مدينة سيدي سليمان ونواحيها ما بين الأمس واليوم: من منطق التهيئة والبناء المدروس إلى منطق التأزيم والعشوائية

مدينة سيدي سليمان ونواحيها ما بين الأمس واليوم: من منطق التهيئة والبناء المدروس إلى منطق التأزيم والعشوائية

أخبارنا المغربية

 

إعداد : الحسين بوخرطة

عندما نتحدث عن التراجعات بمدينة سيدي سليمان ونواحيها، نستحضر ما بذلته سلطة الحماية من مجهودات استثمارية وتدبيرية من أجل رفع الاستفادة من خيرات المنطقة إلى أعلى المستويات. إن الأهمية التي أعطيت لمدينة سيدي سليمان ومحيطها في تلك الفترة كانت استثنائية بكل المقاييس. لقد تحولت المدينة ومحيطها القروي في زمن قياسي إلى مجال منتج وبمردودية كبرى، مجال جذاب بمقوماته الاقتصادية والطبيعية. لقد تولى المهندس والمهيأ المعماري الفرنسي إيكوشار مبكرا وبنفسه إعداد مخطط للتهيئة للمجال الحضري، مخطط لا زالت تحتفظ به السلطات العمومية والفعاليات المحلية كذكرى بارزة في تاريخ التمدين وكقيمة هندسية ومعمارية بالمنطقة. الأهم من كل هذا، حرص هذا المهندس على ضمان التنفيذ المتوازن لهذا المخطط، توازن كانت الغاية منه، بشهادة الفرنسيين والمغاربة، تحويل المدينة إلى مجال حضري بمقومات علمية (حياة حضرية بامتياز) وباقتصاد مجالي بمردودية كبيرة. لقد وصل حد الإعجاب بهذا الإنجاز إلى درجة تم نعت المدينة في أواخر زمن الحماية وبداية الاستقلال بباريس الصغيرة (petit Paris) . لقد كان مستوى التنظير في السياسة الحضرية والنجاعة في التنفيذ (التخطيط والتدبير الحضريين) عاليا جدا إلى درجة مكنت من تحقيق الترابط الوثيق بين وثيرة التمدين (Rythme d’urbanisation)  ومستوى التطور الاقتصادي المجالي المحلي وخاصة الصناعي منه. لقد كانت أسس هذا التوازن في السياسة الحضرية مرتبطة أشد الارتباط بمعرفة وخبرة الفاعلين العموميين وبتوفر العقار الكافي في الملكية الخاصة للدولة، عقار شاسع مكون من رسمين مشهورين ومعروفين رقم الأول 16602 ويمتد من واد بهت غربا إلى محطة القطار الكبيرة ورقم الثاني، المحاذي للأول، 16603 (الذي بنيت على جزء منه المحكمة الابتدائية الجديدة). لقد شكل الرصيد العقاري الشاسع في الملك العام للدولة، إلى جانب ملكها الخاص، وعاءا مكن سلطة الحماية والدولة المغربية ما بعد الاستقلال من انجاز العديد من الاستثمارات الأساسية في مجالي الخدمات الاجتماعية والاقتصادية (بناء المؤسسات التعليمية، دار الشباب، مكتب البريد، والمعامل في مختلف القطاعات الإنتاجية المرتبطة بالفلاحة، القباضة، إدارة الأشغال العمومية، المستشفى البلدي، الدرك الملكي، ملعب الكرة الحديدية، معمل السكر، محطتي القطار، المركز الصحي لمحاربة الملاريا، الكنيسة، دار الثقافة، مصلحة الاتصالات اللاسلكية، دار الأطفال، دار الفلاح، المعهد الفلاحي لحماية النباتات، ملعب حسنية سيدي سليمان لكرة القدم،....)، وحول محيطها إلى ضيعات وجنان للفواكه والخضروات والحوامض بمختلف أصنافها. لقد تحولت المدينة ومحيطها إلى مجال شديد الاخضرار نتيجة استفادة المنطقة من عملية تجفيف «المرجات» ومدها بتجهيزات السقي الكبير (Grande Hydraulique) . كما تحولت عبارة «واد بهت» إلى رمز مجتمعي لوفرة مياهه ونقاوتها حيث أدمجت في تسمية بعض المرافق وبعض الجمعيات (مقهى واد بهت، حانة واد بهت، جمعية واد بهت،...).

واليوم، وبالتأمل في حصيلة التدخلات في المجال الحضري زمن المغرب المستقل، وفيما آل إليه الوضع في المدينة ومحيطها، لا يمكن للمرء إلا أن يتأسف ويتحصر بحزن شديد. لقد أغلقت المنشآت الاقتصادية، وتفشت ظاهرة السكن غير اللائق، وزادت حدة رداءة الخدمات العمومية خصوصا الاجتماعية منها، ورداءة جودة التجزءات والتجهيزات المتعلقة بها نتيجة الاحتكار في مجال التعمير والهندسة المعمارية ومنطق تعامل السلطات الإدارية معه، وإفلاس الشركات الفلاحية المعروفة وعلى رأسها صوديا وسوجيطا،...إلخ. والشيء الخطير الذي تم تسجيله خلال هذه المدة يتجلى بالخصوص في سوء التدبير العقاري بالمدينة خاصة ما عرفه الوعاء العقاري برسميه السالفي الذكر من عشوائية مقصودة في الاستغلال والاستعمال. لقد عرف هذا العقار عددا كبيرا من التفويتات لم تخدم في مجملها الاقتصاد المحلي ولا التنمية البشرية والاجتماعية، بل مكنت العمليات المتكررة لبيع أجزاء منه (من مستفيد لآخر) إلى إغناء مجموعة من الأشخاص أصبحوا يشكلون اليوم طبقة نافذة في المدينة، بل ويشكلون شبكات زبونية تؤثر بقوة بشكل مباشر أو غير مباشر في المشهد السياسي المحلي. فما عرفه المجال العقاري من عمليات بيع زبونية توج بخلق منظومة قوية غير رسمية تشارك، بكل ما لديها من قوة من أجل تنمية امتيازاتها من خلال دعم بعض النخب الموالية لها (المسخرة لخدمة مصالح الفئة السائدة عوض دعم وخدمة مصالح الساكنة) بالمال ومصادر النفوذ المعروفة، إلى درجة أصبح من شبه المستحيلات، بدون تدخل قانوني صارم لسلطة الدولة لتصحيح الوضع المتأزم، التفكير في إنتاج نخب جديدة على أساس الكفاءة والخبرة والمعرفة والمسؤولية وحب الوطن والغيرة على مستقبل البلاد (الحق في التنمية المحلية والجهوية والتقدم في تحقيق التوزيع المتكافئ للسكان وللأنشطة الاقتصادية بين جهات المملكة). وهنا، ونحن نتابع ما تبذله بعض النخب النزيهة من مجهودات نضالية بمنطق معين، محاولين التأثير على التوازنات قصد تحسينها، ينتابنا إحساس بعدم وصولهم إلى هدف تحريك "المياه الراكضة" المحروسة ما لم تبادر الحكومة الحالية إلى دعم النزاهة الانتخابية من خلال الحث على المصداقية والدقة في شروط الترشيح. فإضافة إلى تأثير المال والنفوذ المصطنع على الاستحقاقات الانتخابية، لا زالت النخب المحلية الكفئة والنزيهة تعيش ضغوطات تأثير تراكم المعطيات التاريخية بشقها القبلي والعشائري والمالي. فمدينة سيدي سليمان تحولت إلى عاصمة قبائل بني احسن في مرحلة ما بعد الحماية كمجال فضلته سلطة الحماية على مركز دار بلعامري. فبعدما كان مركز دار الكداري يلعب هذا الدور ما قبل الحماية بفضل قوة نخبه وعلى الخصوص قوة عائلة الكدادرة التي كانت على رأس قبيلة المختار بقوادها الأشداء في تلك المرحلة حيث امتدت سلطتهم في تلك الفترة ما بين الحدود مع قبائل الشراردة (بومعيز الحالية)، والحدود مع الغرب المحدودة بواد سبو، إلى مدينة سلا (كان يطلق على القائد محمد الكداري قائد القواد الذي له الصلاحية المطلقة لمنح صفة القائد لبعض الشخصيات من قبائل اتحاد بني أحسن والتي يراها ملائمة لمنطقه وتستجيب لشروطه)، توجت مجهودات سلطة الحماية بتحويل منطقة مدينة سيدي سليمان إلى منطقة غنية وذات نفوذ ترابي قوي.

هكذا، مباشرة بعد توقيع عقد الحماية، دخلت فرنسا إلى منطقة الغرب بسهولة حيث أنشأت ثكنات عسكرية بها في كل من ميناء اليوطي بمدينة اليوطي أي مدينة القنيطرة حاليا، وفي دار بلعامري (تبعد عن سيدي سليمان بعشرة كيلومترات)، وفي باتيجان (petit Jean) أي سيدي قاسم حاليا. ومباشرة بعد إكمال الإقامة العسكرية، بدأ الخبراء والمهندسون العسكريون في انجاز المسح الطوبوغرافي لناحية دار بلعامري، التي اختيرت في البداية كمجال لاستقرار الفرنسيين المعمرين  (colons). فإلى جانب الثكنات العسكرية، تم نصب خيام عديدة للجندية الفرنسية وتم بناء إقامة كبيرة للحاكم الجهوي حيث تم اختيار موقع الإقامة العسكرية في أعلى هضبة بالمنطقة بجانب واد بهت لمراقبة كل الدواوير المجاورة: النعاعسة، أولاد بوجنون، ازهانة، أولاد ملوك، والخنافشة، وأولاد احميد، والطيسان، والحامة.

وبعد إتمام هذه المهام الأمنية والدراسات الاجتماعية والطبوغرافية والجغرافية، بدأت فرنسا ورش تجهيز المنطقة لتسهيل استغلالها حيث استثمرت منذ البداية في انجاز خط للسكك الحديدية يربط بين القنيطرة ومينائها ومدينة مكناس مرورا بدار بلعامري.

سيدي سليمان : النشأة والتطور

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، تم إنشاء السكك الحديدية سنة 1920 بين الدار البيضاء وفاس، وبناء الطريق الرئيسة الرابطة بين المدينتين السالفتي الذكر. وكان على رأس القوات العسكرية والوجود الفرنسي في المنطقة الرهيب هونري بريو (Henry Prio) الذي أنشأ أول ضيعة فلاحية كبيرة على أراضي خصبة وشاسعة بجوار النهر تجاوزت مساحتها مئات الهكتارات قرب الولي الصالح سيدي سليمان. إنها الضيعة التي يسميها اليوم سكان مدينة سيدي سليمان بضيعة «بريو» أو ضيعة التازي نسبة إلى الشخص الذي تمكن من تمليكها لفائدته .وبعد إتمام إنجاز هذه التجهيزات الحيوية، تولدت عند هذا الرهيب إنشاء قرية استعمارية سماها سيدي سليمان، نسبة إلى الولي الصالح السالف الذكر على شكل مركز استعماري. وتحول بذلك اهتمام الفرنسيين من دار بلعامري إلى سيدي سليمان.

وبعد دخول الفكرة حيز التنفيذ، أطلق اسمه على أحد أهم شوارع المدينة حيث نصب به لوحة كبيرة كتب عليها "شارع هونري بريو" نسبة إلى اسم مؤسس المدينة (شارع المقاومة حاليا). وبعد هذه المبادرة، تم تعميم تسمية الشوارع بأسماء شخصيات فرنسية وازنة أو أحداث مهمة تتعلق بالتاريخ الحديث لفرنسا كشارع الجمهورية (شارع محمد الخامس حاليا)، وشارع فرانسوا بيكار (شارع الحسن الثاني حاليا)، وشارع الماريشال اليوطي (شارع الأمم المتحدة حاليا)، وشارع باستور (احتفظ بنفس الاسم إلى يومنا هذا)، وشارع الجينرال منجان  (Mangin)(شارع الأمن حاليا)، وشارع الرئيس لامان (شارع الملعب حاليا)، وشارع الرئيس دومير. وشيدت بعد ذلك إقامة المعمر قرب البريد حاليا وكذا كنيسة كبيرة تحرص عمالة سيدي سليمان وتبذل كل الجهود من أجل تحويلها إلى مركز ثقافي وفضاء للجمعيات.

وبعد نجاح المستعمر في خلق مركزين للإقامة في المنطقة (دار بلعامري وسيدي سليمان)، أعطيت الانطلاقة لتنفيذ مخطط شبيه بمخطط مارشال خاص بالغرب وخاصة المحيط المباشر للمدينة، حيث أشرف على إنجازه هونري بريو المعروف بلحيته الطويلة آنذاك. ويتعلق الأمر بعصرنة الفلاحة وتحويل الاستغلال التقليدي للأراضي إلى ضيعات عصرية تشرف عليها شركات فرنسية كبيرة ممولة من طرف البنوك الفرنسية.

أما بداخل المدينة، فقد أسست شركات تجارية في المجال الفلاحي. وبعد نضج أشجار الحوامض والكروم، وبعدما أعطيت الانطلاقة لجني ثمار الضيعات الفلاحية بمختلف ألوانها سنة 1932، شيدت مصانع لتلفيف وتسويق المنتوجات وتصديرها إلى الخارج. وفي مجال البحث العلمي الفلاحي، قام المستعمر بإنشاء ضيعة نموذجية للتجارب الفلاحية والزراعية المسقية والبورية بتجهيزات عصرية (في المكان الحالي الذي يتكون من تراب معمل السكر SUNAB الذي أغلق مؤخرا بعد خوصصته، وتراب مطحنة الفلاح ومصنع الكومة، حيث تحولت إلى مشتل للتجارب تحت إشراف علماء وخبراء فرنسيين في الزراعة والفلاحة والبيطرة (يقطنون بعين المكان). وفي سنة 1926، أعطيت الانطلاقة لبناء سد القنصرة على واد بهت من طرف شركة سويسرية وانتهت الأشغال سنة 1934. وفي بداية 1932، أعطيت الانطلاقة لأشغال تشييد الساقية الرئيسية للسقي ( الساقية الكبيرة كما يسميها السكان) الممتدة على مسافة 40 كلم من بهب السنور ابتداء من الحدود بين زمور وبني احسن إلى منطقة الحريشة قرب سيدي قاسم لتصب في واد تهلي ( مشروع السقي الكبير). وموازاة مع انطلاق أشغال هذه الساقية الكبرى، بوشرت الأعمال لإنجاز السواقي الثانوية والثلاثية والقنوات الباطنية لتوزيع المياه لسقي 150 ألف هكتار (الدائرة المسقية لواد بهت).

وبعد هذه الإنجازات المنظمة في المجال وفي الزمن والمضبوطة من الناحية التقنية والواضحة من حيث الأهداف، أصبحت المدينة مجالا أخضر محاطا بالأراضي المسقية ذات الجودة العالية حيث امتدت القنوات لتشمل بعض الحدائق في وسط المدينة. وموازاة مع المجهودات الكبيرة في مجالي السقي الكبير والصناعة التحويلية الفلاحية على الخصوص، أعطت سلطة الحماية اهتماما بالغا لتوسيع الوعاء العقاري الفلاحي من خلال استصلاح الأراضي الفلاحية وتجفيف «المرجات» المائية التي تغطي مساحات شاسعة في منطقة الغرب والتي نذكر منها مرجة لجواد، ومرجة لكلاب، والمرجة الكبيرة، ومرجة للايطو، والمرجة الزرقاء، ومرجة قابات. وتوجت هذه المبادرة ببلورة مخطط لتجفيف «المرجات» واستصلاح أراضيها وتجهيزها، تلته انطلاقة للأشغال بوتيرة جد سريعة بدءا بحفر قنوات التجفيف والتي نذكر منها قناة لكلاب، وقناة الوحاد، وقناة البطحة، وقناة الهيدي، وقناة بهت سبو، وقناة اردم السفلى، وقناة تهلي، وقنا الحامة، وقناة بويدر، وقناة تيفلت بو، وقناة لابوكا، وقناة الفكرون، وقناة مادر، وقناة مضى، وقناة مارقتن، وقناة سمكات،... إضافة إلى العشرات من القنوات الثانوية التي تربط بين أراضي «المرجات» وهذه القنوات الكبيرة. واستمرت الأشغال الكبرى، التي شقت وسط الأراضي المجففة وديانا كبيرة باستعمال آخر الآليات التكنولوجية المخترعة آنذاك (الآلات والمعدات) كالجرافات الكبيرة «دراكلاين». وبعد إنجاز هذه القنوات، وإنهاء تجهيزها بالقناطر والخنادق والمسالك، ناهيك عن استصدار قانون لحماية هذه التجهيزات وصيانتها ( الظهير الشريف بتاريخ 01 غشت 1925)، تلته مجموعة من القوانين والمراسيم التطبيقية في مجال الماء، ومجال تفويت استغلال الماء، وتحديد المجال العمومي المائي، والحقوق المائية الخاصة، والماء الصالح للشرب، والمياه المعدنية، والمياه الجوفية، والمياه الحضرية، وأجراف الوديان، وأسرة الأنهار، وشرطة الماء، والاعتراف بحق الماء، وأداء واجبات استغلال الماء، وسرقة الماء، والمناطق المحمية،...الخ. كما تم الاهتمام بحماية صحة المواطنين من خلال إجراءات تقنية بيئية تتعلق بمحاربة «الناموس» من خلال إتلاف أعشاشه وبيضه التي كان يضعها في ضفاف «المرجات» و"الضايات" والأنهار. وكإجراءات مصاحبة لحماية السكان من قسوة الطبيعة، تم تنظيم عمليات دورية لمحاربة الأعشاب الضارة والتي تحوي أعشاش الحشرات ك"البردي"، و"السمار"،... وإزالة الأوحال، ورش البترول «المازوط» على المياه الراكدة، وتسميم نقط الماء بواسطة الحوت الصغير، وتوزيع "لاكنين"، و"الجير"، و"جافيل" على السكان.

وحسب مجموعة من الشهادات، لقد تحولت سيدي سليمان في زمن قياسي إلى منطقة خضراء بمياه نهرها الصافية الغنية بالثروة السمكية، وأصبح مجالها الترابي فضاء للتسلية والسباحة وممارسة هواية الصيد. كما عاشت المدينة اكتفاء ذاتيا في مجالات عرض الخضر والفواكه والسكر والبواكر والحوامض.... كما خلقت هذه الاستثمارات الكبيرة عروضا جد كافية من فرص الشغل، بل تجاوزت الطلب بكثير، مما أبرز الحاجة إلى جلب العمال من مناطق أخرى ( الهجرة من القرى المحيطة بالمدينة ومن المدن الأخرى المجاورة والمناطق الأخرى للعمل في الحقول والضيعات). كما اختص الوافدون من قبائل الريف في مجال حراسة المنتوج الفلاحي قبل جنيه أو ما يسمى ب"الغلة" (التكلف بما يسمى بالعامية «بالعسة») ، والوافدون من القبائل الصحراوية في حفر الآبار. وهكذا تحولت المنطقة إلى جنان ومساحات خضراء بمردودية كبيرة في مجالي الفلاحة والصناعة وتربية الماشية... ونظرا لهذا الازدهار عرفت المدينة إقبالا كبيرا حيث استقطبت أهل سوس (تجارة المهارة)، وبعض العائلات الفاسية (برادة، بلامين، بنعبد الله، ومامول،...) بأموالهم وعائلاتهم.

ونتيجة للتطور الفلاحي والصناعي بالمنطقة، أنجزت سلطة الحماية مخططا للتنمية كانت الغاية منه ضمان الاستغلال العقلاني للثروة المائية الهائلة التي تزخر بها المنطقة، وتحويله إلى دعامة أساسية لتحويل الغرب إلى إحدى المناطق الغنية فلاحيا وصناعيا في إفريقيا الشمالية. وتضمن هذا المخطط في شقه الصناعي خلق مجموعة من الوحدات الصناعية التي دعت الحاجة إلى برمجتها على المستوى القريب والمتوسط والتي نذكر منها: محطات للتجفيف والتلفيف وتصدير الفواكه والخضر، معمل لصناعة الكلأ المصنوع من بقايا الشمندر وقصب السكر والفواكه والخضر، ومعمل لصناعة «المربا» وتعليب الفواكه والخضر، وتوفير الحاويات العصرية الكبرى لتخزين الحبوب والأرز، ومعمل لتجفيف أوراق التبغ، ومعمل الزيوت والتصفية، وتوسيع معمل السكر، ومعمل للحليب ومشتقاته، ومحطة كبيرة للتبريد....إلخ.

سيدي سليمان اليوم: تراكم الإخفاقات التدبيرية والمبادرات العشوائية غير المدروسة

نتيجة لتراكم الإخفاقات التدبيرية ما بعد الفترة الحماسية لفجر الاستقلال، سرعان ما تحولت مدينة "باريس الصغيرة" إلى حاضرة للنوم. لقد عبرت التراكمات عن فشل ذريع في التدبير العمومي والسياسي للمدينة ونواحيها إلى درجة أصبحت فيها السياسة مرتبطة أكثر برفع نسب المشاركة الانتخابية بالأموال الوسخة (شراء الذمم). وبذلك ابتعدت المسؤولية التدبيرية عن المعرفة العلمية والاختيار السياسي المسؤول للنخب المحلية لصيانة التراكمات والزيادة من وتيرة الإنجازات التنموية بروح وطنية وتعبئة شاملة للمجتمعات المحلية. فباستثناء الفترات الأولى المغمورة بالروح الوطنية ما بعد الاستقلال والتي كان عنوانها البارز إعطاء الانطلاقة لورش الإصلاح الزراعي والصناعة الفلاحية والتنمية القروية (ما قبل 1976 حيث أكدت مصادر موثوقة الحضور المستمر للقيادات السياسية الوطنية إلى المنطقة وعلى رأسها المهدي بنبركة)، فقد عرفت المنطقة منحى فتح الباب لصراع المصالح الشخصية على مصراعيه على حساب مستقبل الساكنة. بالطبع لم تجن المدينة ونواحيها في آخر المطاف إلا الفقر والفشل الذريع في سياق مجال جغرافي يعد من أغنى المجالات وطنيا.

ونتيجة لسوء التسيير، وضعف السلطة العمومية في مجال المبادرة والمراقبة والتقييم والتنسيق، تحولت المدينة إلى فضاء للفوضى يصعب العيش به (احتلال الملك العمومي الخاص والطرق الوطنية من طرف الباعة المتجولين، ووسائل النقل غير القانونية، وفوضى في السير والجولان،...). أكثر من ذلك، تم الترخيص لبعض المقاهي لفتح خدماتها أمام الشباب 24/24 ساعة حيث تعرف إقبالا كبيرا طوال الليل والنهار. فالشباب يسهرون الليل وينامون طوال النهار، أما الفئات العمرية الأخرى وأغلبهم الموظفون ورجال التعليم فلا يجدون غير فضاءات المقاهي للترفيه عن النفس (فتح نقاشات روتينية يشوبها التكرار، لعب "الكارطا" و"الرامي"،...). إن الديناميكية الاقتصادية التي عرفتها المدينة في السنوات الأولى بعد الاستقلال لم يكتب لها الاستمرار حيث سرعان ما تحول الحماس الوطني إلى صراعات على المصالح توج بتراجعات مستمرة بسبب سوء التسيير وطغيان الذاتية على الروح الوطنية. ونتيجة لتراكم السلبيات وتأثيرات السلوكات الفاسدة، كل الوحدات الإنتاجية أغلقت، وكان آخرها معمل السكر الكبير، ولم تبق إلا البنايات الضخمة الفارغة في المنطقة الصناعية الشاسعة الممتدة من المحطة الصغيرة إلى المحطة الكبيرة للقطار. أكثر من ذلك لقد تحولت مساحات شاسعة بها إلى تجزئات سكنية.

في مجال التنمية المجالية، إلى جانب انتشار السكن غير القانوني والعشوائي خصوصا في الجهة الغربية، وجد الشباب والأطفال والأسر أنفسهم أمام انعدام تام للمجالات الرياضية والترفيهية، ووجدت الساكنة نفسها أمام أحياء ببنايات فوضوية تنعدم فيها المجالات الخضراء، والمرافق والفضاءات الخاصة بالأطفال والشباب، والتجهيزات الأساسية. فدار الشباب الوحيدة بالمدينة تعاني ولا تستضيف إلا عددا قليلا من الزبناء لضعف تدبيرها وسيطرة بعض الأشخاص على مجلس الدار من خلال فبركة مكاتب النوادي المختلفة (منطق "الانزالات"). لقد اختفى كل شيء جميل من مسرح، وسينما، وترفيه، وموسيقى، ورياضة، وتكوين، وتأطير جمعوي في مختلف المجالات.

في مجال الرخص الحرفية، تعيش المدينة فوضى عارمة حيث يعم الأحياء ضجيج الآلات الصناعية كآلات النجارة، والميكانيك، والتلحيم، وغيرها،...، ولا زالت المدينة تعرف انتشارا للأوساخ والنفايات في العديد من الأماكن لعدم تنظيم القطاعات الحرفية والتجارية وهيمنة القطاعات غير المهيكلة (Secteur informel) . كما عرفت المدينة ومازالت تعرف استغلالا مبالغا فيه للمجال العمومي في الأحياء السكنية، وفي الشوارع الرئيسية للمدينة، حتى بلغت الجرأة ببعض التجار بالشارع الرئيسي إلى كراء المساحات التي تفصل دكاكينهم ومتاجرهم عن الطريق المعبدة، مما يدفع المارة إلى احتلال الطريق الخاصة بالسيارات.

إجمالا، لقد خضع التدبير السياسي للمدينة ونواحيها لمنطق ارتجالي مقصود شل حركتها وحول مجالها إلى فضاء لممارسة الأنشطة الهشة وغير القانونية. لقد تم استعمال كل الوسائل لمحاربة المسؤولية والشفافية والكفاءة بالمدينة حيث تابعت الساكنة كيف تم خلق نخب اقتصادية محلية من فراغ وتحويلها إلى دعامة سياسية في كل استحقاق انتخابي. كما تم استغلال بعض المرافق العمومية ذات الطابع الاجتماعي سياسيا حيث تم على سبيل المثال تنصيب بعض الفعاليات المختارة على رأس جمعيات الرعاية الاجتماعية (بعدما بذلت مجموعة من الفعاليات مجهودات نشرت على صفحات هذه الجريدة لخلق التحول في تدبير هذه المؤسسات الحيوية عبر محاربة احتكار تدبيرها من طرف بعض النخب المحضوضة، تعيش اليوم هذه المؤسسات وضعا أسوء من سابقه بالرغم من توفر الوسائل). كما تم إعداد بعض الأشخاص وتحويلهم إلى منعشين عقاريين يلجؤون إلى شراء عدد كبير من البقع العقارية في أهم التجزئات المفتوحة، ويحتكرونها إلى حين الزيادة في الأثمنة،...إلخ. وفي مجال الخدمات، تم دعم بعض الأشخاص في بعض القطاعات المربحة كتموين وتنظيم الحفلات والأعراس وكراء الأسواق والفضاءات التجارية.

وعليه، فمن خلال التشخيص العميق لانتظارات عدد كبير من المثقفين والمتتبعين في المدينة، تمت ملاحظة تعلقهم بالأمل في التفاتة الدولة إلى هذه المدينة وتحملها لمسؤولياتها الكاملة في تقوية السلطة العمومية في مجالات التنمية المجالية والاجتماعية واحترام القانون ومواجهة المضاربات العقارية والاحتكار من خلال خلق جو تنافسي سليم بين المنعشين العقاريين ومن بينهم الدولة. فما عرفته المدينة وما تعرفه يحتاج إلى تدخل عمومي استعجالي من خلال إدراج مجالها ضمن المجالات ذات الأولوية في برامج الحكومة. فتوفر المدينة على وعاء عقاري شاسع تابع للملك الخاص للدولة، وتوفر المدينة على بنايات ضخمة وشاسعة في المنطقة الصناعية، وتوفر المنطقة على فرشة مائية مذللة، وعلى رصيد مائي سطحي (واد بهت وسبو)، وعلى أراض فلاحية خصبة، وعلى صناع تقليديين ماهرين في الخزف (جماعة الصفافعة) وفي مجالات أخرى... يعتبر في نظر الساكنة مكتسبا يجب أن يكون محفزا للدولة لتمكين المدينة ومحيطها من الاستفادة من البرامج التنموية الحكومية. لقد حان الوقت لبلورة مخطط تنموي محلي وإقليمي قابل للتفعيل تساهم في تمويله وتنفيذه مختلف القطاعات الحكومية بإشراك الفعاليات والجمعيات الفاعلة المحلية.

خلاصة

لقد حان الوقت لتفادي التناقض الحاصل بين امكانيات المنطقة ومستوى فقر ساكنتها. فخيرات المنطقة يجب أن تساهم في الرفع من المستوى المادي والمعنوي للسكان صونا لكرامتهم وتقوية لمقاومتهم للفساد الانتخابي والإداري. وكما سبق لنا أن أشرنا إلى ذلك تحتاج المنطقة (مدينة ودائرة سيدي سليمان) إلى تقوية التكامل الاقتصادي مع محيطها خاصة مع تراب جماعة القنصرة وذلك من خلال تهيئة بحيرة سيدي الشيخ («اللاك») إلى فضاء سياحي قروي كما كان زمن الحماية (ينضاف إلى الفضاء الترفيهي والاجتماعي في طور الإنجاز على تراب جماعة القصيبية محاديا للطريق الوطنية في اتجاه القنيطرة)، وجعل الإمكانيات المائية والغابوية في خدمة التنمية المجالية بالنسبة لقبائل زمور وبني احسن من خلال نهج سياسة مندمجة تنمي الرصيد الغابوي، وتعقلن استعمال الماء، وتساهم في التنمية الاجتماعية، وتمكين التعاونيات الفلاحية من السقي العصري (من المحتمل جدا أن تتم المصادقة على جهة الرباط الكبيرة التي تحتاج إلى تقوية الروابط الاقتصادية بين كل أقاليمها ومهما إقليمي سيدي سليمان والخميسات).

وفي الأخير نقول أن ارتقاء المدينة إلى مقر عمالة جديدة، وما تعرفه من أوراش مشاريع تنموية وتجهيزية جديدة مفتوحة وسط المدينة ونواحيها القروية (قد تم نشر لائحة هاته المشاريع على صفحات هذه الجريدة في صيف السنة الماضية)، بإمكانه أن يساعد المجال الحضري السليماني وساكنته من تجاوز إخفاقات مشروع تأه


عدد التعليقات (2 تعليق)

1

LARBI EL OUIGUEMANI

ENCOURAGEMENT

JE VOUS FELLICITE SUR CET ARTICLE QUI TRACE L'HISTOIRE DE NOTRE VILLE ET SUR LA MANIERE DONT VOUS AVEZ TRAITE LE SUJET, RESTE A S'AVOIR SI ON AURA DES ESPRITS QUI VONT COMPRENDRE LE MESSAGE OU PAS;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;

2014/07/26 - 02:25
2

Oumaima Beggar

Constat

سيدي سليمان لديها تاريخ غني وإمكانيات كبيرة، ويجب علينا جميعًا أن نتكاتف لتحقيق مستقبل أفضل للمدينة وأجيالها القادمة.

2024/07/23 - 02:38
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات
المقالات الأكثر مشاهدة