طارق بوستا
تتسع الهوة يوما بعد يوم بين التنظير والممارسة فيما يخص التزام المؤسسات بالقوانين المنظمة لها، وتؤكد الوقائع الملموسة على أن التشريعات والقوانين لا تضمن دائما حيز الحقوق والواجبات مصانا، ولا تحد من غرائز الأنا التي تتقن الحربائية وتتفنن في اقتناص الثغرات لأجل ذاتيتها و أنانيتها. لتبقى جدلية الشرعية القانونية والرقابة الذاتية قائمة، تؤكد اختلال موازين الإدراك البشري، والتفاوت في نضج الإرادات،بين التيتلتزم بما هو إنساني وأخلاقي وتمارس الرقابة الذاتية المسؤولة من تلقائيتها وبينالتي تخضع للقوانين المادية والمجردة والمفروضة.
روح القوانين
أُخد العهد في المجتمعات المعاصرة على تنزيل الشرعية القانونية منزلة الأصل والمرجع في كل معاملات المؤسسات والمنظمات، وتدعيمها بترسانة من النظريات والأفكار المجردة، التي غدت مرجعا للإنسانية في زعمهم،كتوماس هوبز الذي نظر للقانونية والتعاقد الاجتماعيمن منطلق أن "الانسان شرير في طبعه"، وأن "الإنسان هو ذئب لأخيه"، أومونتسكيو، مؤلف كتاب روح القوانين والمؤسس في نظر الكثيرين لعلم السياسة وفقه القوانين، الذين وطدوا نظرياتهم وفلسفاتهم القانونية المادية، كمقاربة وحيدة يمكن أن تنضبط إليها المجتمعات وتتمكن من الاستمراريةدون تقاطعات مهلكة لها، ولتبقى علاقات الناس محصورةفي ميزان الغلبة لمن له الحق، دون إرهاف القلوب لما هو دين ورحمة وخلق قلبي.
مقاربة وحيدة وقانونية صارمة تنفر القلوب عن إنسانيتها، ولا تخاطب في المجتمعات فطرة الانتماء ولا الولاء لما هو أخلاقي وروحي، تغني العباد والبلاد من لهيبالأنانيات وقواصم الفوضى المقننة التي تجعل المحاكم غاصة بالناس، وقد استبدت بهم الروح التشريعية القانونية، فيقاضي فيها القريب قريبه والزوج زوجته والابن والده، ولتختفي في المجتمعات أواصر المحبة والليونة والرحمة. وهو عكس ما جاءت به التشريعات السماوية التي تخاطب القلب والعقل خطاباإيمانيا إنسانيا، يأسس لما هو أعظم من القانونية المادية، المقنعة والملفعة في رزمة مصالح وحقوق وواجبات دنيوية، لا روح ولا غاية لها، سوى تنظيم القطيع المتحضر الديمقراطية في إطار مجتمعي حظاري مثالي، ولا شيء بعد ذلك. فيخترق الخطاب القرآني جدار التطبيع الفكري مع الغرب ،ويتجاوزه إلى أفق يُأسّس على قانونية الرقابة الذاتية والقلبية، التي تجعل من تفاعل الناس وسعي المؤسسات واجتماعها وسيلة توصلها إلى غاية عظمى، جاذبة للإرادات، ومعينة على رقابة الذات، وتقييمها وتقويمها، دون أية روادع أخرى، قانونية خارجية. فقد تكون القوانين والتشريعات المجردة من روح الانسانية وبالا على مجتمع لا يؤمن بالعفو والصفح والتجاوز، أو قد لا تجدي القوانين وحدها إن خالط النص القانوني رغبة في التنصل من الواجبات المجتمعية ومن رقابة أعين السلطات، وأطلق الشخص المتمرد على القوانين عنان نفسه لخرق كل القوانين وانسيابه الغير مضبوط في المجتمع.
حكمة إنسانية
ومع ذلك، فلا يختلف اثنان على أن ترسيخ منظومة قانونية تدبر منطق التدافع المجتمعي بين مكوناته المختلفة، المتكاملة والمتداخلة والمتصارعة واجب ملح وضرورة حتمية، إلى أن تعم اليقظة القلبية المؤسسة للرقيب الذاتي والشرعية القلبية كل الأمة الإسلامية، وتكون البديل المعنوي لمؤسساتها ومجتمعاتها عن الشرعية القانونية المادية والجافة. بديل معنوي لا يلغي دور القوانين والتشريعات، بل يزكي عامل الرقابة الذاتية المتصلة برباط متين، يجمع الأمة في تراحم قلبي، وأخوة جامعة.
لذلك كان لزاما على كل فعل جماعي، كيفما كان صغيرا أوكبيرا، كالعمل الاجتماعي بالأحياء، أو المبادرات التطوعية، أن تنخرط في مسلكها القانوني وأن تتبع المساطر القانونية والإدارية المنظمة لعملية التواصل والتفاعل في المجتمع، من خلال تأسيس إطارات مجتمعية ومؤسسات تحتكم في تصرفاتها إلى قوانين عامة وخاصة، كالجمعيات الخيرية والمؤسسات التطوعية والمنظمات الغير الحكومية التي تشتغل في ظل القوانين الرسمية، التي تضفي عليها صفة مجتمعية، وكيانا معلوما وإطارا واضحا، تعرف أهدافه ومقاصده.فيعمل المتطوع على تنمية مساهمته وترشيد تطوعه من خلال هذه المؤسسات، باستخدامه لآليات الإدارة والتسيير التي تضمنها قواعد المؤسسة، وبتسويقه لأفكار ومشاريع يتم تنزيلها بالشراكة مع باقي رواد المؤسسة، حتى يجدي فعله وتنتفع المجتمعات بتطوعه وجهده.
وقد أسس الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله لحكمة الشرعية القانونية والعلنية عقودا مضت ، لتضيء معالم مجتمع لازالت ثقافته لم تبارح نمطا تقليديا في حراك عناصره وتفاعل جماعاته السياسية والخيرية والتطوعية آنذاك، في سرية وانكفاء على ذات المؤسسة التي يُنظر إليها كجسم غريب متطفل، أو كعنصر قاصر، لم يطل حكمة أسسها عقل معاشي، أبدع في تفاعل زماني آليات تنظيمية محكمة، تنير لكل منظمة أو جمعية أو حركة مجتمعية معالم طريق وتواجد وظهور. يقول رحمه الله "يضمر الفكر في غلس التخفي فينحرف العمل في الضالات الحركية"[1]
إذ كيف لفئة مجتمعية التقت على مشروع تسعى لتحقيقه بوسائل وأهداف تضمرها في ذاتها، انبرى منها آحاد أفرادها بنية صادقة أو عكس ذلك، ليمارس أعمالا لا قانونية أو لا تنسجم مع الأرضية المتفق عليها، أن تحاسِب أو تحاسَب على ثمارها، من طرف مجتمع ينكر وجود تلكم المجموعة، لعدم انخراطها في مسلك قانوني سليم يضفي عليها وعلى فعلها رسمية مجتمعية، تنئ بها عن متاهات السرية وعدم القانونية. خاصة وقد تفرعت جذور مجتمع مدني، بمؤسسات تثرى، وهيمنت مع آليات التدافع والتنافس في سوق موار، على واقع يصعب فيه ضبط علاقات كل طرف بالآخر، مما يستلزم وضوحا في العملية التواصلية، للمنظمة أو المؤسسة في المجتمع، وتوخي منهجية صارمة في تعاملها الإداري مع الآخر، من خلال القوانين والوثائق الرسمية الإدارية التي تحفظ لها حقوقها المبدئية وتضمن لها حق التفاعل مع هيئات المجتمع المدني المختلفة. بل وتبصم لها على شهادة ميلاد تترافع بها في وجه من لا يعترف بتواجدها الفعلي إن خطاها تواجد قانوني. فلا تجزل النية الحسنة عند الضرر، ولا يكفي الإعلان عن المبادئ والأفكار دون تحصينها وضبط إطارها في صيغ تنظيمية مؤسسة ومؤطرة بقوانين وظهائر، تنظم العلاقة التبادلية المتكونة في مجتمع مادي تسوده مؤسسات معنوية، تخاطب العقل بالقانون، ولا مكان في قاموسها للرحمات القلبية.
رفرفة الفراشة
لن نكون حالمين إن كان مطمحنا هو شيوع الرقابة الذاتية والشرعية القلبية في المجتمع، دليلنا في ذلك قوله سبحانه " فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"[2]رقابة ذاتية تنظر في نفسها معية الله وعلمه واطلاعه سبحانه،الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فتكون دافعا للذات الانسانية المنصهرة في المجمع المأمورة بالاستقامة لتجتهد في تحصيل فضائل الخير العامة، في النفس والمجتمع، في كل وقت وحين، إلى أن تثمر خلقا عاما و مسؤولية في المجتمع ،تطال كل شرائحه، ولا مبالغة في ذلك. فقد أكدت العلوم الحديثة على أن رفرفت الفراشة المتناهية في الصغر تكون سببا في تكون إعصار مدمر يضرب ضفة أخرى من عالم يبعد عن الفراشة بآلاف الكيلومترات. فإن كانت رفرفت الفراشة سلاحا قد يفتك بالبشرية ولو بعد حين،فإن رفرفت القلوب الحية الخافقة بالاستقامة والخير في المجتمعات تثمر لا شكأخلاقا عامة ورقابة ذاتية ورحمة تسود فوق الأنانيات والقوانين الجافة، تكون عاملا حاسما في نهوض المجتمعات الاسلامية من غثائيتها إلى ريادة تكون الرقابة القلبية أحد مقوماتها.
mort
societe civile morte
المجتمع المدني تم قتله..و لم يبق سوى جمعيات مشبووهة تأخذ المال و تخرب المجتمع