التعليم بالمغرب و ظاهرة "الزحام"
بنلحسن هشام
منذ الصغر و نحن نسمع بظاهرة إسمها " الزحام" أو ما نعرفه أيضا في اللغة الفصحى ب'' الاكتظاظ". كنا و لانزال نعطي لهذه الكلمة حمولة و معنى سلبي، فحين كنا نستنكر فعل أو قول شخص ما، نخاطبه بالعبارة الدارجة المتداولة " واش كابر فالزحام؟!!" و حين يضايقنا أحدهم أو يظهر تسرعا لا مبرر له نقول" واش كاين شي زحام و لا نديروه!! ؟" بنبر ة السؤال الاستنكاري الذي لا ينتظر جوابا بقدر ما يشجب لهفة البعض المبالغ فيها أو محاولتهم سبق الجميع و تخطي رقاب الآخرين. بالرغم من أن ديننا الحنيف يخفف من وقع الاكتظاظ السيء على نفوس الناس و يدعوهم في الحديث الشريف إلى التراحم في حالة الازدحام " تزاحموا، تراحموا" ، فإن غالبية الناس تنفر من الأماكن المكتظة و تفضل الفضاءات الفسيحة و المساحات الشاسعة، حيث أن هذه الأخيرة تجد في معظم الأوقات وقعا جيدا في النفوس و قبولا طيبا لدى غالبية الناس. حتى منطق الحديث الشريف لا يدعو بالتأكيد إلى افتعال "الزحام" و خلق أجواء مكتظة و مختنقة، بل يدعو الناس إلى الرفق ببعضهم البعض حتى وإن كانوا في أماكن ضيقة أو مكتظة بسبب إقبال الناس على ارتيادها. مثال ذلك ما يقع في المساجد و الملاعب و الأسواق، ففي مثل هذه الأماكن يكثر الخلق و يتدافع الناس في بعض الأحيان و تتخطى الرقاب، و إن كان ذلك شيئا لا مفر منه، فالأحرى بمن يتحلى بالأخلاق الكريمة و الخصال الطيبة أن يرحم و يتراحم .
انتقلت ظاهرة الاكتظاظ إلى مدارسنا و إلى جامعاتنا و تجسد أمامنا معنى عبارة أخرى لطالما استعملناها لنستهزئ بمن نشكك في ذكائه و فطنته " واش قاري فالزحام؟". وكأن القدر ينتقم منا اليوم ليكون مصير أبنائنا و فلذات أكبادنا الدراسة حقا في "الزحام". أصبحت للأسف الشديد مجالات العلم و أماكن التلقين و التربية تعجز عن استيعاب أعداد كبيرة جدا من الأطفال و التلاميذ و الطلبة المساكين الذين لاحول و لاقوة لهم و لا يملكون المال الكافي للدراسة بالمعاهد الخاصة أو السفر للخارج لاستكمال تعليمهم. تفاقمت الأمور في الآونة الأخيرة و أصبحنا نسمع وزراء التعليم الواحد تلو الآخر يتحدث عن نقص الموارد و ضيق المدارس و الأقسام و أصبح منظر التلاميذ جالسين في صفوف متلاصقين بأعداد هائلة مألوفا لدينا.
يخرج علينا مؤخرا رؤساء الجامعات ليشتكوا من "الزحام" و من قلة ذات اليد و يشنفوا أسماعنا بمفردات كرهناها و مللنا ممن يرددونها من قبيل " الإكراهات" ، " الخصاص" و " الاستراتيجيات". ألا نملك في المغرب مصالح تخطيط على المدى البعيد، ألم نعلم بأنه سيأتي يوم، و عام دراسي و دخول جامعي تكتظ فيه جامعاتنا و تضيق أقسامنا و مدرجاتنا بتلاميذ و طلبة لا ذنب لهم سوى أنهم ثابروا و اجتهدوا و تلقوا العلم من المهد إلى "الزحام". تتكامل صورة المشهد الهزلي حين تستضيف قناتنا الثانية رؤساء الجامعات الواحد تلو الآخر ليطلع علينا الأول، و هو رئيس جامعة القاضي عياض بمراكش، و يحدثنا عن الاكتظاظ و كأنه "عرس" تتحاكى به جنبات الكليات و المدارس العليا المكتظة و تردد صدى زغاريده و أهازيجه جدران المدرجات التي لم تبنى بعد و "مدينة الابتكار" التي لم و لن يشهد لها العالم مثيلا، حسب أماني هذا الرئيس القادم من غياهب فرنسا.
تبا حقا لذلك المعلق الرياضي الأحمق الذي اخترع لنا هذا الوصف العجيب، فمنذ أن نطق تلك العبارة اللعينة و أيامنا كلها أصبحت "أعراسا". فتارة نسمع بأن هذه المباراة عرس رياضي و تارة أخرى يصف بعض السياسيين المنافقين انتخابات أو دخولا برلمانيا ب"العرس الديموقراطي"، و اللائحة تطول. لا بد أن مثل هذا الوصف العجيب الذي استعمله رئيس جامعة عريقة مثل جامعة القاضي عياض يستفز نفوس أولياء أمور الطلبة و يعتصر الغيض قلوب و أفئدة هؤلاء الطلبة المساكين الذين يضطرون إلى تقاسم مدرجات و أقسام بنيت لتستوعب المئات فإذا بقدرها المحتوم يفرض عليها استقبال الآلاف.
تلقي العلم في مثل هذه الظروف العصيبة يصبح تحديا عظيما و رحلة يشوبها الألم و المعاناة، لكن الإيجابي في الأمر أو ما سماه صاحب مقولة العرس ، "نصف الكأس المملوئة" هو أن الطلبة متأكدون من أنهم لن يخوضوا غمار هذه الرحلة الشاقة لوحدهم، بل سيرافقهم الآلاف و الآلاف على نفس الطريق، بل و في نفس القسم و المدرج و ربما على نفس الكرسي الدراسي و سيتزاحمون و ربما يتراحموا و سيفسح بعضهم لبعض في انتظار فرج قريب أو مخطط استعجالي آخر يخلصنا جميعا من هذا "الزحام" ، و ربما يطلع علينا وزير آخر أو رئيس جامعة متفائل ليعطينا الحل السحري بعبارة رنانة من قبيل " الزحام راه فالقلب" !!!