علاء الدين الأعرجي
مقدِّمة
في هذا البحث سنُركِّز على ظاهرةٍ خطيرة كانت وما تزال تؤثِّرُ سلبًا في المسيرةِ ال�=Aقدُّميَّة للأُمَّةِ العربيَّة وتُساهمُ في تخلُّفها عن رَكبِ الحضارةِ الحديثة، وأَقصدُ بها ظاهرةَ الإيمانِ بالقضاءِ والقدَر، المنتشرةَ في معظمِ أوساطِ المجتمعِ العربيّ، وخاصَّةً الإسلاميّ، بما فيه كثيرٌ من المتعلِّمين، وبوجهٍ أخصّ لدى الطبقاتِ الفقيرة والجاهلة التي تُشكِّلُ قرابةَ 50 في المئة من المجتمعِ العربيّ (حوالى نصف الشعب العربيّ أُمّيّ، حسب ”تقارير التنمية البشريَّة للأُمم المتَّحدة“).[1] وأهمِّـيَّةُ بحثِ هذه الظاهرة تنجمُ عن أنَّها تؤدِّي إلى عدم شعور الإنسانِ العربيّ شعورًا عميقًا وفعَّالاً بمسؤوليَّتِه تجاهَ نفسه وإزاءَ مجتمعِه، وبالتالي تُساهم في شَلِّ المبادراتِ الشخصيَّة والكفاحِ المُثمِر لتغيير الأوضاع المتردِّية الراهنة، وبالتالي في تفاقُمِ أزمةِ التطوُّرِ الحضاريّ. وكمثالٍ على ذلك، أقول: إنَّني كنتُ وما أزال أتعمَّدٌ أن أَخوضَ في الحديث مع العديد من المهاجرين العرب في هذا البلد (أمريكا)، وخاصَّةً عامَّة الناس الذين يُمارسون الأعمالَ التجاريَّةَ الصغيرة مثل أصحابِ المتاجر العربيَّة التي تبيعُ الموادَّ الغذائيَّة مثلاً. وبعد أن نتبادلَ الرأيَ حول أوضاع أُمَّتنا الراهنة المتفاقمة، أُلاحظُ أنَّ معظمَهم، إن لم يكن جميعهم، يُنهي كلامَه، بعد أن يشكوَ مِمَّا يحدثُ في البلدِ الأُمّ من مآسٍ ونكبات، بقولٍ من هذا النوع: ”إنَّها مشيئةُ الله ولا مردَّ لها،“ أو ”ننتظرُ رحمتَه سُبحانَه وتعالى،“ أو ”لا حَولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بالله،“ أو ”إنَّ الله مع الصابرين“، أو ”ندعو الله سُبحانه وتعالى إلى خلاصِ الأُمَّة من هذه الغمَّة.“ �=8أَهمُّ من ذلك أنَّ أحدَهم كان، غالبًا، يُردِّدُ لي بحرارةٍ قولَه: ”كلُّ ما أسالُ الله، سُبحانه وتعالى، أن يُبقيَ الأوضاعَ المتردِّية والجارية حاليًّا على وضعِها من التردِّي ولا يزيدَها سوءًا.“ وهذا قِمّةُ التشاؤم والاستسلام لِما يُعتقَدُ أنَّه قضاءُ الله وقدَرُه.[2] فهو لا يفكِّرُ أصلاً بمسؤوليَّتِه عن هذا التدهوُرِ وما يُمكنُ عملُه لوَقفِه، بل يتركُ مسؤوليَّةَ ذلك على عاتقِ الله سبحانه وتعالى حصرًا.
كما إنَّ جميعَ العباراتِ السابقة تدلُّ، إضافةً إلى ذلك، على العجزِ والتواكُلِ والعزاء، الأمرُ الذي يدلُّ على مدى تغلغُل قِيَمِ القضاءِ والقدَرِ في العقلِ المجتمَعيّ. ونحن لا نُريدُ أن نُقلِّلَ من قدرةِ الله تعالى، ولكنَّنا نتأسَّى بالآيةِ الكريمة: ”وما تُقدِّموا لأنفسكم من خيرٍ تَجدوه عند الله إنَّ الله بما تعملون بصير“ (البقرة 110)؛ وبالحديثِ المنسوبِ إلى الرسول (ص): ”إعقلْ وتوكَّلْ“ أو ”إعقِلها وتوكَّلْ“، وهو جوابٌ لِمَن سأله: ”أأعقلُها [أي الناقة] وأتوكَّل أم أُطلقها وأتوكَّل؟“ لأنَّ إطلاقَ الناقة قد يؤَدِّي إلى ضياعِها. وهذا يُبرهنُ أنَّ على الإنسانِ أن يفعلَ جميعَ ما في طاقته لتجن=9�ُبِ الضرَرِ واستجلابِ الخير، ثمَّ يتوكَّل، لا أن يظلَّ قاعدًا، أو يتركَ الأُمورَ تجري على عواهنِها، وينتظرَ رحمةَ الله أن تُصلحَها. كما نتذكَّرُ القولَ المأثور، المنسوب إلى الإمام عليّ (ع): ”إعمَلْ لدُنياك كأنَّكَ تعيشُ أبدًا واعمَلْ لآخرتِك كأنَّكَ تموتُ غدًا.“
وعندما كنت أدعو هؤلاء الناسَ وغيرَهم من المعارف والأصدقاء المتعلِّمين أو المثقَّفين، إلى الاشتراك في اجتماعاتٍ أو تظاهُراتٍ يُنظِّمُها بعضُ المؤسَّساتِ الأمريكيَّة للتعبير عن الرأي المخالِف، خاصَّةً في ما يتعلَّقُ بقضايانا الساخنة،- قضية فلسطين، الحصار على العراق- لا أجدُ آذانًا صاغية؛ ونادرًا جدًّا ما كان يحضرُ تلك الأنشطة أفرادٌ قلَّة يُعَدُّون على الأصابع، في حين يحضرُها الأمريكيُّون بالآلاف عادةً، ومع ذلك ينبغي أن نكون حَذِرين من التعميم، لأنَّ قليلاً من التظاهرات المتعلِّقة بالقضايا العربيَّة الساخنة حضرَها عددٌ كبيرٌ من العرب.
إذًا تنطلقُ هذه الدراسة من فرضيَّةٍ مَفادُها أنَّ العربَ خاصَّةً، والمسلمين عامَّةً، يميلون في الغالب إلى الإيمانِ بالقضاءِ والقدَرِ أكثرَ من مَيلِهم إلى حرِّيةِ الإنسانِ ومسؤوليَّتِه إزاءَ نفسِه وأُمَّتِه ووطنِه؛ مع التسليم بوجودِ مُحاولاتٍ لتعديلِ هذا الاتِّجاه، سواءٌ بواسطة حركاتٍ دينيَّة أو عَلمانيَّة. لكنَّ هذه الحركاتِ والأنشطةَ ظلَّت محصورةً في أوساطٍ معيَّنة؛ وتأثيراتُها بقيَت محدودة. ونأملُ، مع ذ�=4ك، أن تتوسَّعَ أَمثالُ هذه الحركات، خاصَّةً ذات الاتِّجاهِ العقلانيّ المستنير، الذي يتوخَّى بثَّ روحِ المسؤوليَّة الشخصيَّة وإطلاقَ طاقاتِ الإنسانِ العربيّ الخلاَّقة لِحَفزِ قُدراتِه الإبداعيَّة عِوضًا عن الإبقاءِ على روحِ التقليدِ الاتِّباعيَّة، وذلك عن طريقِ تفعيلِ عقلِه الفاعِل ضدًّا لعقله المنفعِل. وأظنُّ أنَّ ذلك يُمكنُ أن يتحقَّق، إلى حدٍّ كبير، بتفعيلِ أركانِ مجتمعِ المعرفة الخمسة، التي حدَّدَها ”تقريرُ التنميةِ الإنسانيَّة العربيّ للعام 2003“، ألا وهي: 1) إطلاق حرِّيـَّاتِ الرأيِ والتعبيرِ والتنظيم؛ 2) النشرُ الكامل للتعليم راقي النوعيَّة؛ 3) توطينُ العلم؛ 4) التحوُّل نحو نمطِ إنتاجِ المعرفة في البِنيةِ الاجتماعيَّةِ والاقتصاديَّة؛ 5) تأسيسُ نموذجٍ مَعرِفيٍّ عربيٍّ عامّ، أصيل، مُنفتِح ومُستنير.[3]
بعضُ تجلِّياتِ الإيمانِ بالقضاءِ والقدَر
لذلك سنُحاولُ أن نُحلِّلَ ونُجذِّر، في هذا الفصل، ظاهرةَ الإيمانِ بالقضاءِ والقدَر، التي نعتبرُها من الآفاتِ التي ترسَّخَت في العقلِ المجتمعيِّ العربيّ، وبالتالي بالعقلِ المنفعِلِ للفردِ العاديّ الذي أصبح يقبلُ القهرَ والظلمَ والكوارث، باعتبارِها قدَرًا مُحتَّمَاً، بل يعتبرُها بعضُهم امتحانًا من الله لمدى صبرِه وإيمانِه: ”فاصبروا إن الله يُحبُّ الصابرين“، ويتأسَّى بصبرِ أيُّوب. كما إنَّ هناك عشراتِ الأمثلةِ والأقوالِ الشعبيَّة التي يُردِّدُها العربيّ، وبخاصَّة المسلم، تدلُّ على مدى تعلُّقِ=9� بالقضاءِ والقدَر، وعجزِ الإنسانِ عن التحكُّمِ بحاضرِه ومُستقبلِه؛ منها الأمثالُ المصريَّةُ السائدة مثل ”إللي انكَتب عالجبين لازِم تشوفُه العين“، و”قِسمتي كِدَه“، و”اجري يا بن آدم جَري الوحوش غير نصيبك ما تحوش“، و”العبد في التفكير والربّ في التدبير“، و”العين صابتني وربّ العرش نجّاني“، و”درهم حظّ ولا قنطار شطارة“؛ والأمثال العربيَّة الأُخرى كـ”لا تفكِّر، لها مُدبِّر“، و”إذا وقع القدَر عَميَ البصر“، و”قِسمة ونصيب“، و”المكتوب ما منه مهروب“، و”سبع صنايع والبخت ضايع“.
ومُقابل ذلك هناك أمثالٌ وأقوالٌ تتضمَّنُ مسؤوليّةَ الإنسانِ عن أعمالِه، لكنَّها قليلةٌ وغيرُ منتشرة، ولا فاعلة كالمجموعةِ الأُولى. منها ”اللي ما يزرع ما يحصد“، و”العيشة تدبير“، و”اقعُدْ على وَكرِ الدبابير وقُلْ هذا تقدير“ (يقال في معرض السخرية)، و”القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود“.
لماذا ظهرَت وبرزَت الأمثالُ والأقوالُ التي تدلُّ على التواكُلِ والاستسلام أكثر من تلك التي تحثُّ على العملِ وتحمُّلِ المسؤوليَّة؟ سؤالٌ سنُجيب عنه فيما بعد، خصوصًا في الفصل الخاصِّ بتعرُّضِ الأُمّةِ العربيَّة للقهرِ والاستبداد خلال الـ14 قرنًا الماضية.
وغالبًا ما تُعزى جميعُ المصائبِ والنوائب التي تحلُّ بالأُمَّة إلى قضاءِ الله وإرادتِه، في نهاية الأمر، أو بالأحرى إلى أسبابٍ يعتبرُها البعضُ عقابًا لأهلها من الله تعالى على تقصيرِهم في شؤونِ دُنياهم أو آخرتِهم. مثلاً: يرى الكاتبُ منير شفيق، في كتابه ”الإسلامُ وتحدِّياتُ الانحطاطِ المعاصِر“، أنَّ هزيمة العام 1967 كانت ”عقوبةً حتميَّة“ كان لا بدَّ من أن ”تدفعَها الأُمَّة...كمُحصَّلة طبيعيَّة لمحاربةِ الإسلام والسَّيرِ في طريق التغريب.“ [4]
كما قام الشيخ محمَّد مُتولِّي الشعراوي، وزيرُ الأوقافِ السابق في مصر، بالتوجُّه بالشكر إلى الله في صلاة ركعتَين، شاكرًا له صنيعَه لأنَّ ”مصر لم تنتصر.“ وقيل إن سببَ الهزيمة كان قدَرًا من الله وعقوبةً لأنَّ السلاحَ الذي حاربَت به كان سلاحًا كافرًا.[5]
وفي مطلع عام 2005 حدثَ زلزالٌ أَرضيٌّ عنيف، في أعماق المحيط الهنديّ، فسبَّبَ كارثة ”تسونامي“ في منطقة جنوب شرق آسيا شملَت الفلبّين وأندونيسيا وماليزيا والهند وسيرلانكا وبلدانا أُخرى، ووصلت إلى القرن الإفريقيّ، وحصدَت قرابةَ ثلاثمئة أَلف إنسان، وخاصَّةً من الفقراء وعامَّة الناس. وتفسيرًا لذلك كتبَ أحدُ ”الدكاترة“ المعروفين في مصر في إحدى الصحُف المصريَّة إنَّ هذه الكارثة حصلَت كإنذارٍ وعقابٍ من الله بسببِ ما كان يُقترَفُ من ذنوبٍ في تلك البلدان الساحليَّة التي كان يرتادُها السيّاح من مختلفِ أرجاءِ العالمَ.
وقد وصف نزار قبَّاني ظاهرةَ الإيمان بالقضاءِ والقدَر السائدة لدى العرب على النَّحوِ التالي:
نجلسُ بالجوامع تنابلاً كسالى...
ونشحذُ النصرَ على عدوِّنا من عنده تعالى.
ومع ذلك، هناك في العصر الحديث مَن يُعارضُ هذه النزعةَ الاتِّكاليَّةَ أو القدَريَّة.
يقول أبو القاسم الشابي:
إذا الشعبُ يومًا أرادَ الحياةَ |
فلا بدَّ أن يستجيبَ القدَرْ |
ولا بدَّ للَّيلِ أن ينجلي |
ولا بدَّ لِلقَيدِ أن ينكسِرْ |
و يقولُ شوقي:
وما نيل المطالبِ بالتمنَّي ولكنْ تؤخذ الدُنيا غِلابا
وهكذا نحن نُلاحظُ وجودَ صراعٍ بين قِيَمِ الجَبر (كتعبيرٍ آخَر عن القضاءِ والقدَر) التقليديَّة القديمة وقِيَمِ القُدرةِ والتمكُّن وحُرِّيـَّةِ الاختيار التي أنشأت الحض�=7رةَ الحديثة، وأهمِّـيَّةِ مُواجهةِ الإنسانِ لمسؤوليَّاتِه. ومع ذلك فما تزالُ الأغلبيَّةُ العُظمى من العربِ يدينون بالجَبر أكثرَ مِمَّا يَدينون بالاختيار، حسب تقديرنا.[6]
لكنَّ كلَّ ذلك لا يعني أنَّ معظمَ العربِ وحدهم يؤمنون بالقضاءِ والقدَر، بل إنَّ معظمَ المجتمعاتِ البشريَّة، أو ربَّما جميعها، آمنَت، في بعضِ مراحلِ تطوُّرِها الماضية أو الراهنة بالقضاءِ والقدَر. ولكنْ من الملاحَظ أنَّه كلَّما ارتفعَ المجتمعُ في سلَّمِ التقدُّم والرقيّ المادّيّ والفكريّ، استطاع معظمُ أفرادِه أن يتغلَّبوا على هذه النزعة، خاصَّةً إذا تمكَّن، ذلك المجتمع، من تفسير الظواهر الطبيعيَّة، واستطاع أن يُسخِّرَها لخدمتِه وتقدُّمِه. وعلى العكس من ذلك نلاحظُ أنَّ جميعَ المجتمعات البدائيَّة، بما فيها القديمة أو المعاصرة، تؤمنُ بشكلٍ أو آخَر بالقضاءِ والقدَر.
التعريفُ بالقضاءِ والقدَر
القضاءُ في الاصطلاح: ”عبارةٌ عن الحُكم الكلِّيّ الإلهيّ في أعيانِ الموجودات على ما هي عليه من الأحوال الجارية من الأزلِ إلى الأبد“، مثلَ الحُكمِ بأنَّ كلَّ نفسٍ ذائقةٌ الموت (الجرجانيّ: ”التعريفات“). والقَدَرُ في اللغة: القضاء، والحُكم، ومبلغُ الشيء، والطاقة، والقوَّة، ويُطلَق على ما يَحْكمُ به الله من القضاءِ على عِبادِه، وعلى تعلُّقِ الإرادة بالأشياءِ في أوقاتِها. ويقول الأشعريَّة إنَّ القضاءَ هو قضاءُ الله الثاب=8� في إرادتِه الأزليَّة المتعلِّقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال. ويعني قَدَرُه إيجادَ الأشياء على قَدْرٍ مخصوص، وتقدير معيَّن في ذواتها وأحوالها.
وكتعريف تقريبّي، وفي المفهوم السائد، على الصعيد العامّ، كما في المفهوم الوارد في هذا البحث، يعني تعبير ”القضاء والقدر“ أنَّ الإنسانَ مُسيَّر لا مُخيَّر، ولا يستطيعُ أن يتحكَّمَ بحياته، حاضرِه أو مُستقبلِه ومصيرِه، أي إنَّه عاجزٌ عن تغييرِ أو تعديلِ ظروفهِ الخاصَّة ناهيك عن التحكُّم بالعالَمِ الخارجيّ. وغنيٌّ عن القَول إنَّه سينشأُ تناقضٌ بين هذا ا�=4مفهومِ ومدى مسؤوليَّةِ الإنسانِ عن أعمالِه سواءٌ قانونيًّا أو أخلاقيًّا أو دينيًّا. فكيف يُمكنُ أن يكونَ الإنسانُ مسؤولاً عن أفعالِه ما دامت مُقدَّرة عليه من قِبَلِ سلطةٍ خارجةٍ عن إرادتِه؟ كما يتعلَّقُ الأمرُ بموضوعاتٍ تتعلَّقُ بالفلسفةِ بوجهٍ عامّ وفلسفةِ القانونِ والأخلاق، بوجهٍ خاصّ، مِمَّا يطولُ فيه البحثُ والحديث.[7] لذلك سنكتفي في هذه الحلقة بالتحدُّث عن القضاءِ والقدَر في التاريخ العربيِّ الإسلاميّ، بما فيه الفكرُ الإسلاميّ، لأننا نفترضُ أنَّ العقلَ المجتمعيَّ العربيَّ متأثِّرٌ بالجانبِ المظلمِ من ذلك التاريخ.
القضاءُ والقدَرُ في التاريخ العربيِّ الإسلاميّ
سنقسِّمُ هذا الفصلَ إلى ثلاثةِ فروع: الأوَّل يتعلَّقُ باستعراضِ النصوصِ الدينيَّة التي تدعمُ القضاءَ والقدَر، أو تدعمُ مسؤوليَّةَ الإنسانِ وحرِّيـَّتَه. والثاني يتعلَّقُ بواحدةٍ من أهمِّ الحركاتِ المُعارِضة للقضاءِ والقدَر في الإسلام، ألا وهي حركةُ ”المُعتزِلة“. والثالث يتعلَّقُ بالحُكم الاستبداديّ ”المُلك العَضوض“ وأثرِه في توطيدِ عقليَّةِ الاستسلامِ للقضاءِ والقدَر.
أوَّلاً، في النصوصِ الدينيَّة: يُمكنُ القولُ إنَّ التفسيرَ الإسلاميَّ لظاهرة القضاء والقدر يستندُ إلى كثير ٍ من الآيات الواردة في القرآن الكريم، ومنها ﴿إنّا كلّ شيءٍ خلقناه بقدَر﴾ (القمر: 49)، و﴿ قُلْ لن يُصيبَنا إلاَّ ما كتبَ الله لنا﴾ (التوبة: 51). و﴿ قُلْ لا أَملكُ لنفسي ضَرًّا ولا نفعًا إلاَّ ما شاءَ الله﴾ (يونس: 49)، و﴿ما أصاب من مُصيبةٍ في الأرضِ ولا في أنفسكم إلاَّ في كتابٍ من قبل أن نَبْرَأَها إنَّ ذلك على الله يسير﴾ (الحديد: 22)، و﴿وكلُّ صغيرٍ وكبير مُسْتَطَر﴾ (القمر: 53)، و﴿إنَّ الله يُضِلُّ مَن يشاء ويهدي من يشاء﴾، و﴿فلم تقتلوهم ولكن الله قتلَهم﴾ (الأنفال 17) وغيرها.
ولكنْ ينبغي أن نلاحظَ وجودَ آياتٍ أُخرى مُناقضة ومُعدِّلة تخالفُ ظاهرَ هذه النصوص. ومنها ﴿إنَّ الله لا يُغيِّرُ ما بقومٍ حتَّى يُغيِّروا ما بأنفسهم﴾، فإذا أَتممنا الآية فسينقلبُ المعنى إلى ضدِّه: ﴿وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مردَّ له﴾ (الرعد: 11)، و﴿مَن عملَ صالحًا فلنفسِه ومَن أساءَ فعليها، وما ربُّكَ بظلاَّمٍ للعبيد﴾ (فُصِّلت:46)، و﴿ذلك بما قدَّمَت يداك وإنَّ الله ليس بظلاَّمٍ للعبيد﴾ (الحجّ: 10)، و﴿قُلْ يا قوم اعملوا على مكانَتِكُم إنّي عامل، فسوف تعلمون﴾ (الأنعام: 135)، و﴿ومن يكسبْ إثمًا فإنَّما يكسبُه على نفسِه﴾ (النساء: 111)، و﴿ما ظلمناهم ولكنْ ظلموا أنفسَهم﴾ (هود: 101). وهناك عددٌ كبير آخَر من أمثال هذه الآيات. ولكنْ من الملاحَظ أنَّ الآياتِ الأُولى ال�=5تعلِّقة بالقضاءِ والقدَر معروفةٌ ومُعتبَرة ومُتَّبعة أكثر من آياتِ المجموعة الثانية المعاكِسة التي تُشدِّد على مسؤوليِّةِ الإنسان، وذلك لأسبابٍ تتعلَّقُ بالعقلِ المجتمعيِّ العربيِّ والإسلاميّ الذي يستنجد، في عصرِ الانحطاط، بكلِّ الوصفاتِ الجاهزة، المُهدِّئة أو المُخدِّرة، على النحوِ الذي سنُحاولُ تفسيرَه فيما بعد.
تفسيرُ الجابري: في كتابِه ـ”التراث والحداثة“
يرى المفكِّرُ محمَّد عابِد الجابري أنَّ في القرآن آياتٍ تُفيدُ الجَبْرَ وأُخرى تُفيدُ الاختيار. ولكنْ يجبُ أن نأخذَ بنظرِ الاعتبار أسبابَ النزول ومُراعاةَ قصدِ الشارع. ويرى أنَّ الآياتِ التي تُفيد الجبرَ إمَّا أن تتعلَّقَ بالماضي باعتبار أنَّ ما حدثَ في الماضي لا يمكنُ تغييرُه، مثل﴿سنَّة الله التي خلَت من قبل ولن تجدَ لسنَّةِ الله تبديلا﴾، وإمَّا أنَّها نزلَت للحَثِّ على الصبرِ والتضحية في الصراع مع قُرَيش أوَّلاً، وحين الغزواتِ والحروب مع الكفَّار ثانيًا. يقول: ”إنَّ الآياتِ التي تُفيد الجبرَ في هذا المقام لم تكنْ تدعو إلى الاستسلام، بل بالعكس، كانت تحثُّ على الصبر وتدعو إلى التضحية. ولكنَّ السياسةَ فيما بعد هي التي وظَّفَت هذه الآياتِ في أغراضِها بعد أن قطَعَتها من سياقِها وعزلَتها عن أسبابِ نزولها، أي عن تاريخيَّتِها.“ [8] ومع تقديرِنا لرأي الجابري، فإنَّنا نرجح أنَّه يَنـْصَبُّ على ما يجب أن يكون، أكثرَ مِمَّا ينصبُّ على ما هو كائنٌ فعلاً.
ثانيًا، القَدَريّـِـة والمُعـتزِلة
منذُ أن ظهرَت مسألةُ القضاءِ والقدَر أو الجَبر التي رفعَها الأُمويُّون في الشام، لتبرير حكمهم، انبثقَت حركةٌ فكريَّةٌ وسياسيَّةٌ مُعارضة تقولُ بحرِّيـَّةِ الإرادة أُطلِق عليها اسمُ ”القَدَريّة“ (بمعنى القُدرة أو الاستطاعة، لا الجَبر)، رفعوا شعارًا يقول بقدرة الإنسان على ”خَلـْــقِ أفعاله، وبالتالي مسؤوليته عنها...“ فأطلقَ عليهم خصومُهم مُصطلحَ ”القَدَرِيَّة“ (من قَدِرَ قدَرًا بمعنى اقتدَرَ، لا من القضاء والقَدَر الخارج عن إرادة البشر)، استنادًا إلى حديثٍ نسبوه إلى الرسول (ص) يقول فيه:”القَدَريّة مَجوسُ هذه الأُمَّة.“ وكان الذين يؤمنون بحرّيـِّةِ الإرادة يرفضون هذا الوصف ويقولون إنَّه يصدقُ على الذين يقولون بالقضاء والقدَر، ومع ذلك لُصقَ بهم هذا الاسمُ حتَّى اليوم.[9]
والمسألةُ التي أُثيرت بين المتكلِّمين الأوائل هي صفةُ ”العِلم“ التي تُسبَغُ على الله تعالى، باعتباره عالمًا بكلِّ شيء، بما في ذلك علمُه منذ الأزَلِ بما سيكون. ومن هنا ظهرَت قضيَّةُ التناقُضِ بين عِلمِ ا�=4له السابق وبين عَدلِه. وثار السؤالُ الخطيرُ التالي: كيف يُمكنُ أن يُحاسِبَ الله الإنسانَ على أعمالِه وهو يعلمُ مُقدَّمًا ما سيحدثُ له، ولماذا يطلبُ منه القيامَ بأُمورِ معيَّنة ويمنعُ عنه أُمورًا أُخرى، وهو عالِمٌ مُسبَّقًا بأنَّه سيتبعُها أو لا يتبعُها؟
يقول أحمد أمين: ”نشأَت الأبحاثُ الدينيَّة في هذا الموضوع لمَّا نظرَ الإنسانُ فرأى أنَّه، من ناحية، يشعرُ بأنَّه حرُّ الإرادة يفعلُ ما يشاءُ وأَنَّه مسؤولٌ عن عملِه، وهذه المسؤوليَّة تقتضي الحرِّية. فلا معنى لأن يُعذَّبَ أو يُثابَ إذا كان كالريشة في مهبِّ الريح لابدَّ أن تتحرَّكَ بحركته وتسكنَ بسكونه. ومن ناحية ثانية رأى أنَّ الله عالِمٌ بكلِّ شيء، أحاط عِلمُه بما كان وما سيكون، فعَلِمَ بما سيصدر عن كلِّ فرد من خيرٍ أو شرّ، وظنَّ أنَّ هذا يستلزمُ حتمًا أنَّه لا يستطيعُ أن يعملَ إلاَّ على وَفقِ ما علمَ الله، فحارَ في ذلك بين الجبرِ والاختيار، وأخذ يُفكِّر: هل هو مُجبَر أو مُختار.“[10] ومن جهةٍ ثالثة، برزَ السؤالُ الخطيرُ الآخَر: إذا كان الإنسانُ يعملُ وَفقَ عِلمِ الله، أو إرادته، فهل يُمكنُ أن يفعلَ الله الظلمَ أو القبيح؟ ولماذا يُعذب الكافر الطالح، ويُثاب المؤمن الصالح، إذا كان الإنسان مُجْبَرٌ وليس مُخَيَّر؟
وبالإضافة إلى المناقشات ”الكلاميَّة“، والفلسفيَّة، كان لهذه القضيَّة انعكاساتٌ وتداعياتٌ سياسيَّة خطيرة. ذلك لأنَّ من المُمكن أن يغتصبَ الحاكمُ سدَّةَ الحُكم بالقوَّة، ويدَّعي أنَّ ذلك كان بعِلمِ الله وإرادته. فضلاً عن أنَّ بإمكانِه أنْ يظلمَ ويقتلَ جميعَ مُعارضيه ويسلبَ وينهبَ الأموال، ويرتكبَ جميعَ الموبِقات، مُدَّعيًا أنَّ ذلك يحدثُ بناءً على إرادةِ الباري عزَّ وجَلّ. وقد ظهرَت هذه المسألةُ في مطلعِ العصرِ الأُمويّ، كما قلنا. فالأُمويُّون الذين استولَوا على الحُكمِ بالقوَّة استنَدوا في شرعيَّةِ حُكمِهم إلى قضاءِ الله وقدَرِه، كما سيأتي شرحُه.
ويذكر التاريخ أنَّ أسبقَ مَن بشَّرَ بمبدإِ حُرِّية الإرادة ومسؤوليَّةِ الإنسان عن أعماله مَعَبد الجُهني وغَيلان الدمشقيّ. الأوَّلُ قتلَه الحجَّاج صَبرًا (أي بعد أن أَوثقَه ومنعَ الطعامَ عنه)، وقام هشام بن عبد الملك بقَطعِ يدَي الثاني ورجلَيه وقتلِه وصَلبِه، وكان ذلك في عام 106 للهجرة (724م).[11] وكان غَيلان الدمشقيّ قد تعلَّم مع واصل بن عطاء على يَدِ اثنَين من آلِ البَيت من أحفاد عليّ بنِ أبي طالب وأولادِ محمَّد بنِ الحنفيَّة.[12] ثمَّ ذهبَ إلى البصرة لينضمَّ إلى حلَقةِ الحسَن البَصريّ الذي كان يتحدَّثُ في مسجِدِ البصرة، مُفنِّدًا آراءَ �=5َن يُبرِّرُ أعمالَ الملوكِ الدامية بأنَّها قَدرٌ من الله.
وكان الحسَن البصريّ يتمتَّعُ بمكانةٍ دينيَّةٍ وعِلميَّة واجتماعيَّة عالية. وبينما كان يستشيرُه الخليفةُ الصالحُ عُمَر بنُ عبد العزيز في كثيرٍ من المناسبات، كان يختلفُ معه بقيَّةُ الخلفاءِ الأُمويِّين وخاصَّةً الخليفةَ عبدَ الملك بنَ مروان (65-86هـ/685-705م). وقد أبقى عليه الأُمويُّون لعدَّةِ اعتباراتٍ سياسيَّة ومَصلحيَّة. يذكرُ الدينوري في كتابه ”الإمامة والسياسة“: ”أنَّ مَعبد الجُهَني وعطاءَ بنَ يس�=7ر دخَلا على الحسَن البَصريّ، وهو يُحَدِّثُ في مجلس البصرة كعادتِه، فسألاه: ’يا أبا سعيد، إنَّ هؤلاء الملوك يسفكون الدماء، ويأخذون الأموال، ويفعلون كذا وكذا، ويقولون: إنَّما تجري أعمالُنا على قدَرِ الله.‘ فأجابَهما الحسَن:’ كَــذبَ أعداءُ الله.‘ “[13]
ويُذكَرُ أنَّ عبدَ الملك بنَ مروان أرسلَ إلى الحسَن البصريّ رسالةً مُطوَّلة، عبَّر فيها عن قلقِه عمَّا بلغَه عنه من كلامٍ حول ”القدَر“، وطلبَ فيها توضيحَ موقفِه؛ وفيها كثيرٌ من التهديدِ المبطَّن، إذْ يتَّهمُه بأنَّ ما يقولُه قد يُعتبَرُ ”بِدعة“، لأنَّه لم يسمعْ به من قبل، ويطلبُ منه سندَه ومرجعيَّتَه. فأجابه الحسَنُ البصريّ برسالةٍ مُطوَّلة أُخرى تتضمَّنُ كثيراً من التحدِّي. ومِمَّا قاله فيها: ”واعلَمْ، يا أميرَ المؤمنين أنَّ الله لم يجعل الأُمورَ ’حتماً‘ على العباد، ولكنْ قال لهم إن فعلتم كذا فعلتُ بكم كذا، وإنَّما يُجازيهم بالأعمال... ولكنَّ الله قد بيَّنَ لهم مَن قَدمَ لهم ذلك ومَن أضلَّهم، فقال: ﴿وقالوا ربَّنا إنَّا أطعنا سادتَنا وكُبراءَنا فأَضلُّونا السبيلا﴾ (الأحزاب 67).‘ ويقول الله تعالى: ﴿إنَّا هَديناه السبيلَ إمَّا شاكرًا وإمَّا كَفورا﴾“ (الإنسان: 3).
ويُعلِّقُ الجابري على هذه الرسالة الهامَّة قائلاً إنَّها ”تضعُنا أمام خطابٍ جديد في المعارضة، خطابٍ ينسفُ إيديولوجيَّة الجَبر الأُمويّ فيؤَكِّدُ أنَّ أعمالَ الناسِ ليست حتماً عليهم بل هم يأتونها باختيارهم، وبالتالي فهم مسؤولون مُحاسَبون. والخطابُ مُوجَّه مُباشرةً إلى أمير المؤمنين، صيغةً ومضمونًا؛ فإضافةً إلى استعمال صيغة النداء ”يا أميرَ المؤمنين، وذِكر ”فرعون“ و”السادات“ و”الكُبراء“... الذين أضلُّوا أقوامَهم، نجدُ النصَّ يستحضرُ هؤلاء ليُعطيَ لمسألةِ الجَبرِ والاختيار كاملَ مضمونِها السياسيّ. ومن هنا ستنطلقُ حركةٌ تنويريَّة جعلَت قضيّتَها الأساسيَّة نشرَ وَعيٍ جديدٍ بين الناس، الوعيِ ب=8�َّنَّ ا