رشيد نيني
قبل أن ينصرف الشيخ الفيزازي ليلة الثلاثاء إلى غرفته في الفندق لكي يستريح، بعد مشاركته في ندوة «واقع ومآل الاعتقال السياسي في المغرب» التي نظمتها مجلة «أوال» التي تصدرها «مجموعة المساء»، قال لي هامسا إنه يريدني لدقيقتين في أمر خاص. فجلسنا في قاعة جانبية، برفقة السياسيين ضيوف الندوة الكرام الذين أطلق سراحهم مؤخرا، وقال لي إن هناك جريدة اتصلت به وسألته حول الحوار الذي أجرته «الشرق الأوسط» معه وكان سببا في محاكمته والقضاء بسجنه لثلاثين سنة. وأضاف أن الصحافي سأله حول ما كنت قد كتبته في هذا العمود قبل أسابيع من إطلاق سراح الشيخ الفيزازي، من كون هذا الأخير لم يحكم عليه بالسجن بسبب الحوار الذي نشر بل بسبب ما لم ينشر من الحوار المسجل والذي انتهى بين يدي الجنرال العنيكري.
وسألني الشيخ هل ما كتبته صحيح بالفعل. فقلت له إن معلوماتي دقيقة، فشريط الحوار الذي أجرته معه «الشرق الأوسط» آنذاك وصل بين يدي الجنرال العنيكري. وحتى إذا كان الشيخ قد حوكم على مضامين الحوار الذي نشر، فلا أحد يستطيع أن يجزم بأن الحوار المسجل لم يتم التلاعب بمقاطعه لإقناع جهات أمنية بخطورة تصريحات الفيزازي، خصوصا إذا عرفنا مدى قدرات أجهزة المخابرات على فبركة الأدلة والتلاعب بالصور والتصريحات الصوتية.
جانب من الجواب عن هذا اللغز يمكن أن نعثر عليه في التدخل العميق والنبيه الذي أدلى به الدكتور محمد ضريف في ندوة «أوال» عندما قال إن قرار اعتقال الشيخ الفيزازي كان يجب أن ينفذ سنة 2002، لكنه تأخر إلى حدود سنة 2003، بمعنى أن قرار الاعتقال كان جاهزا ولم يكن ينقص سوى التهمة. وبحكم ارتباط صحافيين عاملين في جريدة «الشرق الأوسط» آنذاك بالأجهزة الأمنية، مما يفسر تحولها في تلك الفترة إلى منبر لتصريف وجهات النظر الرسمية والأمنية حول الملفات الحساسة، فقد جاءت فكرة الحوار لكي تكون فخا منصوبا بعناية.
الآن، مرت ثمان سنوات على اعتقال الشيخ الفيزازي، وخرج اليوم لكي يعانق حريته ويعود إلى أهله وأبنائه، كما خرج المعتقلون السياسيون الخمسة لكي يساهموا، من مواقعهم الفكرية والسياسية، في الانتقال بالمغرب من دولة الخوف والأشخاص إلى دولة الأمن والمؤسسات. لكن دروس هذا الخروج يجب أن تستنبط من طرف ثلاث مؤسسات تتقاسم المسؤولية في «صناعة» ملف الاعتقال السياسي في العهد الجديد:
هناك أولا مسؤولية المؤسسة الأمنية، وهناك ثانيا مسؤولية المؤسسة القضائية، وهناك ثالثا مسؤولية المؤسسات الإعلامية.
وإذا كنا قد تحدثنا طويلا عن الجرائم التي اقترفتها المؤسستان الأمنية والقضائية في حق هؤلاء المعتقلين الذين لم يستفيدوا من شروط المحاكمة العادلة، فإننا بالمقابل لم نتحدث عن الدور الخطير الذي مارسته بعض المنابر الإعلامية في تزيين الوجه البشع لهذه الجرائم وإضفاء طابع المشروعية عليها بذريعة حماية الأمن العام.
إننا هنا لازلنا نتذكر الافتتاحيات التي كان يكتبها الخليل الهاشمي الإدريسي، الذي انتخبه زملاؤه في فيدرالية الناشرين للمرة الثانية رئيسا عليهم، والتي كان يثني فيها على احترافية ومهنية الجنرال العنيكري في تدبير ملف الاعتقال السياسي.
كما لازلنا نتذكر المقالات اليومية التي كانت تنشرها جريدة «الأحداث المغربية» والتي كانت تطالب فيها بإنزال أشد العقاب بمتهمين لازالوا قيد التحقيق. هذا دون أن نتحدث عن جرائد وزير الاتصال، الأستاذ المحامي يا حسرة، التي أدانت المعتقلين السياسيين الستة منذ اليوم الأول لاعتقالهم بنشرها لتصريح وزيرها في الاتصال الأستاذ الناصري الذي ألصق بالمعتقلين تهمة الإرهاب حتى قبل أن يوجهها إليهم قاضي التحقيق.
وإذا عدنا إلى أرشيف هذه الجريدة خلال فترة الاعتقالات التي تلت تفجيرات الدار البيضاء وقبلها بقليل، سنعثر فيها، إلى جانب أرشيف افتتاحيات «تيل كيل» ونشرات أخبار القناة الثانية على عهد نور الدين الصايل، على ما يتناغم بشكل بديع مع الخطة الأمنية التي رسمها الجنرال العنيكري لاستئصال ما كان يقدمه كخطر إسلامي يهدد أمن الملك والشعب. وهو الخطاب نفسه الذي تبناه إلياس العماري عندما قال في آخر خرجاته الإعلامية في «الأيام» إنه جندي مجند لمحاربة أسلمة المجتمع المغربي.
وهاهو السيناريو نفسه تكرره جريدة «الصباح» التي تنشر هذه الأيام «حلقات» من المحاضر التي أمدها بها «عبد الحق الخيام»، رئيس الفرقة الوطنية، والتي تتهم عميد الأمن الإقليمي الدكتور «محمد جلماد» بالتورط في شبكة لتجارة المخدرات، علما بأن المحكمة لم تشرع بعد في النظر في حيثيات هذه القضية.
هكذا أصبح العميد «متورطا» و«مدانا» بجرائم الارتشاء والفساد المالي وتكوين عصابة إجرامية، حتى دون أن يقف أمام القاضي في المحكمة.
إن تقنية هؤلاء «السلفيين الأمنيين» لم تتغير، فهم يعملون على تسريب محاضر الفرقة الوطنية وروايات الشرطة القضائية إلى الجرائد التي يتحكمون في خطوط تحريرها، للتأثير على القضاء وترسيخ رواية واحدة هي الرواية الأمنية، حتى إذا وقف هؤلاء المتهمون أمام القضاء يكون سهلا على القضاة أن يرموهم في السجون لسنوات طويلة، لأن الرأي العام تم تغليطه من طرف الصحافة المجندة خصيصا لهذه المهمة.
وهذه الكتيبة الإعلامية لديها سوابق كثيرة في هذا المجال، لعل أشهرها على الإطلاق هي مشاركتها إلى جانب إدريس البصري وقضاته في حملة التطهير التي لعبت فيها الصحافة التابعة للأجهزة الأمنية دورا حاسما.
ويتذكر أحد الزملاء الصحافيين كيف أن أحد رؤسائه كان يتلقى الحقائب المالية كل صباح من رجال أعمال يرغبون في عدم نشر أسمائهم وأسماء شركاتهم حتى لا ينتبه إليهم قضاة «محاكم التفتيش» ورجال المخابرات الذين استغلوا الفرصة لابتزاز الناس وتصفية الحساب معهم تحت ذريعة تطهير البلاد من الفساد المالي.
ولذلك فليس غريبا أن يكون هؤلاء الذين جندتهم المخابرات لتلميع وجه حملة التطهير البشع بمقالاتهم وافتتاحياتهم المكتوبة تحت الطلب، هم أنفسهم الذين قادوا حملة لتلميع الوجه البشع لمسلسل الاعتقالات والاختطافات والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي استهدفت السلفيين وشيوخهم والمعتقلين السياسيين.
إن الدور الذي لعبه ويلعبه «شهود الزور» هؤلاء في تضليل الرأي العام وإخفاء الحقيقة وتشويه معالمها لهو أخطر بكثير من الدور الذي تلعبه الأجهزة الأمنية والقضائية، لأن المفروض في الصحافة أن تبحث عن الحقيقة وتعممها على القراء، لا أن تتستر عليها وتزيفها وتنتصر للباطل على حسابها.
إنه لمن المثير للدهشة أن نقرأ هذه الأيام في بعض المنابر الصحفية مقالات نارية حول استدعاء «عبد الحنين بنعلو»، المدير السابق للمكتب الوطني للمطارات، ومدير ديوانه «برق الليل» للتحقيق حول التهم الموجهة إليهما في تقارير المجلس الأعلى للحسابات.
ومنبع الدهشة هو أن المنابر نفسها كانت قد فتحت صفحاتها قبل أشهر للدفاع عن هذين المديرين وبقية المتهمين معهما في الملف، وفتحت أمامهم المجال للسخرية من مطالبتنا للقضاء بفتح تحقيق في الاتهامات التي وجهها تقرير الميداوي إليهم.
اليوم بعدما اتضح أن العدالة ستأخذ مجراها في هذا الملف وانقلب السحر على الساحر، سارعت هذه المنابر إلى التخلي عن «بنعلو» و«برق الليل»، بل إنها، في إطار التكفير عن عقدة الذنب تجاه القراء، بادرت إلى صلبهما على أعمدة صفحاتها الأولى، مستغلة أمواج إذاعتها الخاصة للتبشير ببدء عهد المحاسبة الذي سينتهي بإرسال المفسدين إلى السجون.
ولكي يخلط شهود الزور الأوراق في ذهن الرأي العام، فإنهم يقودون حملات منظمة لتشويه سمعة الصحافة المستقلة التي تقف إلى جانب البحث عن الحقيقة، مهما كلفها ذلك من مضايقات، حتى يتحول شاهد الزور إلى شاهد حق وشاهد الحق إلى شاهد زور.
من سوء حظ «محامي الشيطان» هؤلاء أن المغاربة لم يعد من السهل تغليطهم، فالتجارب والمحن وتعاقب الوجوه والأشخاص علمتهم ألا يلدغوا من الجحر ذاته مرتين.
ولهذا السبب بالضبط فقد أعرضوا بشكل جماعي عن منابر خبراء التجميل هؤلاء الذين تخصصوا في «تجبيد» الوجه المترهل للأجهزة الأمنية، واختاروا المنابر الأكثر قربا من مشاغلهم ومشاكلهم والأكثر إنصاتا لنبضهم.
نعتقد، صادقين، أن مهمتنا كصحافيين ليست هي أن نقول الأشياء التي تريد السلطة أن تسمعها، بل مهمتنا هي أن نقول الأشياء التي يجب على السلطة أن تسمعها.
أن يعجبها ما نقوله أو أن يغضبها لا يدخل ضمن اهتماماتنا ومشاغلنا، بل كل ما يؤرقنا هو أن نقول ما نعتقد أنه سيفيد في تحقيق المغرب الذي رسم الملك ملامحه في خطاب التاسع من مارس..
مغرب المؤسسات لا مغرب الأشخاص، ومغرب العدالة والأمن لا مغرب الظلم والشطط والخوف.
مغربية وأعتز بمغربيتي
أعز الله يا أستاذ رشيد نيني، وكل ما قلته هو مطلب كل راغب في العدل، وفي تقدم ونماء هذا الوطن الحبيب.