدّة، وطبع النساء غلبَ عليه الرطوبة والبرودة، فيكون فيه معنى اللين والضعف؛ فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك، وبقوله تعالى: "وَبِمَا أَنْفَقوا مِنْ أَموَالِهِم" .
هذا، ويَستدل ابن كثير بقوله تعالى: "وللرجال عليهن درجة" على آية القوامة، فيقول: أي في الفضيلة في الخلُق، والمنزلة، وطاعة الأمر، والإنفاق، والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا والآخرة؛ كما قال تعالى: " الرجال قوامون على النساء بِمَا فَضل اللَّه بَعْضَهم عَلَى بَعْض وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَموالِهم".
أما المتأخرون، فنجدهم قد أكدوا، بدورهم، على تلك الموجبات التي حَددت قوامة الرجل على المرأة، وحصروها في سببين،هما: وجود مقومات جسدية خلقية، ووجوب الإنفاق.
يقول ابن عجيبة عند تفسير قوله تعالى: "الرجَالُ قَوامُونَ على النسَاء" أي: "قائمون عليهن قيام الولاة على الرعية، في التأديب والإنفاق والتعليم؛ ذلك لأمرين:أحدهما وهبي، والآخر كسبي؛ فالوهبي: هو تفضيل الله لهم على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوة في الأعمال والطاعات؛ ولذلك خصوا بالنبوة والإمامة، والولاية، وإقامة الشعائر، والشهادة، في مجامع القضايا، ووجوب الجهاد، والجمعة، ونحوهما، والتعصيب، وزيادة السهم في الميراث، والاستبداد بالطلاق. والكسبي هو:"بِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَموالِهُم"في مهورهن، ونَفقتهن، وكِسوتهن" .
كما نجد المعاصرين ينبهون، في تفاسيرهم، على بعض الفهوم التي تسَرَّبت إلى عقول الناس، أو صدرت من المفسرين القدامى أنفسهم؛ ممّا تلقفه خصوم الإسلام، اليومَ. فنجد الإمام الشعراوي، مثلا، يُنبه على: أن آية القوامة، ليست مقصورة على الرجل وزوجه -كما فَسَّرَها بعضهم-بدليل أن الآية تكلمت عن مطلق رجال ومطلق نساء؛ فالأبُ قوَّام على البنات، والأخ على أخواته... وبما أن القيامَ، في نظره، يكونُ على أمر البنات والأخوات والأمهات، فلا يَصح أن تأخذ "قوام" على أنها السيطرة؛ لأن مهمَّة القيام جاءت للرجل بمشقة، وهي مهمة صعبة، عليه أن يبالغ في القيام على أمر من يَتولى شؤونهن . فقيام الرجل على المرأة، يَعني أنه "رئيسها، وكبيرها، والحاكم عليها، ومؤدبها إذا اعوجت. وهو القائم عليها بالحماية، والرعاية، فعليه الجهاد دونها، وله من الميراث ضعف نصيبها؛ لأنه هو المكلف بالنفقة عليها" . فهو، إذا، "قيامُ الحفظ والدفاع، وقيام الاكتساب والإنتاج المالي" لا قيام السيطرة والتسلط والإلغاء والغلبة والتجبُّر؛ كما فهم الخصوم والمشككون، وكما رَوَّج المعاندون والمستشرقون. إنه قيامٌ تقتضيه مؤسسة الأسرة المسلمة تنظيميّا؛ إذ لا يُمكن أن تسيرَ المؤسسة بلا مدير يُديرها، وبلا مسؤول يُسيِّرها.
إن هذه القوامة ليس من شأنها، بتاتا، إلغاء شخصية المرأة في البيت ولا في المجتمع الإنساني، ولا إلغاء وضعها "المدني".وإنما هي وظيفة، داخل كيان الأسرة، لإدارة هذه المؤسسة وصيانتها وحمايتها.وقد حدد الإسلام صفة قوامة الرجل، وما يصاحبها من عطف ورعاية وصيانة وحماية، وتكليف في نفسه وماله، وآداب في سلوكه مع زوجه وعياله .
ملاحظات حول التعاريف السابقة:
- من المُلاحَظ أن تعاريفَ القدماء، تنصرف للتأكيد على جملة من الأمور، التي اعتبروها داخلة في مفهوم القوامة؛ استنادًا منهم لنصوص أخرى من القرآن والحديث، وغيرهما من مصادر التشريع، أهمّها: النفقة، والرعاية، والأمر بالطاعة، والتأديب.
بَيْد أنه لا ينبغي، في نظرنا، أن نتجاهل طبيعة البيئة السائدة، والأعراف المجتمعية، وقت تقديم هذه الاجتهادات التفسيرية لمفهوم القوامة، والتي من شأنها أن توجه هذه المقولات في إطار النص، وعموم الأدلة الشرعية؛ ممَّا يُمكنُ أن يُتجاوز في عصر آخر، يَستدعي اجتهادًا فقهيّا رصينًا، ومواكبًا للنوازل والمستجدات في حياة الناس.
- إذا كان كثير من المفسرين، على اختلاف أزمنتهم ومناهجهم في تفسير القرآن الكريم، قد اعتمدوا -كما لاحظنا من خلال أقوالهم المستعرضة-إلى جانب شرحهم لمعنى كلمة "القوامة"، على موجبات القوامة ومبرراتها... فإننا نرى بأن الحاجة ماسة، هاهنا، إلى أن نميز بين هذه الموجبات، ونصنفها إلى:
1-موجبات تستند لنص صحيح السند أو معقول أو عادة؛ كالنفقة، والمهر، ووجود مقومات جسدية خلقية عند الرجال تخول لهم أن يتحملوا هذه المسؤولية الكبيرة؛ كما أشار إلى ذلك القرطبي في كلامه الذي أوردناه.
2-موجبات لاتستند إلى شيء من ذلك، وجاءت بعض عبارات المفسرين فضفاضة، إن لم نقل مسيئة للمرأة. وهذه الأخيرة، هي التي تلقفها المشككون، واتخذوها مطية لتحقيق مآربهم وأغراضهم؛ مثل ما نجد عند ابن كثير في مقولته السابقة: "الفضيلة في الخلق، والمنزلة، والفضل في الدنيا والآخرة، ثم الولاية والحكم، ونقص العقل والدين"،وعند القرطبي في تعليل آية القوامة للرجل، وعند غيرهما من المفسرين القدامى.فهذه الأوصاف وغيرها،هي التي استغلها الخصوم والمشككون، ليبثوا من خلالها سمومهم؛ فاتخذوها جسرًا للطعن في الإسلام، وآي القرآن. في حين أن هذه اجتهادات من أناس لا تنفك عنهم صفة البشرية، يصيبون ويخطئون.
- يَتضِح، من خلال ما سبق، أن تعاريف المفسرين المعاصرين، والمفكرين الإسلاميين، تَنصَرِف لتصحيح تلك الفهوم الخاطئة، وتجيب على شبهة مفادها أن القوامة، في الإسلام، فيها ظلم للمرأة؛ لأنها تمنح للرجل الحق في السيطرة على المرأة، وإلغاء شخصيتها، والتضييق على حرياتها. ومن هنا، فقد جاءت تعاريفهم تؤكد على أن مسألة القوامة، مسألة خصوصيات ليس إلا.وقد وُضِعَت في يد الرجل، وجُعلت من اختصاصه؛ لأن الحياة الزوجية حياة اجتماعية، ولابد لكل اجتماع من رئيس؛ لأن المجتمعين تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يُرجع إليه عند الاختلاف، لكي لا يَعمل كل فرد ضد الآخر، فتنفصم عروة الوحدة الجامعة، ويَختل النظام .
ختاماً:
في الختام نخرج بحصيلة مفادها: أن القوامة ،هي تلك الرياسة التي يَتصرف فيها المرؤوس بإرادته واختياره. وليس معناها أن يكون المرؤوسُ مقهوراً ومسلوبَ الإرادة، لا يَعمل عملاً إلا ما يوجهه إليه رئيسه . أما السيطرة التي فهمها البعض من القوامة، فإنها تتعارض مع ما أوصى به القرآن الكريم، من العمل على احترام المرأة، وبذل الجهد لتوفير العناية والرحمة والإحسان إليها. والإسلام ينظر للزوجة على أنها ركيزة من ركائز إسعاد المجتمع، ومنبع من منابع الهدوء والاستقرار والأمن وراحة البال؛ كما قال سبحانه: "ومن آيَاته أَن خَلقَ لَكُم مِنأَنفسِكُم أَزواجا لتسْكُنوا إليها وَجَعلَ بَينَكُم مَودةً ورحْمَة إن في ذَلك لايَاتٍ لِقوم يتفَكرُون" .