تساؤلات كثيرة يطرحها الناس هذه الأيام ولا يجدون لها جوابا. في البداية، كانت المظاهرات الأولى لحركة 20 فبراير، وخرج الناس من كل الاتجاهات يرددون شعارا واحدا: الشعب يريد إسقاط الفساد. بعد ذلك، بدأت عملية فرز التوجهات والانتماءات وترويجها إعلاميا.. هذا من النهج الديمقراطي وهذا من العدل والإحسان وهذا من «أطاك» وهذا من الواق واق.
الذين يلعبون هذه اللعبة الخطيرة نسوا مسألة على قدر كبير من الأهمية، وهي أن كل الذين يطالبون بإسقاط الفساد هم مغاربة، ولا يوجد بينهم أجنبي واحد. ألا يحق للمغاربة، إذن، أن تكون لهم قناعاتهم الخاصة، بشرط أن يتفق الجميع على أن الخط الأحمر هو العنف؟
المسألة الثانية هي أنه بمجرد أن بدأ ما سمي «الربيع العربي»، صارت أحلام المغاربة تكبر شيئا فشيئا، وتاقوا إلى حريات حقيقية وحكومة فعلية وأحزاب واقعية وصحافة قوية، لكن مباشرة بعد ذلك، وفي عز الحلم، جاء الكابوس عبر الاعتقال الغريب والمثير لمدير «المساء»، وهو اعتقال اعتبره الكثيرون في البداية مجرد سحابة صيف في سماء مغرب يتغير، وبعدها اكتشف الناس أن سحابة الصيف تحولت إلى شبح مخيف فوق رؤوس المغاربة، وهاهم ينتظرون كل يوم أن تغيب تلك السحابة الغريبة، والسحابة تصر على البقاء وكأنها تقول للناس: اذهبوا أنتم وأحلامكم إلى الجحيم.
هناك قضية أخرى مرتبطة بالصحافة، حيث تتناسل الحكايات هذه الأيام من أغلب المدن المغربية عن اعتداءات تطال الصحافيين خلال تغطيتهم للمظاهرات المنددة بالفساد. وهناك صحافيون قالوا إنهم كانوا يرتدون قمصانا عليها عبارة صحافة، ومع ذلك تعرضوا للتنكيل من طرف أفراد الأمن. ربما هناك سياسة أمنية خاصة ستميز من الآن فصاعدا بين الصحافيين المتعاطفين مع حركة 20 فبراير وصحافيين ينتمون إلى صحف تخرج كل صباح بعناوين بارزة تشيد بدور الهراوة في «تربية» الشعب.
المسألة الأخرى المثيرة للاستغراب هي هذا العنف العام الذي فاجأ الناس الذين كانوا يعتقدون أن حماقات الماضي ولت إلى الأبد. ففي مظاهرات كثيرة، تصرف أفراد الأمن بطرق غريبة.. أمني يركل امرأة مع طفلها، عنصر أمن يضرب دراجة هوائية لرجل بسيط يعبر الشارع مسرعا، أفراد أمن يوجهون شتائم بذيئة إلى متظاهرين: سير تق... لد... مّ» أو «نوضْ أل...»، أو «آولْد الق...». المشكلة أن الناس قد يفهمون عنف الأمن وسيادة منطق الهراوة على أنه تنفيذ إجباري لأوامر تأتي من فوق ولا يستطيع أفراد الأمن رفضها، لكن من يجبر أفراد الأمن على استعمال تلك العبارات المهينة والحاطة بالكرامة الإنسانية، ومن يعطيهم الأوامر بالتركيز على مصطلحات «النصف السفلي»؟
وفي مظاهرة بالدار البيضاء، كانت امرأة تقف بين أفراد الأمن المدججين بالهراوات وهي تصرخ «نـْتوما خوتـْنا»، لكن صراخها لم يأت بنتيجة. كانت تلك المرأة تعبر بصدق عن شعور كل المغاربة الذين يعتبرون رجل الأمن واحدا منهم، وأن زمن العداوة التي كانت سائدة في الماضي قد ولى، لأنها عداوة خلقها سياسيون كانت لهم مصالح خاصة في شق خندق واسع بين المغاربة.
الإحساس بقرب الأمن من المواطن يعكسه أيضا ما وقع في مظاهرة تدخل فيها الأمن بقوة، وفجأة وجد رجل أمن نفسه معزولا بين متظاهرين عانوا كثيرا من الهراوة، لكن رجل الأمن خرج منها سالما لأن الذين كانوا «يأكلون العصا» هم الذين وفروا له الحماية.
صورة رجل الأمن كما يراه المغاربة اليوم مختلفة عن صورته في الماضي، فاليوم يوجد رجل الأمن في كل مكان.. في الجامعة يعد لشهادة الماستر أو الدكتوراه، وفي المسجد وفي المقهى وفي الطابور وفي أي مكان. لقد مضى ذلك الزمان الذي كان فيه المواطن المغربي يعتبر رجل الأمن عدوه، اليوم هناك انسجام كبير بين المغاربة بمختلف أطيافهم، ورجل الأمن الذي كان ممقوتا في زمن مضى صار اليوم أخا للجميع، هو في كل الأحوال مواطن بسيط مهمته صعبة في الحفاظ على أمن الناس وسلامتهم، وكلما كان رجل الأمن نزيها ومخلصا لمهنته صعبت مهمته أكثر. وفي الأمن كما في كل المجالات، هناك أشخاص سيئون، وهؤلاء لا يعالجهم غير الزمن ودروس الحياة.
بين المواطن العادي ورجل الأمن قد تحدث أشياء كثيرة، لكن هناك بالتأكيد خطوط لا ينبغي تجاوزها، فشتيمة بذيئة واحدة قد تشعل النار أكثر مما تفعله ألف هراوة وألف حجر.