سعيد المودني
· قال: ما معنى الاستقالة؟
o قلت: هي مصدر من فعل استقال، وهو مزيد بالألف والسين والتاء المفيدة للطلب، فيكون معناها طلب الإعفاء من مهمة من المهمات في القطاع الخاص أو العام.
· قال: ولماذا يلقون بحتفهم الوظيفي، ويغامرون بمستقبلهم المهني؟
o قلت هناك عدة أسباب... فإما أن يكون المسؤول قد أوصل المؤسسة إلى حالة سيئة، أو طريق مسدود، أو حالة إفلاس، أو كبدها خسائر مادية، أو وقعت تحت إمرته فضيحة... وإما أن يكون العامل قد أصابه الإرهاق من جراء العناء اليومي... بعد أن يكون قد ادخر رزقا يكفيه مؤونة الاسترزاق... وإما أن يسعى الموظف لتغيير إطاره بحثا عن تحسين دخله أو راحته البدنية أو النفسية، أو لاكتشافه أن المهمة المنوطة به لا تلائم تكوينه المعرفي أو ميله النفسي... وقد يلجأ إليها أيضا من يريد التفرغ للكتابة والتأمل والتنظير والبحث...
· قال: يبدو أن هذه الظاهرة تطال حتى كبار المسؤولين؟
o قلت: هم المعنيون أولا، لأن الحاجات والأسباب المحتملة السالفة الذكر متعلقة بهم وبمهامهم السامية أكثر من غيرهم.
· قال: ولماذا لا نرى لهذه الظاهرة أثرا في بلداننا؟
o قلت: لا تقل في بلداننا، وإنما قل في بلدان العالم الثالث...
المهم، إن الحدث مكروه لا تقبله الأعراف والتقاليد السائدة، بل في رواية أخذ بها المتأخرون حرام تأنفه النخوة والعظمة والكبرياء والعزة و....
· قال: يكفي! يكفي! لماذا كل هذا الجدل الفقهي في أمر حداثي، وكل هذه الأوصاف والنعوت التي لا نجد لها مثيلا إلا في الرد الرسمي على منبر إعلامي غربي هجا زعيما عربيا؟!...
o قلت: ذلك لأن كل الأوصاف والأسباب المسببة للحدث موضوع الذكر(الاستقالة) تنعدم في المواصفات النفسية والخلقية والذهنية و... للمفترض فيهم الاستقالة عندنا.
· قال: قد أشكلت علي يا هذا حتى انفرط عقد ذاكرتي وانقطع حبل تفكيري، فما عدت أتذكر بداية كلامي ولا غاية سؤالي... سألتك عن الاستقالة.
o قلت: نعم أتذكر هذا، وهاأنذا أجيبك بما فتح الله لي... فهؤلاء المفترض فيهم الاستقالة هم من قد أوجد هذا الواقع، وكل موجِد هو أدرى بما أوجد، وأي خالق هو أعلم بما خلق.
فقد خلقوا الفقر والظلم والمحسوبية والزبونية والبيروقراطية... وبالتالي فهم يعلمون أنهم إذا شاء الله وأصبحوا من طبقات الشعب، فلن يستلموا وظيفة، ولن يتقلدوا منصبا، ولن يجدوا عملا... والنتيجة، والحالة هذه، لن يمتلكوا منزلا ولا سيارة ولا أثاثا... بل لا شيء من ضروريات الحياة: ماءها ولا مرعاها. وعلى كل حال هم ليسوا مستعدين لعيش هذا النمط من الحياة.
هم قد خلقوا العجز والوهن والكسل... وبالتالي فليس لهم همٌّ نضالي ولا حس فني ولا اتجاه ثقافي ولا حتى رغبة رياضية يعيشون من أجلها ويعملون على تحقيقها ويتلذذون بتنميتها... فهم، عدا المادة المكونة لأجسادهم، خواء في فراغ. لا همَّ ولا طموح ولا جدال في الحج.
أما أن يصيبهم الإرهاق(كي يقدموا على تقديم الاستقالة) فهذا بدوره غير وارد البتة. لأنهم من جهة لا يبذلون الجهد ولا الطاقة الكفيلين بالنيل من قدراتهم البدنية، فالعبيد يقومون بأعباء ذلك، ومن جهة أخرى حتى إذا ما رشح إلى جنابهم مكروه، لا قدر الله، فهم في سبيل العلا مخلصون إخلاص النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، لا يتوانون عن أداء الواجب والقيام بالفرض وعمل المطلوب إرضاء لضمائرهم المنفصلة والمتصلة والمستترة على حد سواء... وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والإخلاص، كما هو معروف، ينافي التملص.
ومربط الفرس: وقوع الفضائح والإفلاس والخسائر... أي مطلق الفشل، وهذا وضع مشكَل، فقد اختلف فيه المتقدمون والمتأخرون، الناقلون والعقلانيون، الشماليون والجنوبيون... حتى صاروا أحزابا وشيعا، طوائف وفرقا، بيان ذلك بضعة أقوال:
فقائل قال: أين هو الإفلاس؟ إنكم لتنكرون الجميل وتقلبون الحقائق وتؤلبون الآراء وتكْفرون النعم. أتتعامون، أم تلبسون نظارات سودا، أم تلبسون الحق بالباطل؟ أليست هذه البلاد مفتوحة على مصاريعها للعادي والبادي والآتي والغادي، حتى أنك لتجوبها من أطرافها إلى أطرافها في بضعة أيام حسب امتلاكك سيارة أو أثمان تذاكر أو على الأقل حذاء مريحا فقط، إذا حفظك الله من اللصوص ومراقبي الطرق النظاميين، والله هو الحفيظ، فقد حفظ نبيه يونس، عليه السلام، في بطن الحوت.
أما ما ترونهم من مشردين ومتسكعين ومتسولين جائعي البطون، عاريي الظهور، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، فهم ممن سخط الله عليهم ووالدوهم وسائر المؤمنين. فلو أراد الله لأطعمهم وسقاهم وكساهم، وما ذلك على الله بعزيز. ثم كم عددهم؟ فهم لا يكادون يمثلون 50% من مجموع السكان الكثيرين والحمد لله. إن المواطنين بالتأكيد لن ينقرضوا، فلا تحملوا الوضع أكثر مما يحتمل.
أما الأمية فرغم نسبتها المبالغ في الإعلان عنها فهي لا تزيد عن 65%، وليس معنى ذلك أن المواطنين جهالا، بالعكس فمواطنونا "عُقال" وحكماء وشرفاء وصبورون...و لو كان غير هذا لتغير الوضع منذ زمن.
تتحدثون كثيرا عن البطالة وتتخذونها سلعة للمتاجرة والمزايدة والدجل... ولو كان الأمر كما تقولون لمات الشعب جوعا منذ أمد... ولكنه لازال حيا يرزق، ولن أزيد!
المرافق العامة والفساد الإداري، إن هذا شعارا كثيرا ما رددتموه حتى بلي وابتُذل، بل وتقطعت أوصاله فصار يلعنكم ويطلب النجدة جراء توظيفكم له في كل عصر ومصر. فما هو وجه المشكلة؟ أليست مدارسنا عبرة لمدارس غيرنا؟ فهذا الانتشار الجغرافي العميم في كل الربوع، وهذا التجهيز عددا وعدة، كما وكيفا منقطع النظير، والعهدة على الراوي... وليس أقوى دليلا من ارتفاع مستوى تلامذتنا المشهود وانخراط خريجينا في سوق الشغل حتى إنك لترى المؤسسات والمعاهد العامة والخاصة، داخليا وخارجيا، تتهافت على منتسبي كلياتنا بالإغراءات حتى قبل التخرج وإتمام الدراسة والتكوين، وهذه أطرنا التربوية تحظى بمنتهى الكفاف والاحترام، فأقسم أني لم أجد قط أستاذا متسولا مع المتسولين في باب المسجد أو في ملتقيات الطرق عند إشارات المرور... وما ذلك التنكيت المتداول بخصوصه سوى مداعبة له لا أكثر.
مستشفياتنا نظيفة، مجهزة بالأطر والمعدات. فلا تدعي أنك إذا دخلتها زائرا مرضت وإذا زرتها مريضا مت، إلا إذا كان ذاك قدرك. فالدكتور في الانتظار والدواء تحت الطلب والممرضات يقمن بدورهن في "التمريض" على أكمل وجه... أما المواعد فهي ليست طويلة وعلى المرء أن يصبر ويتصبر... فكما قيل: "العلم بالتعلم والحلم بالتحلم". ثم هذا من ضرورات العمل ومستلزمات العصر... والموت قضاء وقدر وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لا تقل إننا ندفع أو نتسبب في موت الناس في البحار فهذا محض افتراء. إن الناس لم يعودوا يقنعون بما تكسب أيديهم، ولا يطيقون الانتظار. فنحن منكبون على دراسة مشاكلهم، وكل ما يحتاجون إليه هو بضع سنوات لنعرف كيف نقارب المفارقة التي تؤدي إلى التفكير في دراسة سبل البحث في أسباب المشكلة... ثم مثل ذلك للحل.
وقائل قال: أيها الناس لماذا لا ترون بعين الريبة والشك إلا إلى أوضاعنا؟ أليست هذه فرنسا والدول المتقدمة تعاني من مشاكل البطالة والفقر والفضائح السياسية والأخلاقية؟ أيكون الأمر مباحا لهم ومحرما علينا؟ أم تدعون أننا نقارن أنفسنا بهم فيما يرضينا ونعدل عن ذلك فيما سواه؟ لا فرق بيننا، فكما لزعيمهم قصر لزعيمنا قصور، وكما للأول عقار للآخر عقارات، وكما له سيارة له سيارات، وكما له حوالة له حوالات، الفرق الوحيد البسيط التافه الموجود بيننا هو أن دخل أسماهم يساوي دخل أدناهم ضرب عشرة، أما دخل أسمانا فيساوي دخل أدنانا ضرب مئة ألف. وتلك مسألة أرزاق قسمها الله، عز وجل، بنفسه. أم تحسدون الناس على ما رزقهم الله؟ إذن لا يجوز أن يفوق زعيمهم زعيمنا رزقا بأي حال من الأحوال، وإن فاق أدناهم أدنانا فلا ضير، إذ ليست العبرة بأراذل القوم. يا قوم اتقوا سوء الظن، فإنه إثم.
وقائل قال: نعم هناك بعض الفجوات، وحتى بعض النزوات، لكنها نشاز وليست بالفداحة المروجة. ونحن على كل حال، منشغلون بتشخيصها، والعمل على النظر في التفكير في البحث في التخطيط لترميمها... فصبر جميل، والله المستعان.
o قلت: وإذن يا صديقي، والحال هذه، لا يمكنك أن تجد من يجد سببا مقنعا للتفكير في دراسة تقديم طلب الاستقالة. ولا تجادلني بالذين استقالوا بسبب خنق طالب لبطة في حديقة عمومية بحجة أن سياسته التعليمية فشلت، أو من فعلها لعدم فوز فريق بلاده بكأس العالم... فأولئك سيان في الجد واللعب، لهم أعمالهم ولنا أعمالنا.
يا ليتهم اكتفوا بالامتناع عن الاستقالة مدى الحياة وتحريمها وشطب المصطلح من القاموس، لكنهم، ويا للطامة، يسنون التوريث ليرث كل وارث مورثه استنساخا كاملا حتى يأتي الله تعالى بالفرج.