رضوان زروق
لازالت ظاهرة الشعراء الصعاليك تسترعي الانتباه ، فأميرهم عروة بن الورد أعطى المثال عن أشياء ذات دلالة : لم يكن يسلب الأغنياء * المواطنين * بلغة العصر ، أي الذين كانوا يساعدون الفقراء ، و كان أيضا يجمع المشردين و المتخلى عنهم – و خصوصا أيام القحط – ليكون لهم عونا و معيلا . سنفرد الحديث اليوم عن شخصية أخرى من الأدب الجاهلي : تأبط شرا.
لم أكن في حاجة إلى أدوات المحققين و لم ألجأ لشهود عيان ، و لم أقتبس شيئا من الصحافي بيير بيلمار فيما يخص الجرائم المعقدة. لقد تقدم الجاني بنفسه ، و اعترف بما لم ننسبه إليه.
تأبط شرا ( وهو ثابت بن جابر بن سفيان الفهمي ) من الشعراء الصعاليك الذي قيل عنه :
كان من أعدى العرب ، و أشدهم قوة و بأسا و لو أنه كان ضئيل الجسم ، سئل ذات يوم عما يخيف أعداءه فقال : اسمي ...تأبط شرا.
اعترف بأنه قتل الغول ، و الأكثر من ذلك أنه وصف تفاصيل الحدث و مسرح الجريمة بنفسه : المكان – الزمان – السبب ...فقال في شعر لا يعوزه البيان و التصوير الجميل :
ألاَ مَـنْ مُبْلِـغٌ فِـتْـيَـانَ فَهْـمٍ
بِمَا لاَقَيْـتُ عِنْـدَ رَحَـى بِطَـانِ
بِأَنِّي قَـدْ لَقِيـتُ الغُـولَ تَهْـوِي
بِشُهْبٍ كَالصَّحِيفَـةِ صَحْصَحَـانِ
فَقُلْتُ لَهَـا : كِلاَنـا نِضْـوُ أَيْـنٍ
أَخُو سَفَـرٍ فَخَلِّـي لِـي مَكَانِـي
فَشَـدَّتْ شَـدَّةً نَحْـوِي فَأَهْـوَى
لَهَـا كَفِّـي بِمَصْقُـولٍ يَمَـانِـي
فَأَضْرِبُهَـا بِـلاَ دَهَـشٍ فَخَـرَّتْ
صَـرِيعـاً لِلْيَـدَيْـن وَلِلْـجِـرَانِ
فَقَالَتْ عُـدْ فَقُلْـتُ لَهَـا رُوَيْـداً
مَكَـانَـكِ إنَّنِـي ثَبْـتُ الْجَنَـانِ
فَـلَـمْ أَنْـفَـكَّ مُتَّكِـئاً عَلَيْـهَا
لأنْظُـرَ مُصْبِحـاً مَـاذَا أَتَـانِـي
إِذَا عَـيْـنَـانِ فِـي رَأْسٍ قَبِيـحٍ
كَـرَأْسِ الْهِـرِّ مَشْقُـوقِ اللِّسَـانِ
وَسَاقَـا مُخْـدَجٍ وَشَـوَاةُ كَلْـبٍ
وَثَـوْبٌ مِـنْ عَبَـاءٍ أَوْ شِـنَـانِ
هكذا كانت الحكاية ، التقى تأبط شرا الغول صباحا ، و أرادت استمالته بصوت ناعم لتقضي عليه ، لكنها أخطأت العنوان. انقض عليها بلا رحمة و قتلها ، و وصف لنا شكلها القبيح ( خليط من الحيوانات و صوف ليبعث الرعب في مستمعيه ).
إن الشاعر هنا ، بدون شك يبعث رسالة إلى المجتمع الذي يعيش فيه ، مفادها أن الغول الذي يخيفكم و يعشش في أذهانكم قد مات. هكذا بأسلوب تهكمي و حساسية اجتماعية تستند إلى موقف الشعراء الصعاليك المتمردين على قواعد المجتمع القبلي .
أيها الناس إني أزف إليكم خبر مقتل الغول ، ولكي أزيدكم أمانا و اطمئنانا فقد كان مقتله على يدي . لا تخافوه بعد اليوم و لا تخيفوا به أولادكم لكي يناموا أو يطيعوكم في أمر ما.
أظن أن وسائل الإعلام العالمية و الوطنية و حتى المحلية قد خذلتنا مرة أخرى ، ولم تزف لنا نحن أيضا هذا الخبر .إننا لازلنا نخاف الغول ونخيف أولادنا به و منه.
فرنسيس بيكون ( 1561 – 1626 )
يؤكد – هو الآخر – على ضرورة تحطيم أوهام العقل ، و يقسم الأوهام إلى أربعة :
أوهام القبيلة – أوهام الكهف – أوهام السوق – أوهام المسرح .
يشبه بيكون العقل بالمرآة ( تنظف لتعكس الصورة الواضحة ) ، و العقل يجب أن يحطم الأوهام : المرتبطة بالجنس البشري عموما ، و الكهف الشخصي الذي يقبع فيه كل واحد منا ، و ضبط اللغة و التواصل بدل مصادرة الآراء و التدجيل ، و التحرر من سطوة الماضي...ماذا أنجزنا نحن ؟
و تستمر الحكاية ، و يبقى الغول أو شبحه راسخا في ثقافتنا ، نمرره بصدق إلى الأجيال اللاحقة ، و نبقى سجناء أوهامنا الجميلة .
المستحيلات ثلاثة كما عرفها العرب قديما : الغول ، العنقاء و الخل الوفي . المستحيل الأول و الثاني مفروغ منهما ، أما الخل الوفي ففي المسألة نظر.
.................................................................................دمتم طيبين