عبد الكريــم أمجـــوض
عادت إلى الواجهة مؤخرا قضية زواج القاصرات، حيث تم اعتبار ذلك بمثابة اغتصاب "تحت مظلة القانون" لطفولتهن، وسرقة موصوفة لبراءتهن، وتمت الدعوة بإلحاح وإلحاف إلى إلغاء الفصلين المشؤومين 20 و 21 من مدونة الأسرة، باعتبارهما أساس معاناة كثير من القاصرات اللائي يجبرن على الزواج الذي هو أقرب إلى الاغتصاب.
غير أن الملاحظ هو أن ما يجب الانتباه إليه في هذا الجانب ليس هو الجانب القانوني "التقني" فقط، بل لا بد من استحضار عوامل أخرى هي التي تدفع إلى الإقدام على هذا الزواج، ثم لا بد أن يتم التفكير مليا والتساؤل بهدوء عما إذا كانت لهؤلاء القاصرات طفولة، أصلا، حتى تغتصب منهن؟
1- بالنسبة للعوامل:
يمكن إجمال عوامل تزويج القاصرات فيما يلي:
- يتم تسجيل نسبة كبيرة من هذا النوع من الزيجات في المناطق النائية، وهذا يحيلنا إلى استكناه الظروف المعيشية في هاته المناطق، والمتمثلة في قسوة الطبيعة، وضيق ذات اليد، وغياب البنية التحتية، والمرافق الصحية والتعليمية، وانتشار ثقافة بدوية وأعراف راسخة، مع هيمنة فكرة القبيلة وذوبان الفرد في الجماعة، مما يجعل الفتاة القاصر تحت إمرة العائلة ورقابة الأهل، فهي تابعة منفذة لا مريدة مفكرة.
- تعيش القاصر وسط مجتمع منغلق محدود الأفق، منشغل بالمعيش اليومي، ينتشر فيه داء الأمية ووباء الجهل، وتنخره ثقافة أبيسية ترسخ في أذهان الفتيات أن غاية وجودها هي الظفر بشريك حياتها، فــ"زوج من عود خير من قعــود"، وعن طريق هذا الزوج تتمكن من التتويج بلقب الأمومة، فيلهيها التكاثر عن التربية التي تقتصر على الجانب الجسدي فقط. وهذا الشعور يترسخ في أذهان الفتيات منذ نعومة أظفارهن، إذ لا حديث لنساء القرى في مجالسهن إلا عن زواج فلانة وازدياد مولود جديد عند علانة، حتى صار معيار النجاح لديهن هو الزواج والولادة فيقال عند امتداح شخص: " فلان يعيش في سعادة تامة فقد تَزوجَ وَوَلَدَ"، وهكذا يتشكل لدى الفتيات عقل نمطي يجعلهن، لا شعوريا، يحلمن بتحقيق هذا الإنجاز ؛ فتضع الحناء على يديها ورجليها وتلتحق بالرفيق، فإن رزقت بمولود أو أكثر فتلك غاية الغايات. والمواليد بمثابة النياشين، فكلما كثر الأبناء كان ذلك مؤشرا على حياة زوجية ناجحة وسعيدة، بغض النظر عن التربية والعناية، فالولادة في حد ذاتها إنجاز، أما ما بعدها فالله يتولاه.
- تسكن بعض أولياء الأمور هواجس ووساوس "جاهلية"، فالأولاد بمثابة مشاريع، فالذكور يَدٌ عاملة قادرة على تحقيق دخل مساعد على تكاليف الحياة، كما يستطيعون مساعدة آبائهم في أعمال التسميد والحرث والسقي والحصاد والدرس والبناء والحفر...، إضافة إلى توفرهم على حماية ذاتية لا يخشى منهم العار والشنار، فمهما اقترفوا من موبقات فذلك كله يدخل في عداد البطولات، لأن "الراجل ديما راجل!" بخلاف الإناث اللائي يشكلن منذ الولادة حملا ثقيلا، ماديا ومعنويا؛ فالأول باعتبارهن عاجزات عن الكسب، ومستهلكات بلا جدوى، والثاني باعتبارهن معرضات للتهم، وأي تصرف غير سليم قد تمتد آثاره إلى المس بسمعة العائلة كلها، بل أحيانا قد يصل الأمر إلى قبيلتها، فيكون ذلك عقابا معنويا لكل من له صلة بها.
هذه العوامل، باختصار، تجعل أولياء الأمور، وكذا القاصرات أنفسهن، يندفعن نحو الزواج، ولو قبل سن الرشد، علما أن عامل الزمن لا أثر له عند سكان البوادي.
2- حقيقة الاغتصاب
تنطلق المنظمات النسائية والجمعيات الحقوقية في استهجان زواج القاصرات من دراسات علمية فيزيولوجية ونفسية، وتتخذ من الواقع الحضري الراقي معيارا لمحاربة هاته الظاهرة.
فعلا، لا أحد يجادل في الحقائق العلمية، لأن الفتاة التي تعيش في مجتمع تتوفر فيه جميع وسائل العيش الرغيد، ووسط أسرة تشملها بالحب والعطف جديرة بأن يعتبر زواجها، ولو في سن العشرين، بمثابة اغتصاب لطفولتها؛ فهي تستقبل الحياة في مصحة خاصة وظروف صحية سليمة، فلا يدخل جوفها إلا كل حليب "سَلِيم"، ولا تسمع من الأصوات إلا الرخيم، ولا ترى من الألوان إلا الجميل، ولا تمسها من الأيادي إلا المتسمة باللين، ولا تلبس من الثياب إلا كل رطب مختلف الألوان، وتقضي وقتها بين أحضان دافئة بالحب والحنان، وتحظى برعاية وافرة، ومراقبة طبية دورية، حتى إذا أتمت حولين، تلتحق بروض الأطفال فتجد معلمة "لطيفة" ظريفة، تُقَبلها صباح مساء، وتُسمِعها أنغام الموسيقى، وتعلمها رقصات الأوبرا، ويتم تعداد أنفاسها ومراقبة حركاتها وسكناتها، ويحتفل بها كل عام، فتشعر بالحياة والسعادة، ويتجدد عنها الشعور كأنها تولد من جديد.
فإذا أتمت السادسة من عمرها التحقت بالمدرسة التي توجد بجوار بيتها، أو يتم نقلها إليه عبر سيارة خاصة أوعامة في أمن وأمان، فتحس أن مهمتها الوحيدة هي التعلم والتمدرس لا غير، فتقبل على دراستها لتتعلم الحساب وقراءة الكتاب، فتلقى كل تشجيع وتنمو مواهبها وقدراتها فتترقى في درجات العلم بنفسية طفولية متزنة، فتجتاز عقبة المراهقة في سلام، حتى تتخرج وهي لا تزال تعيش في أحضان عائلتها، ويعيش معها الجميع أجواء الامتحان، ويساندها الكل في هذا المشوار دون أن تحس يوما أن عليها مسؤولية أخرى غير الدراسة.
ومثل هاته تعتبر طفولتها مغتصبة حتى لو تزوجت في العشرين، لأنها، فعلا، عاشت طفولتها كما يجب، ونهلت من مَعِين الحب والحنان فكان ذلك لها خير مُعِين.
أما بنات المناطق النائية فلم يعشن قط طفولةً حتى تغتصب منهن، لأن الطفولة ليست مرحلة من عمر الإنسان فحسب، بل لا بد أن تصحبها مقومات أساسية كاللعب والشعور بالدفء والحنان وشحذ المهارات والاستمتاع بالحياة، ولذلك فهؤلاء الفتيات القرويات تستقبلهن الحياة بأياد خشنة، ووسط دهليز مظلم، تحيط بها نساء القرية يرددن أهازيج مؤثرة على جهاز السمع، ورائحة البخور تنتشر في كل مكان، تُلَف في قطعة ثوب خشن، وتُسقى من لبن قد تغير طعمه، يسفك عنها دم خروف، فتنمو بشكل طبيعي وتحت رعاية الذي لا ينام، ترتدي ثياب من جاء قبلها، وإن كانت الأولى فتتكفل باللباس نساء الجيران، فإن بلغت سن السادسة، فلا تجد أمامها مدرسة ولا تجد لُعبا بل تكتفي باللعب بالأحجار والتراب، كما لا تستمع إلى الأنغام بل يصم آذانها نباح الكلب ونهيق الحمار وثغاء الأغنام، ورغم صغرها فلا بد أن تقدم للعائلة خدمة حسب طاقتها، فقد ترعى الماعز، وقد تحرس أخاها الصغير، وقد تساعد أمها في جمع الأثاث، بل قد تتحمل مشاق السقي والكنس إن لم يكن في البيت من يتولى تلك الأشغال.
وما إن تصل هاته الفتاة القروية إلى سن الرابعة عشرة حتى تؤدي العمل مضاعفا، فتحمل أخاها على ظهرها موازاة مع القيام بالأعمال التي تقوم بها أمها التي هي بمثابة مدربتها، فتعلمها الطبخ والعجن ووضع الخبز في التنور، وعلف الدواب ونسج الثياب، فتنخرط في العمل الجماعي سواء في البيت أو في الحقل، وتندمج في صفوف الكبيرات، فتُهيأُ لتحمل مسؤولية الأسرة بكاملها، فلا تكاد تصل السادسة عشرة حتى يقال: " إن في بني فلان فتاة بالغة وقادرة على تحمل الأعباء"، فيقبل عليها الخُطاب، وتنتقل إلى "الدار الأخرى" عسى أن تجد فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فلا تتردد في القبول، لأن الزواج بالنسبة لها منقذ من الروتين، وباب يتمنى الجميع أن يحظى إليه بالدخول.
وهكذا نلاحظ أن "الآية معكوسة" في البادية، فاللعب فيها استثناء والعمل قاعدة، ولا مدرسة ولا مصحة ولا ألعاب، ومصاعب الحياة وقسوة الطبيعة تقتل الحب والحنان في قلوب النساء والرجال، مما يجعل طفولة هؤلاء القاصرات منعدمة منذ البداية، وبالتالي فالحديث عن اغتصاب طفولة القاصرات في المناطق النائية لا يتعلق بالفصول القانونية، بل بالإرادة السياسية وحسن التدبير، وتوفير البنيات التحتية والإحساس بالمسؤولية، أما إلغاء النص فما أسهله ! وإن ركزنا على تعديل أو إلغاء النص القانوني فقد نكون كالذين تعطلت حافلتهم، فبدل البحث عن العطب الحقيقي في محرك الحافلة، يعمدون إلى تغيير السائق !
للتواصل مع الكاتب: [email protected]
riham
صدقت أخي و الله، كلامك يدل على إدراكك التام بطبيعة مجتمعنا الحافل بالمتناقضات، و هذه الجمعيات إنما تسعى غلى كسب المال و الشهرة ولو على حساب أعراض بناتها. فو الله ما أجد ما أقوله سوى سحقا لأسحاب السعير، فبطش الله عظيم،أتمنى أن أجد مثل هذه المقالات، فبعضها يبعث على النفور و الاشمئزاز. الخائفة من الله و الراجية عفوه و غفرانه