كجمولة:كنت صغيرة السن لكن متحمسة لتحمل المسؤولية وتحقيق أهداف البوليساريو

كجمولة:كنت صغيرة السن لكن متحمسة لتحمل المسؤولية وتحقيق أهداف البوليساريو

كجمولة بنت أبي ل"الأيام"

انتظمت في خلية التلاميذ بتنظيم البوليساريو وعمري 14 سنة



مسار مليء بالمحطات الساخنة بدأته كجمولة بيت أبي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي حينما التحقت بخلايا البوليساريو وعمرها لا يزيد عن 14 سنة، قبل أن تلتحق بحياة المخيمات بداية من تيفاريتي والرابوني، ثم انتخابها رئيسة لاتحاد النساء الصحراويات وعضوة بالمكتب السياسي للبوليساريو، ثم بداية مرحلة قادتها إلى العديد من الدول الأوربية والإفريقية ودول أمريكا اللاتينية... لدعم القضية التي عادت لتتراجع عن أفكارها بعد انفجار المخيمات في الأحداث الشهيرة في سنة 1988.


- قرأت في الكثير من المقالات استعدادا لإجراء هذا الحوار أنه تتم مناداتك تارة بكجمولة بنت أبي وتارة أخرى بكجمولة منت أبي، فأستسمحك في البداية إذا سألتك عن الإسم السليم؟


(تبتسم) كلاهما صحيح، بحيث إن كجمولة بنت أبي هو باللغة العربية ومنت أبي باللغة الحسانية.

- نستضيف في هذا الركن شخصيات عاشت تاريخا سياسيا أو مهنيا مثيرا كما حدث مع الشخصيات السابقة، فكيف سيكون عليه الحال بالنسبة لكجمولة بنت أبي أو منت أبي التي قضت سنوات في المخيمات وكانت عضوة بالمكتب السياسي للبوليساريو وسافرت لسنوات بهذه الصفة إلى الكثير من العواصم العالمية للدفاع عن أطروحة الجبهة قبل أن تعود إلى الوطن؟ فكيف كانت البداية؟ وكم كان سنك حينما رحلت إلى المخيمات؟ وكيف اقتنعت بتغيير المسار إلى الجبهة الأخرى؟

كل شيء بدأ حين انتظمت مع الكثير من شباب الصحراء في خلايا تابعة لجبهة البوليساريو بهياكلها وتصوراتها وأهدافها من أجل استقلال الصحراء، وقد التحقت بإحدى الخلايا في القطاع التلاميذي قبل شهر شتنبر 1975، وحينما تقرر الخروج من مدن الصحراء رحلت مع الكثير ممن توجهوا إلى المخيمات.

- متى التحقت بخلايا البوليساريو؟ وكم كان سنك؟ وكيف كانت الأجواء؟ ومع من كنت؟... حدثينا قليلا عن تلك البدايات التي قررت فيها كجمولة بداية مشوار سياسي آخر؟

كان سني أربع عشرة سنة حينما انتظمت في الخلية في القطاع التلاميذي التابع للتنظيم السياسي للبوليساريو الذي قام أطره بحملة سرية لتنظيم وتأطير الشباب والنساء والرجال، وقد شاركت في العديد من المظاهرات، خصوصا تلك التي تزامنت مع مجيء البعثة الأممية برئاسة "مونيكي"، والتي حملنا خلالها أعلام البوليساريو، وطالبنا برحيل الاستعمار الإسباني واستقلال الصحراء، وكانت معي في الخلية بعض الأخوات من نفس السن، منهن اللواتي عدن إلى المغرب واللائي ما زلن في المخيمات.

صحيح أننا كنا صغيرات في السن، لكن كنا متحمسات من أجل تحمل المسؤولية ومواصلة النضال بغية تحقيق الأهداف التي انتظمنا من أجلها في خلايا التنظيم السياسي، قبل أن يتقرر اللجوء إلى المخيمات، وقد كان السبب في ذلك هو الخوف الذي خلقته أولا المسيرة الخضراء لدى الساكنة المحلية بعد تردد انطلاقها من كل أرجاء البلاد إلى أقاليم الصحراء، وثانيا القناعة التي كانت لدينا بضرورة اللجوء إلى خارج الأقاليم الصحراوية والعمل على تنظيم الذات والتعبئة وصياغة الخطط الكفيلة بتحقيق الأهداف، وعلى رأسها استرجاع الأرض، وبذلك بدأت الجموع تلتحق بالمناطق التي كانت تسيطر عليها قوات البوليساريو مثل أمغالا وتيفاريتي...

أتذكر ونحن صغار أن كل واحد منا انتظم في لجن متخصصة في مهمات معينة مثل الصحة والتعليم... بالإضافة إلى المهمات التي يفترضها النضال السياسي، وفي المستوى الأول فقد انتظمت في لجنة في القطاع الصحي تحت إشراف مساعد طبي كان أكبر منا سنا، وقد كانت الأولوية في هذا الجانب هي استقبال الناس وتهييء الأجواء المناسبة لهم، بحيث كان عدد القادمين من المدن والقرى يفوق بكثير الحاجيات والإمكانيات الأساسية للعيش في تلك المناطق النائية والقاسية أيضا، بالإضافة إلى ما تخلفه الاشتباكات العسكرية بين قوات البوليساريو والقوات العسكرية المغربية من ضحايا يجب إسعافهم وتطبيبهم...

- كيف عاشت كجمولة الطفلة في هذه الظروف الجديدة؟

أغلب الذين خرجت معهم من الصحراء كانوا يعيشون ظروفا صعبة، وجلهم لم يكونوا يتوفرون على الإمكانيات التي يواجهون بها الظروف الجديدة القاسية، إذ لم يكونوا يتوفرون لا على الأغطية ولا الدواء ولا الأكل، بحيث كانت كل خيمة تضم أسرتين أو ثلاثا.
وفي تيفاريتي التي قضيت فيها حوالي شهر، كانت البنية التحتية ضعيفة جدا، ولم تكن المنطقة تتوفر سوى على بضعة منازل تركها الاستعمار الإسباني، بالإضافة إلى مركز عسكري كانت تشرف عليه قوات البوليساريو، أما المواد الغذائية التي كانت تصلنا من الجزائر فقد كانت قليلة.

- بماذا كانت كجمولة مكلفة في مخيم تيفاريتي؟

كنت في اللجنة الطبية المكلفة بتقديم النصائح والإسعافات الضرورية للساكنة في العديد من الخيام المتناثرة على مساحات متباعدة جدا، وهي نفس اللجنة التي كانت مكلفة أيضا بتقديم الإسعافات اللازمة للمرضى وضحايا الاشتباكات العسكرية بين الطرفين، وهي الاشتباكات التي لم تتوقف طيلة السنوات الأولى من الصراع، مع العلم أنه لم نكن نتوفر على الإمكانيات والوسائل الضرورية لهذا العمل، ف"تيفاريتي" لا تتوفر إلا على مستوصف صغير تركته سلطات الاستعمار الإسباني.

- وهل كانت كجمولة تقوم أيضا بالدور التعبوي السياسي؟

العمل السياسي هو المهمة المشتركة لدى الجميع، والعمل بنظام الخلايا لم يتوقف حتى ونحن في منطقة تيفاريتي، مع الإشارة إلى أنه جرت تغييرات على هويات الخلايا بعد التحاق أعضاء آخرين قدموا من مخيمات أخرى بأمغالا والمحبس...
ولا تنسوا أنه في ذلك الوقت كانت المنطقة غلي على إيقاع المواجهات العسكرية، وبالتالي فقد كانت الساكنة المدنية تبحث عن المخابئ ضمانا لسلامتها أولا، وهذا يعني أن التنظيم السياسي المتعارف عليه في الأدبيات السياسية لم تكن ظروفه متوفرة، حيث كانت الأولوية موجهة إلى إنقاذ الناس من الأخطار والعمل على استقرارهم وتوفير الظروف المعيشية الأساسية لهم.

- ألم تلتق كجمولة ببعض القيادات من البوليساريو في تلك الأوقات؟


نعم، التقيت بعضهم في أول قرية وصلنا إليها بعد الخروج من العيون في كلتة زمور، حيث التقيت بالمحفوظ علي بايبا رحمه الله، وإبراهيم غالي ومجموعة من القياديين الآخرين، وفي منطقة تيفاريري التقينا بالمرحوم الوالي مصطفى السيد في لقاء سريع وخاطف، تحدث خلاله عن عمليات التمويه الضرورية للحفاظ على الذات من كثرة الاشتباكات العسكرية، خصوصا في تلك المرحلة الدقيقة التي سقط فيها عدد كبير من الضحايا المدنيين.

- هل كانت كجمولة لوحدها في هذه الرحلة إلى تيندوف أم كانت برفقة أحد أفراد عائلتها؟

كل أفراد عائلتي بقوا في مدينة العيون باستثناء والدي، وهنا لا بد من الإشارة من باب التاريخ إلى أن هناك بعض الأسر التي غادر نصف أعضائها في انتظار التحاق النصف الآخر دون أن تتمكن من ذلك بسبب الحصار الذي ضربته السلطات الإسبانية على المدينة بالسلاسل الحديدية، وهناك أيضا بعض الأسر التي رحلت بأكملها، وهناك أسر حصلت من القوات الإسبانية على سياراتها العسكرية وأسلحتها للرحيل إلى المخيمات... ولذلك فإن الأغلبية الساحقة من العائلات الصحراوية منقسمة، والعائلات الصحراوية التي تجدها مجتمعة إما هنا في المغرب أو هناك في المخيمات تشكل استثناء.

- بماذا كانت كجمولة مكلفة في المرحلة الجديدة بالمخيمات؟


كانت مرحلة صعبة بدأت من نهاية شهر يناير 1976، لأنها كانت مرحلة البناء والبحث عن الانسجام مع المناخ الجديد، خصوصا أنني دخلت المخيمات خلال فترة شتاء بارد جدا، والمخيمات كانت قاحلة إلا من بضعة خيام وبضعة مراكز عسكرية متواضعة ومراكز أخرى أمنية لاستقبال المدنيين، لم نجد لا مواد غذائية ولا أدوية ولا أغطية في منطقة تنخفض بها درجات الحرارة إلى أقل من الصفر، وقد عايشت جيلا من الأطفال الصغار والنساء الذين قضوا في تلك الفترة القاسية، خصوصا بعد انتشار مرض الحصبة والإسهال، أما المساعدات الطبية فلم تكن تتجاوز بعض الأطباء والممرضين الإسبانيين...
لقد كان أول مخيم تقرر الاستقرار به هو مخيم الرابوني بسبب توفر باطنه على المياه، مع أنها كانت مالحة، وتركز العمل على شقين، الأول يتعلق بالعمل التأطيري السياسي والتعبوي، حيث شاركت في تنظيم المخيم إلى دوائر وفروع، كما هو الشأن بالنسبة للأنشطة السياسية الموجهة للنساء بخصوص شرح أهداف الثورة ومبادئها وموقفنا من المسيرة الخضراء ومن المغرب... وقد وجدنا صعوبة على هذا المستوى بالنسبة للساكنة التي لم تكن تستوعب هذا الخطاب بسبب الأمية، كما تركز العمل أيضا على توفير شروط العيش والتطبيب ومرافقة الأطباء الإسبان في مخيم الرابوني الذي سقط فيه الكثير، حيث كنا ندفن 6 إلى 7 أطفال في اليوم، وكانت سنة 1976 أسوأ سنة، قبل أن تفتح السلطات الجزائرية مستشفى تيندوف في الشهور الأولى من سنة 1977 والذي كان مجهزا بأجهزة في المستوى، وتدخل السلطات الكوبية على الخط من خلال المساعدات الطبية التي بدأت تصلنا في سنة 1978.


هكذا انتخبت عضو بالمكتب السياسي وعمري لا يزيد عن 23 سنة وهكذا فصلت عنه


- كيف انتخبت رئيسة للاتحاد النسائي؟


كنت قبلها رئيسة للخلية التي كانت تضم النساء فقط، وعددهن إحدى عشرة، لأن الأغلبية الساحقة من الرجال كانوا يعملون في الجيش، ثم انتخبت بعدها رئيسة للفرع الذي كان يضم عددا من الدوائر، وكل دائرة كانت تضم بدورها عددا من المخيم.

- كم كان سنك آنذاك؟

حوالي 17 سنة، وبعدها التحقت بالاتحاد النسائي في سنة 79/80، مع العلم أنه لم ينعقد المؤتمر التأسيسي للاتحاد السياسي في المذهب الشيوعي قبل أن أعود إلى المخيمات سنة 1984، وبدأت أشارك في العديد من الأنشطة في الخارج بداية من الجزائر وإسبانيا... بالإضافة إلى مرافقة الوفود الأجنبية التي كانت تحضر إلى المخيمات لأشرح لهم حقيقة الأوضاع وأقنعهم بعدالة القضية.

- ألم تلتق مع الرئيس الكوبي فيديل كاسترو حينما كنت تقضين فترة التكوين السياسي؟

التقين به في لقاءات مفتوحة دون أن يكون اللقاء مباشرا، لكني التقيت بزوجته بشكل مباشر، وبعدما عدت إلى المخيمات أتيحت لي الفرصة للمشاركة في مؤتمر اتحاد النساء الإفريقيات في الجزائر، ثم المشاركة في مؤتمر آخر في طرابلس في ليبيا قبل أن يعقد مؤتمر اتحاد النساء الصحراويات، حيث تم اقتراحي بشكل فردي والتصويت على رئيسة للاتحاد، وقد فوجئت صراحة لهذا الترشيح لأنني لم أكن أتوقعه.

- كم كان سنك آنذاك؟

حوالي 23 سنة، وقد كانت بداية مرحلة جديدة بمسؤولية أكبر، حيث تكلفت بهيكلة الاتحاد في الخيام والفروع، كما تضاعفت المسؤوليات على المستوى الخارجي من حيث الحضور للقاءات وللمؤتمرات والملتقيات الإقليمية والدولية، فسافرت إلى جل الدول الأوروبية ودول أمريكا اللاتينية والدول الإفريقية وبعض الدول العربية، وذلك من أجل التعريف بالقضية وكسب التعاون والود والدعم والمساعدة، وما زلت أتذكر مثلا الدعم السويدي الذي حصلنا عليه لتأسيس مدرسة لتكوين النساء في مجال الخياطة والطرز وفي محو الأمية.

- هل تتذكرين بعض الزعماء الذين التقيتهم في إطار هذه الجولات؟

الكثير من رؤساء الدول والوزراء وزعماء الأحزاب التقيتهم في أوربا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا والعالم العربي، ومنهم مثلا رئيس الموزمبيق آنذاك الذي قضينا في ضيافته مدة أسبوع، كما استقبلنا العقيد القدافي وزوجته صفية، والكثير من الرؤساء الأوروبيين، بمن في ذلك رئيس الاتحاد الأوروبي والكثير من زعماء أمريكا اللاتينية مثل رئيس البيرو ورئيس فينزويلا آنذاك ورئيس بوليفيا... وكتب لي أن التقى الرئيس "فيديل كاسترو" حينما ترأست وفدا إلى الديار الكوبية، كما أنني التقيت ببعض الإخوة والأخوات المغاربة في ملتقيات ومؤتمرات دولية، مثل عبد الرحمان اليوسفي الذي التقيته في مؤتمر الأممية الاشتراكية في سنة 1984 في مدينة براغ حتى قبل أن انتخبت رئيسة للاتحاد النسائي، والتقيت الكثير من الإخوة والأخوات في باريس وفي نيروبي...

- وكيف كان اللقاء مع عبد الرحمان اليوسفي؟

إنه رجل محترم، وقد تناقشنا حول قضايا عامة في جو يطبعه الهدوء والاحترام، وما زلت أتذكر أنه حينما كنت ألتقي كلمتي في مؤتمر الأممية الاشتراكية كان السيد عبد الرحمان اليوسفي جالسا في نفس القاعة يستمع، وقد قضينا في نفس الفندق عشرين يوما، كما أن اللقاء مع الأخت نزهة الصقلي، وإن ساده سجال سياسي من خلال مداخلاتنا بسب التصورات والمواقف المتناقضة، فإنه لم يخرج مطلقا عن حدود اللياقة التي يفترضها النقاش الديمقراطي، عكس الأنشطة التي عقدناها في هولندا، حيث تم التهجم علينا.

- كيف انتخبت كجمولة عضوة بالمكتب السياسي للبوليساريو؟

في الشهر الموالي من انتخابي رئيسة للاتحاد النسائي في شهر مارس 1985 انتخبت عضوا في المكتب السياسي، وكنا ثلاث نساء من مجموع 27 عضوا بالمكتب السياسي، حيث انتخبت إلى جانب "فاطيمتو علالي" التي ما زالت في الجهة الأخرى بالإضافة إلى الأخت السنية، وقد انتخب في هذا المؤتمر الأخ مصطفى برزاني وعمر الحضرمي وإبراهيم حكيم، بالإضافة إلى منصور عمر والبشير مصطفى السيد وسالم البصير والسالك بابا... والكثير من القيادات...

- ما هي المحطات التي لا تنسى لكجمولة وهي عضو بالمكتب السياسي إلى جانب هذه القيادات؟


هو ما جرى معي في أحداث 1988 حينما عبرت عن رأي مخالف للرأي السائد في المكتب السياسي للجبهة، وهو الحدث الذي يذكرني في دلالاته بما حدث معي حينما عبرت عن رأيي بخصوص أحداث "أكديم إيزيك".
كل شيء انفجر في سنة 1988 حينما بدأت تتواتر اعتراضات بعض القياديين الغاضبين من طريقة تسيير شؤون الجبهة بمنطق بعيد عن المبادئ الديمقراطية وقواعد التدبير المشترك، وقد انتقلت هذه الانتقادات إلى بعض المخيمات مثل مخيم "أوسرد" الذي طالب سكانه أيضا بإشاعة روح الديمقراطية والانفتاح...

لقد كانت الأجواء ساخنة جدا، لكن كان بالإمكان حل المشاكل التي طفت على السطح ما دام أن أسبابها داخلية، لا أن يتم تعقيدها واتهام المخالفين لرأي القيادة بالخيانة والتنسيق مع المغرب، مع أن الجميع يعرف أن الحقيقة غير ذلك.

لقد تم طرد حكيم وعمر والحضرمي من عضوية المكتب السياسي، وتم وضعهم تحت الإقامة الجبرية، وحينما اتصلت بهؤلاء الإخوة للوقوف على حقيقة وطبيعة انتقاداتهم التي لم تكن تتجاوز حدود الاعتراض على طريقة التدبير وليس على مبادئ وأهداف الجبهة، اتهمت بدوري بالخيانة، وقد تزامنت هذه الأجواء المتوترة مع الاستعداد لعقد المؤتمر الوطني السابع في سنة 1989، وشاءت الظروف أن أتحمل مسؤولية الإشراف على التحضير للمؤتمر في مخيم "أوسرد" الذي كان قاطنوه يتحدرون من قبيلة أولاد الدليم التي ينتمي إليها القياديون المغضوب عليهم، ولأن منسق اللجنة التحضيرية عضو في اللجنة التنفيذية وهي أعلى جهاز بالبوليساريو، ولأن هذا العضو النافذ لم يكن متفقا مع مقاربتي بمنح الساكنة/القواعد الحق في التعبير عن رأيها حتى وإن كان مخالفا للرأي السائد، فقد عرفت هذه الاستعدادات مواجهات قوية انفجرت في المؤتمر الذي اتضح في أشغاله أن هناك الكثير من الغاضبين من طريقة تسيير الجبهة، وليس ثلاثة أو أربعة أعضاء بالمكتب السياسي.
لقد انتهى هذا المؤتمر بفصلي من عضوية المكتب السياسي ومن رئاسة الاتحاد النسائي، فكانت نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة مغايرة تماما لسابقاتها.


في المخيمات اتهمنا بالخيانة وفي المغرب يصر البعض على اتهامنا بالارتزاق
لم يكن قراري بالعودة إلى المغرب سهلا


- بعد أحداث 1988 بدأت مرحلة مراجعة المواقف؟


نعم، وقد بدأت في سنة 1990 واستمرت طيلة سنة 1991، خصوصا بعد استمرار القيادة في تصرفاتها في مواجهة كل من خالفها الرأي السائد، حيث كان يطلب من كل من يوصفون بالمغضوب عليهم تقديم نقد ذاتي، وهنا بدأ يظهر نوع من الانشقاق في صفوف القيادة تطور إلى ما يمكن أن نسميه بتشكل تيار جديد ناقم عما آلت إليه الأوضاع.

- هنا حدثت مشاداة كلامية مع عبد العزيز المراكشي بسبب مراجعة كجمولة لمواقفها؟
لا، هذه المشاداة الكلامية حدثت في اتصال هاتفي بعد عودتي إلى المغرب.

إن القيادة لم تكن تقبل اتصالي بالمغضوب عليهم، وربما اعتقدت أن طردي من عضوية المكتب السياسي ومن رئاسة الاتحاد النسائي قد يعيد الأمور في ما يخصني إلى نصابها، لكنني لم أقبل أن يتم عقابنا بهذا الشكل بسبب التعبير عن الرأي حتى وإن كان مخالفا لما هو سائد في القيادة، وفي هذه الظروف بدأت تتطور فكرة مغادرة المخيمات دون أن يكون المغرب من بين الدول المفكر في الاستقرار بها، وشاءت الأقدار أن قضيت فترة بمدينة برشلونة، حيث أجريت عملية جراحية على المرارة، وحين عودتي إلى المخيمات اقتنعت بضرورة مغادرتها بسبب الأوضاع التي أصبحت تخيم عليها على العديد من المستويات، خصوصا بعدما سحب مني جواز سفري الديبلوماسي الجزائري.

إن مراجعة الذات، ومنها فكرة العودة إلى المغرب، لم تكن سهلة، بحيث إن سنة 1990 التي قضيتها بالديار الإسبانية كانت كلها مخاضا عسيرا للإجابة على الكثير من الأسئلة الحارقة، ومما كان يزيد من صعوبة اللحظة التاريخية الأوضاع السياسية على مستوى القيادة في المخيمات والتي وصلت إلى الباب المسدود.

لم يكن قرار العودة إلى المغرب سهلا، فقد كنا نعرف أن المغرب يعيش بدوره أوضاعا إذا لم تكن في نفس السنة التي كنت قد بدأت فيها مشوار التفكير في الخروج من المخيمات، تم إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ومنهم الصحراويون، من معتقلات في مكونة واكدز في سنة 1991، وهذا ما جعلني أعطي نوعا من الاهتمام للتفكير في العودة إلى المغرب والنضال السياسي من داخله لتغيير الأوضاع، بما في ذلك العمل على إيجاد حل ديمقراطي لملف الصحراء، وقد اتصلت بي العديد من الشخصيات الصحراوية وغيرها من المغرب.

- من هي الجهات التي اتصلت بك من الدولة؟


جهات من وزارة الداخلية التي كانت تتحكم في الملف، كما تم الاتصال بي من طرف شخصيات مدنية من الصحراء لا داعي لذكر اسمها، لكنه لم يكن من السهل على من تربى على أن يكون منسجما مع مبادئه العودة إلى المغرب بسهولة، خصوصا أن العائدين كثيرا ما يتهمون بالخيانة.
في المخيمات اتهمنا بالخيانة، وبالمغرب ما يزال البعض يصر على اتهامنا بالارتزاق.

- لم يكن قرار الاقتناع بالعودة إلى المغرب سهلا خصوصا أن الدولة المغربية لم تعلن حينها اقتراحها بشأن الحكم الذاتي؟

نعم، لكن الملك الراحل الحسن الثاني كان قد استقبل في سنة 1988 وفدا عن قيادة البوليساريو بمدينة مراكش واقترح عليهم مناقشة كل الحلول باستثناء استقلال الصحراء.

- قبل أن تعلني العودة إلى المغرب عقدت ندوة بإسبانيا؟

نعم، في 14 نونبر 1991 بمدينة مدريد.

- ما هي خطوطها العريضة؟

أعلنت عن الأسباب التي جعلتني أقرر العودة إلى المغرب.

- وما هي؟

أسباب عديدة تتعلق بالأجواء التي كانت سائدة في المخيمات، كغياب حرية التعبير وحقوق الإنسان والديمقراطية في تسيير شؤون الجبهة من طرف قيادة لا تؤمن بالاختلاف في الرأي، وقلت في تلك الندوة إنني سأعود إلى المغرب مع أنني أعرف أنه يعيش ظروفا صعبة من حيث الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وهذا ما عشته في السنوات الأولى من عودتي، حيث في السنوات الأولى من عودتي، حيث منعت من الالتحاق بالأحزاب السياسية، وكان هذا قرارا لوزارة الداخلية على عهد البصري التي لم تكن ترغب في أن يلتحق العائدون بالأحزاب السياسية، فكان علينا أن نتجه للعمل في الجبهة الخارجية للتنديد بالممارسات التي تقوم بها قيادة البوليساريو، وهو العمل الذي استفاد منه المغرب بشكل كبير، بحيث سافرت إلى العديد من الدول لفضح الأوضاع بالمخيمات، لدرجة أن حقيبتي كانت دائما جاهزة للسفر إلى كل أنحاء العالم.

- يبدو أن تاريخ كجمولة كله محطات ساخنة حتى حينما إلى المغرب، حيث لم تقض إلا بضع سنوات في حزب الحركة الشعبية ثم قدمت استقالتها والتحقت بحزب التقدم والاشتراكية؟
لقد تعرفت على الأمين العام للحركة الشعبية في لقاء دعيت إليه عقد بمناسبة 8 مارس 1992 بالرباط، ثم تطورت العلاقة على وجه الخصوص حينما تعرفت على زوجته الصديقة، رحمة، وفي سنة 1997 اقترح علي الترشح للانتخابات التشريعية، لكن وزارة الداخلية كانت ما تزال ترفض ترشح العائدين، وفي سنة 2002 اقترحت وزارة الداخلية تعيين بعض العائدين في السفارات والقنصليات المغربية، واقترح علي منصب مستشارة في إحدى السفارات الأوروبية، لكنني عبرت عن رغبتي في دخول غمار السياسة، خصوصا بعدما اقترحت اللائحة الوطنية للنساء.
في هذه الانتخابات، اتصل بي امحند العنصر واقترح علي الترشيح في المرتبة الثانية للائحة الوطنية لنساء الحركة الشعبية بعد حليمة عسالي التي كانت وكيلة اللائحة، فوافقت وفزت بالمقعد البرلماني، فكانت البوابة لدخول الحياة الحزبية والسياسية.
مرت السنة الأولى في الحزب عادية، وفي السنة الثانية بدأت بعض المشاكل تتواتر بسبب تحكم امرأة عضو بالمكتب السياسي في تسيير شؤون الحزب وفريقه البرلماني، فتأكد لي أن الحركة الشعبية حزب أفراد وليس حزب مؤسسات، بما في ذلك امحند العنصر الذي كان بدوره لا يقوى على الصمود أمام ضغوطات أشخاص قياديين مع أنه الأمين العام، ولذلك قدمت استقالتي كتابة.

- وبعدها التحقت مباشرة بالتقدم والاشتراكية؟

اتصلت بي أولا بعض الأحزاب السياسية مثل الاتحاد الاشتراكي وجبهة القوى وحزب البيئة... لكنني اخترت التقدم والاشتراكية مع كامل احترامي وتقديري للأحزاب الأخرى.

- المحطات الساخنة لم تتوقف عند انتقادك للأمين العام للحركة الشعبية واستقالتك من الحزب، بل تجددت المواجهات في التقدم والاشتراكية مع سعيد السعدي بسبب المخيم الشهير "أكديم إيزيم".

إن الرفيق سعيد السعدي هو الذي قرر المواجهة حتى دون أن يستمع لموقفي في الاجتماع الأخير للجنة المركزية التي انسحب من أشغالها، وعلى أية حال فالرفاق يعرفون أن الرفيق السعدي لم يعد يحضر لأجهزة الحزب منذ المؤتمر الوطني الأخير، كم تبين في نفس اجتماع اللجنة المركزة أن عدد الذين ادعوا انتقادي على خلفية تصريحاتي للصحافة الإسبانية بسبب ما جرى في تفكيك مخيم العيون لم يكن ثمانين وإنما سعيد السعدي ورفيق آخر.

- وما هي باختصار ملاحظاتك حول ما حدث في مخيم "أكديم إيزيك" الذي جر عليك انتقادات من صفوف الحزب؟


قلتها وأعيدها، لم يكن مقبولا أن يتم التدخل الأمني بتلك الطريقة، وإذا صبرنا شهرا من أجل تفكيك المخيم بالطرق السلمية، فقد كان علينا أن نصبر يومين أو ثلاثة أيام أو حتى أسبوعا ليتم تفكيك المخيم دون مشاكل، وهذا ما قلته لوسائل الإعلام الإسبانية، وانتقدت طرق تسيير شؤون المواطنين من طرف بعض المسؤولين في الإدارة الذين لا تتم محاسبتهم، وقلت أيضا إنه يجب أن تنتهي مرحلة المقاربة الأمنية سواء في الصحراء أو في غيرها.

القصف الذي تعرضت له الخيام في تيفاريتي مرتين

كنت قريبة من الموت مرتين

- هل عاشت كجمولة لحظات أحست خلالها أنها قريبة من الموت؟

نعم، وكان ذلك في بداية شهر يناير 1976، حينما تعرضت منطقة تيفاريتي لقصفين، الأول كان في الساعة الخامسة من يوم الجمعة، والثاني في الساعة الخامسة من يوم الجمعة، والثاني في الساعة العاشرة صباحا من يوم الإثنين الموالي، وقد انفجرت قنبلة "النابالم" في القصف الأول دون أن تخلف قتلى لأنها سقطات بجانب منطقة تيفاريتي، مع العلم أن الجميع كان يوجد في المهرجان الخطابي الذي كان يترأسه أحد قادة البوليساريو.

أتذكر أن القنبلة سقطت في نفس الوقت الذي كنا في اللجنة الطبية تتناقش حول النصائح الطبية التي يجب أن نلقنها للمشاركين في المهرجان، مع العلم، أن الإمكانيات الطبية التي كنا نتوفر عليها كانت ضعيفة من قبيل (تبتسم) حبات "الأسبرين" والضمادات وأشياء من هذا القبيل، كما كنا ننقل الجرحى من الخيام المتناثرة في سيارات البوليساريو العسكرية لأننا لم نكن نتوفر على سيارات الإسعاف... في الحقيقة، عندما أعيد هذا الشريط أتبين أننا أقدمنا على مغامرة بما في الكلمة من معنى.

مباشرة بعد هذا القصف دخلنا مرحلة جديدة اتسمت بحفر الخنادق للاختباء فيها، وقد كنا نقضي بداخلها فترة النهار ونغادرها في الليل إعداد الطعام الذي سنتناوله في الليل، والذي لم يكن يتجاوز بعضا من الخبز الذي نعده عبر وسائل بسيطة للغاية والشاي والعدس والزيت، وخاصة علب السردين التي كنا نتوصل بها من خلال المساعدات... وقبل حلول الفجر نعمل على إخفاء معالم هذه الحياة مخافة اكتشافها من طرف الأجهزة المتطورة للطائرات العسكرية المغربية، أن منطقة تيفاريتي قرية صغيرة ومكشوفة، وقد قضينا حوالي شهر على هذه الطريقة.

في القصف الثاني الذي كان في العاشرة صباحا، سقط قتيلان، لأنه لم يكن الكل قد تمكن من حفر الخنادق، بالإضافة إلى أن هناك من اعتقد أن القوات العسكرية المغربية لن تعاود الهجوم، لكنها عادت وقصفت من جديد المنطقة باستعمال طائرتين متطورتين من نوع "سوبير سوني" السريعة، والتي لا يسمع صوتها إلا بعد مرورها، وما زلت أحس بالذعر حين أسمع صوت طائرة تكون قريبة من الأجواء التي أكون متواجدة بها.

مباشرة بعد القصف الثاني، تقرر الرحيل إلى المخيمات بالقرب من مدينة تيندوف، وهنا بدأت مرحلة جديدة انطلقت منذ نهاية شهر يناير من سنة 1976.


هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات
المقالات الأكثر مشاهدة