سعي نضالي غير مسبوق لقبر الاستبداد السياسي و هزم القهر الاقتصادي

 سعي نضالي غير مسبوق لقبر الاستبداد السياسي و هزم القهر الاقتصادي

حسن أبناي - أخبارنا المغربية


تمثل حركة 20 فبراير الفجوة التي ينفد منها سيل مطالب الشعب المغربي. فالقرى ظلت لعقود من الزمن تتخبط في بؤس فاضح، تحت رحمة فرق الدرك و أعوان وزارة الداخلية وجشع الفلاحين الأغنياء. وفيها تتجلي معضلات تأخر البلد وبقاء مهام الإصلاح الزراعي الشامل عالقا. كان مصدر الدخل في القرى هو الأرض، و أغلب القرويين يحوزون على ملكيات صغيرة أو في إطار حق الاستغلال لأنواع مختلفة من ملكيات الأرض ( أراضي الجموعء الأراضي السلاليةءأراضي الكيش...). إلا أن تغلغل الرأسمال الزراعي (النقد/السوق) والانفتاح علي الأسواق الخارجية إيرادا وتصديرا، جرف القرى خلفه ودمر توازن الإنتاج الطبيعي القائم بها.

كان لهذا التحول نتائج على الوضع الاجتماعي، تجلت في تركز القوة الاقتصادية في يد الفلاحين الرأسماليين و تدهور في وضعية الفلاح الصغير، فكبار الفلاحين من يملك القدرة علي شراء أراضي شاسعة و القيام باستثمارات ربحيتها ليست الآن وهنا، ولهم القدرة على التكييف مع زيادة أسعار الأدوية والأسمدة والآلات وغيرها، وفي مقدورهم صرف الأموال الكافية للتجهيز و التأطير، وينسجون العلاقات مع مراكز البحت الوطنية والهيئات المشرفة علي القطاع، ويحصلون بيسر علي القروض، و هم متكتلون في اتحادات للتسويق إنتاجهم محليا وخارجيا، ولهم القدرة علي التفاوض وفرض مطالبهم و إرادتهم.

أما الفلاح الصغير فيقاتل مثل الدونكيشوط ليحافظ علي قطعته الأرضية البئيسة، متحايلا علي صنوف الصعاب مخضعا كل أفراد أسرته لأعمال شاقة لا تنتهي ومتضرعا إلي السماء لتبارك جهوده، لكن في الأخير غالبا ما يضطر إلي التخلي عن أرضه كراء أو بيعا والاشتغال عاملا زراعيا أو ينزح إلي المدينة. أما أراضي الجموع وباقي أشكال الملكية الجماعية الموروثة عن حقب تاريخية سابقة فهي بما تمثله من خزان للوعاء العقاري، عرضة لنهب شرس وبصيغ متنوعة، كضمها للملك الغابوي في أفق تمليكها لرأسماليين خواص بألاعيب ملتوية و بتواطؤ من أجهزة الدولة. وبفقدان الفلاح الصغير للأرض تصبح الأنشطة المرافقة للزراعة من تربية للماشية و الاحتطاب والرعي... مجرد حكايات عن الأيام السعيدة يرويها صغار الفلاحين لأبنائهم.

انه مسلسل محموم لنقل الثروة من عموم كادحي القرى إلي أقلية مالكة نهابة تقوم بأكبر عملية نزع الأراضي مند الاستعمار الفلاحي للبلد.

أما المدن التي تشكلت بسرعة فائقة وبفوضى بالغة بفعل هجرة قروية كثيفة ومتواصلة وعجز قدرات الاستيعاب في المدن، فتفجرت بها أزمة السكن ونبتت أحياء القصدير والبناء الفاقد لأي معايير هندسية و أضحت كيتوهات لبشر العالم السفلي، بتواطؤ وتشجيع من موظفين اغتنوا من تلقي الرشوة مقابل غضهم الطرف، وصمام أمان للتنفيس عن أزمة السكن في فترات سابقة، قبل أن تتحول إلي معضلة اجتماعية قابلة للانفجار. جماعات العمال الشباب النازحين للباحثين عن فرصة عمل و المتجهين إلي مشاغل و ورشات العمل بالمدن ينتهي بهم المطاف إلي مهن "هامشية" وموسمية ومعرضون لغارات قوات القمع المرتشية أو حملات موسمية لمصادرة سلعهم البسيطة ودفعهم إلي أزمة، تدبرها يتطلب شهورا من التقشف البالغ.

شباب البلد يقارب نسبته النصف، يتعرض لسحق يومي وتحت توتر شديد، فالطلاب يتقاتلون علي من سيسعفه الحظ للحصول كرسي داخل الفصل الدراسي، فنسب الامتلاء العالية داخل الأقسام، والتدهور المريع في الشروط التعليمية من بؤس المنح الدراسية وانعدام المختبرات والخرائط وغياب الخرجات المدرسية وحروب يومية من اجل الحصول علي نقل مدرسي متهالك والخضوع لتعذيب دماغي في برامج ومناهج مفلسة يجمع كل التربويين علي فشلها الذريع ... و في آخر النفق بطالة مؤكدة.

عشرات الألوف من شباب المغرب بعد سنين من التضحيات الجمة ينتهي بهم المسار إلي بطالة قاتلة قد تسرق زهرة شبابهم إن لم يقبلوا بمهن لا تتلاءم لا مع تكوينهم ولا مع رغباتهم، في الأمر مفارقة تصدم الجميع، خصا ص هائل من المستخدمون المؤهلون في مختلف مناحي المجتمع والعجز في تلبية حاجيات اجتماعية أولية (أطقم طبيةء مدرسيينء التأطير الرياضي والتنشيط التفافي...) يقابله إهدار لا عقلاني لقدرات الشباب من مختلف التخصصات. علما أن آلاف الأطر و السواعد الفتية و المدربة تركب قوارب الهجرة إلى الخارج.

أما قطاع الصحة العمومية فهو معتل، و يتعرض لتخريب متواصل، يتجلى ذلك في قلة الأطر واشتغالها في ظروف بالغة الصعوبة و ضعف الطاقة الاستيعابية للمستشفيات مقارنة بازدياد أعداد المرضي والتجهيز القليل والعتيق مع إرغام المرضي علي الأداء. في حين يستنزف القطاع الخاص جيوب المواطنين بتشجيع من الدولة. وتتفجر دوريا فضائح التلاعب وسرقات أموال المرضى بأساليب احتيالية متنوعة. علما أن المواطنين في القرى النائية محرمون من كل تغطية صحية و بعيدين عن المرافق الصحية، هذا ما يجعلهم فريسة أمراض على شاكلة سكان أنفكو بجبال الأطلس.

الملك الجديد :محاولات لتنفيس القنبلة الاجتماعية

بعد خمس سنوات من وصول الملك الحالي إلي الحكم، أطلقت الدولة حملة إعلامية ضخمة و جندت كل طاقاتها من اجل تدارك هوة الإقصاء الاجتماعي الحاد وكان رأس رمحها "مبادرة التنمية البشرية" و في حقيقتها ما هي إلا ترجمة لتوصيات صندوق النقد الدولي. لكن بالرغم من الضجيج الإعلامي والتلاعب الفاضح بالأرقام والتواريخ واقتناص أي تصريح لجهة أجنبية تصبغ الإطراء علي هذه السياسية ما انفكت مراتب المغرب في سلم "التنمية البشرية" تتراجع مما يصيب ممثلي الدولة بالدوار .

إن حقيقة البؤس الاجتماعي أشد قتامه من أرقام المؤسسات العالمية وفاضح بالرغم من كل الألاعيب المكشوفة لتقارير المؤسسات المغربية الرسمية، هول الفقر ورعب أرقام البطالة وشروط العمل القروسطية المفروضة علي الشغيلة اليدوية و مئات الألوف من الكهول والمعاقين و الهامشيين من شتي الأصناف، والأسر بدون معيل والعاطلون، أي مواطنو العالم السفلي، كلها صور من مستنقع عميق يحاول النظام المغربي تجفيفه بملعقة مثقوبة اسمها "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية".

ان مشاريع شق الطرق وبناء مركبات رياضية وتشيد الموانئ وارتفاع ميزانية الاستثمار العمومي ... تأثيرها الايجابي جلي علي فئة ضيقة من كبار الرأسماليين المغاربة والشركات الامبريالية المستفيدة.

فقد راكم الرأسماليون الكبار و المقاولات الامبريالية ثروات هائلة. فالشركات تتسابق للإعلان عن صافي أرباح سمينة في إعلانات مدفوعة و ناطقيها مزهوون بصعود أسهم مؤسساتهم. كما يتفاخرون بشراكاتهم مع الرأسمال الأجنبي لنهب البلد واتخاذه قاعدة للنفاد إلي أسواق القارة الإفريقية. علما أن الرأسمال الكبير يستأثر بالصفقات العمومية الضخمة بطرق احتيالية ورشوة موظفين جشعين يغضون الطرف عن مشاريع مغشوشة. ويستفيد من تسهيلات ضريبية مجزية، و من الوعاء العقاري المجهز و كذا من يد عاملة زهيدة الأجرة و يتهرب علانية من مكملات الأجرة من ضمان اجتماعي وتأمين صحي. وينتهك قانون الشغل رغم ضعف ما يتضمنه من مكاسب لصالح الشغيلة .

أما الشركات الامبريالية فاستمرار أمين للعهود الاستعمارية، فالرأسمال الفرنسي يحضي بحصة الأسد متبوعة بالرأسمال الاسباني في إطار توزيع دقيق للكعكة يضطلع به النظام المغربي كوكيل يراعي المصالح العامة للطبقة البرجوازية المحلية والامبريالية.

إنهم بكل بساطة ينهبون المال العام ويهربون الثروات للخارج و يخربون البلد. ثراء فاحش لأقلية نهابة وفقر مدقع لأغلبية الشعب. ما كان لهذا الوضع أن يستمر لولا أنه ثبت بسيطرة ديكتاتورية دموية لا ترحم. السجون السرية المرعبة والآلاف المعتقلين وقوافل الشهداء والفصائل المتنوعة لأجهزة القمع وترسانة من القوانين السالبة للحريات ونظام قضائي فاسد وخاضع ، كل ذلك مكرس بدستور أوتوقراطي .

كلما طفح الكيل بكادحي الشعب وخرجوا للتعبير عن سخطهم و استيائهم، تقابلهم الملكية بحراب جيوشها القمعية وبمراكز تعذيب، وباختطافات من طرف أجهزتها السرية. ولا تكف عنهم إلا بعد أن تجفف منابع الغضب وتحصد الرؤوس النشيطة وعندما تطمئن من سحقها للشعب تعود إلي عادة نهب واستنزاف البلد بطريقة أشد ضراوة.

ما كان للملكية أن تنجح في تسلطها لولا خيانة الليبرالية الجبانة لمطامح الشعب، فمن الذي كرس الملكية المستبدة غير أحزاب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية في وقت كانت الملكية معلقة بخيط رفيع مقارنة بجيش تحرير شعبي ناشئ ونقابة الاتحاد المغربي للشغل ونهوض شعبي في خضم النضال ضد الاستعمار؟

من الذي مكن الديمقراطية الحسنية أن تستمر علي جماجم الآلاف المعتقلين في سجون الملك السرية وتحطم عظام الشباب اليساري وتطلق يد لصوص المال العام بدون رقيب وتسحق بدون رحمة كل تطلعات الشعب غير أحزاب إصلاحية بدون إصلاحات اصطفت بجانب النظام بمبرر الدفاع عن الوحدة الترابية ؟.

ومن هب لانقاد النظام من سكتة قلبية محققة غير أحزاب خانعة استسلمت وخضعت لإرادة النظام وشاركته في حكومة تسير أعمال في ظروف تعمق أزمته الشاملة؟

ومن غيرهم يبحث بجبن لخيانة مطالب حركة 20 فبراير الراهنة غير أحزاب مفلسة فاقدة لأية مصداقية تنكرت في كل المرات لبرنامجها وادعاأتها ولاهثة بوضاعة إلي فتات البلاط.؟

موسم ثورات الشعوب ضد الاستبداد

ألهمت الثورة التونسية المستمرة شعب مصر، فألهمت ثورة الأخيرة باقي العالم بعنفوانها الملهم وأساليبها المبدعة ومطالبها العميقة ونتائجها الباهرة استحوذت علي عقول وقلوب كل شعوب العالم، وأصابت المستبدين بالرعب فقد حان وقت تقديم الحساب.

كل الشعوب اكتشفت أن لها من الأسباب ما يجعلها تقاتل من أجل إسقاط مستعبديها. فالشبيبة بزغ ضوء ينير طريقها المظلم، لا مخدرات ولا هوس كرة القدم ولا العنف داخل الحارة ولا قوارب للموت في أعماق البحر، اكتشفت الآن أعداءها، أساليبهم في التدجين انفضحت، من قصف للعقول إعلاميا بتوافه الصور وأفكار فاقدة المعني وصنوف دعوات للاستهلاك والموضة لشباب بلا دخل ، لا خديعة الخصوم الوهمية من مشجعي الفريق الأخر، أو أبناء الحارة الأخرى أو الديانة المغايرة ، ألاعيب الإلهاء والتفريغ السلبي للحقد الطبقي في غير وجهته الحقيقية .وتساقطت الحلول الوهمية الفردية وأضحي الطريق حراك الجميع من اجل تقرير المصير ضد أقلية فاسدة لصوصية إجرامية.

لقد برزت صنوف أخري للبطولة مكبوتة، فالوقوف أمام دبابة عسكرية وتحدي الموت المحقق، ومواجهة فصائل قمعية مسلحة بشجاعة التظاهر والاحتجاج علي بعد أمتار، والخروج في مواكب الشهداء وخلق لجان تطوعية متعددة، كل ذلك غرس قيم جديدة في عقول الشبيبة و ألهمها وتفجرت عبقريتها و إقدامها فأحبت الحياة الحرة وقاتلت من أجل تملكها.

في هدا المخاض ولدت حركة 20 فبراير بالمغرب، سياق وطني له من أوجه التشابه مع بلدان سباقة لإطلاق شرارة الثورة، شروط يمكن إجمالها في مقولة : قهر اقتصادي واستبداد سياسي.

دعت مجموعة شباب ملتفت على صفحات الانترنت إلي يوم احتجاجي للمطالبة بإسقاط الاستبداد، وسطرت لائحة مطالب سقفها السياسي رغبة في إصلاح حقيقي للنظام ومطلبها المركزي شعار الملكية البرلمانية مصحوب بمطالب محاربة الفساد وتحجيم سيطرة الملكية علي الاقتصاد ومحاربة سرقة المال العام وتغييرا عميقا للدستور وانتخاب هيئة مكلفة بصياغة الوثيقة الدستورية وعرضها علي الاستفتاء الشعبي ...

نجاح المسيرة الأولي في عديد من المدن والقرى أعطي دفعا إضافيا للحركة وتعززت بالتحاق فئات جديدة واغتنت بمطالب أخري في الغالب اقتصادية/اجتماعية.

الملكية بتجربتها العميقة في فن الحكم لم تتردد في "فش" البالون السائر نحو الانفجار فجاء خطاب الملك يوم 9 مارس 2011 كجواب علي مطالب الحركة واستباقا لتوسعها المحتمل مؤكدا علي الإصلاح من فوق ودرأ للتغيير من تحت. وبسقف محدد سلفا.

هللت الدوائر الامبريالية لفحوى القرار، فقد أصيبت برعب مشاهد الثورة تسقط أنظمة عميلة وحامية لمصالحها ومرعوبة أكثر من انتقال العدوى إلي حصونها في ظل أزمة اقتصادية عميقة وسيادة تشكيكية متصاعدة من الإصلاحات المضادة الزاحفة علي مكاسب عقود من النضال.

الأحزاب الليبرالية المغربية الوفية لعادتها الضاربة في القدم، أشادت بشجاعة وحنكة النظام و سرعة رده و الأهم يأسها من قدرتها علي انتزاع أي مكسب ولو بسيط بالاستعانة بالنضال لقد فقدت الثقة في قدرتها وفي الشعب و أضحت مجرد عجوز خائر تعيش علي صدقات المستبدين، طبعا فأسوء كوابيسها أن تري الشعب يقاتل من أجل حريته الشاملة ويتخطي أساليبها في استجداء المستبدين، فهي خائفة من وضع النظام موضع السؤال وهي جزء منه. إنها قانعة بالفتات كارهة للشعب والشعب يبادلها نفس المشاعر.

لم يتأثر صعود حركة 20 فبراير بالحملات الإعلامية المشككة في خلفيات الشباب المبادر، مدركة لغايات التنازلات الهزيلة من فوق، ولم يفلح تخويف الحركة بتوظيف بعبع السلفية الدينية، بل توالت المسيرات الشعبية في المدن الكبرى والبلدات الصغيرة واتسع نطاقها وأبدعت في أساليبها، من خلال توظيف الانترنيت واستعادة تقاليد التعبئة المباشرة والتعامل النشيط والمباشر مع جماهير الشعب في الأحياء السكنية والأسواق الشعبية والساحات العمومية والمدارس والأحياء الصناعية، خالقتا حالة نقاش سياسي مفتوح بالبلد غير مسبوق، وجرفت قطاعات كانت إلي وقت قريب مشدوهة بسلبية إلي أجهزة التلفاز والتعاطف الخانع مع نضال شعوب تقاتل من اجل حريتها.

قمع أم احتواء أم تركيب بين الاثنين؟

مند انطلاق حركة 20 فبراير، كان النظام يراقب الحركة بتوجس، مراهنا علي نفاد أساليبها وملل الناشطين وانفضاض العاطفين وغرقهم في حربهم اليومية للحفاظ علي البقاء.

حاول في البداية استغلال التحرك لإظهار المغرب استثناأ في جغرافية الاستبداد بالمنطقة، فهو البلد الوحيد الذي لم تتعرض فيه قوى القمع للمسيرات التي جابت شوارع المدن .

لكن أربعة أيام بعد خطاب الملك بالضبط في 13 مارس حصل قمع شرس بالدار البيضاء لوقفة احتجاجية ونالت مدن أخري حصتها من القمع ( أكاد ير –مراكش ء شفشاونء القصر الكبير...) وسقوط قتلي في (الحسيمة و صفرو)، مما استتار ردود فعل شعبية منددة وعامل مهم عزز الطابع الجماهيري للحركة ووسع من دائرة تأثيرها.

بسرعة تراجع النظام عن نهج القمع الأهوج واكتفي بالمراقبة اللصيقة لحركة 20 فبراير سعيا لضبط دقيق للمعطيات حول العناصر الأنشط والأحزاب السياسية وممارستها ورصد مواقفها وتتبع الشباب المعبئ حديثا وغير المنتسب إلي التنظيمات السياسية، أي وضع قاعدة معطيات تساعده علي تحديد أسلوب التعامل مع تطورات الحركة. وبحفز منه راجعت الأحزاب الليبرالية موقفها الجبان بعدم الانخراط فيها ونشر دعاية لبعث الشك في الملتحقين وعزل المترددين . فالتحقت شبيبتها مضطلعة مند البداية بدور مشوش وسعي لإثارة نقاشات غايتها خلق أجواء النفور والاحتقان والرهان علي التفجير من الداخل لكنها خابت، إضافة إلي إدارة معركة إعلامية لزرع التشكيك بدعوي أن الحركة يقودها متطرفون إسلاميون و عدميون يساريون.

الحركة تتسع وصنوف المطالب تبرز إلي السطح وسيل الاستياء تفجر، الجماهير مدركة أن الظرف مواتي لانتزاع اليسير من مطالبها التي لاقت الصد والمنع لمجرد أمزجة موظفين بيروقراطيين، فالضواحي الممنوع سكانها من البناء بدءوا في بناء منازلهم والدولة تغاضت مرغمة، كما عاد الباعة المتجولون يحتلون الشوارع بعد أن تم مسحهم منها، أما العمال فيخوضون معاركهم رغم استنكاف قياداتهم و التلاميذ يطالبون بإسقاط مدرائهم وتحسين ظروف دراستهم، والشباب العاطل بتنوع شهاداتهم وأفواجهم يجتاح المؤسسات. غليان هادر لا يعرف دقة حجمه إلا أجهزة الدولة المطلعة على الإحصاأت الواردة من مخبريها في عموم البلد. من هنا رعبها وخوفها من الآتي إن أخطئت التصرف أو أساءت التقدير، هذا ما يفسر تنوع أساليبها في مواجهة الحركة، القمع هنا والتنازل هناك، الوعود هنا والتغاضي هناك، التصريح بشرعية المطالب ومداهنة الحركة حينا واتهامها أنها مطية لخدمة أهداف مندسين متطرفين. الترويج للمسيرات كدليل علي جو الحريات التي "يتمتع بها المغاربة" وتكشير علي الأنياب والتهديد والوعيد بمنع خرق قانون تكميم الأفواه وقمع الحريات.

ليس لنظام الاستغلال القائم من حلول ناجعة للمطالب الاقتصادية المنبعثة من قاع المجتمع إلا إذا فرض عليه الأمر فرضا بقوة ميزان القوي الطبقي، ووقوفه أمام خيار أما تنازلات حقيقية أو نسف لأسس النظام. فالبؤس والفقر رجله اليمني والاستبداد والقهر رجله اليسري. إن انتزاع تنازلات اقتصادية/اجتماعية يتطلب بناء حركة مطلبية شعبية وهي قيد التشكل وتصعيدا في أساليب النضال وتوحيدا للمطالب وهو ما سيصطدم بفيالق القمع ومحاكمات الناشطين وفتح أبواب السجون وكل أوجه القهر الطبقي المعهودة.

إن الاستبداد السياسي المتجسد في نظام الملكية المطلقة والمموه بأقنعة خادعة من مؤسسات شكلية (برلمانءحكومة واجهةأنتخابات دورية – أحزاب سياسية –جمعيات...) ليس معلق في سماء مفصولة عن واقع المصالح الطبقية، بل تعبير عن شكل سياسي لسيطرة طبقة مالكة تديم نظام سيطرتها بصيغة ملكية مستبدة هي حصنها في مواجهة تطلع الشعب للديمقراطية الشاملة وهي حصيلة لجبن البرجوازية الليبرالية القابلة باستبداد الملكية كجدار يقيها من خطر حركة نضال عمالي شعبي قد يعيد تشكيل المجتمع خارج أسس السيطرة الرأسمالية.

لا يمكن للملكية أن تقبل أن تتنازل عن مطلق صلاحياتها السياسية طوعا لسبب جلي أن تلك الصلاحيات السياسية تضمن مصالح اقتصادية جمة ومنطلق للف تحالفات متينة مع أقسام برجوازية محلية والرأسمال الامبريالي. يجهد الليبراليون بتنوعهم (المشاركون في الحركة الراهنة أو المناصبين لها العداء) في نصح الملكية بمصلحتها التاريخية أن تتشبه بملكيات اسبانيا وانكلترا وغيرهما، مع مثابرتهم في إخفاء حقيقة أن قبول تلك الملكيات أن تضل مجرد بروتوكول، مع ذلك يكلف المالية العمومية غاليا، ليس قبولا لطيفا منها وإنما أرغمت على ذلك. ألم يساق ملوك إلي المقصلة في بريطانيا؟ ألم تعرف اسبانيا حربا أهلية بين جيش شعبي جمهوري وفيالق الجيوش الملكية؟ ألم تعرف فرنسا سقوط الملكية وعودتها وسقوطها من جديد؟

أن تقبل الملكية المغربية وضعا بروتوكوليا حقيقا يتطلب حركة ديمقراطية منغرسة شعبيا لا تتوسل التنازلات بل تصمم علي انتزاعها، حينها يمكن الحديث عن ملكية شكلية إن اكتفت الحركة الجماهيرية الصاعدة بذلك؟

يوجد النظام المغربي في مواجهته للحركة الصاعدة في وضع التردد، فقد دلت تجارب جارية في بلدان عديدة أن القمع مهما كانت شراسته ليس ضمان لوقف حركة مطلبية مندفعة، بل قد يعززها وينزع عنه "الشرعية" في نظر الرأي العام العالمي، في الآن نفسه يعي خطورة التطور البطيء لكن الحقيقي للحركة، من ناحية اتساعها الجغرافي لتشمل البلد في القرى والحواضر وازدياد أعداد ما تلفه من جماهير في احتجاجاتها .فهل يخاطر بالقمع ؟ هل يترك الحركة تنمو لتهزمه في نهاية المطاف؟

إن هذا التردد يتأثر بجديد المعطيات المحلية والعالمية، فسعي الأنظمة إلي تحويل الاحتجاجات الشعبية السلمية الي حرب أهلية دموية في ليبيا واليمن وسوريا والقمع الشرس للثورة البحرينية يشجع كفة الميل إلي القيام بحملات قمع محدودة وانتقائية لا تخدش صورة النظام التي عمل علي تسويقها بفاردته المزعومة بإتاحة الحرية للتظاهر وللتعبير و مما يساعده لحدود اللحظة مستوي الحركة الذي مازال في بدايته.

إن دعوة مجلس التعاون الخليجي للنظام المغربي للانضمام إلي نادي الملكيات العربية سيمنح للنظام أداة في أمس الحاجة إليها لتغذية الأوهام حول انفتاح كنوز إمارات الخليج النفطية، بالرغم من الحذر الشعبي من خلفيات الانطمة الخليجية المستبدة النابعة من التباعد الجغرافي واختلاف الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتوجس من سعي إلى بحت حطب نار حروب إقليمية. يجب فضح الأوهام المروجة حول هذا الانضمام لهدا الحلف الملكي الرجعي لما سيمثل من انتكاسة لنضال شعوب البلدان المشكلة له من اجل حريتها.

لكن إلي متى سيستمر هذا التردد؟ في الأخير لابد من أن يخوض النظام رهان هزم الحركة الصاعدة غير القانعة بفتات التنازلات الخادعة أو القبول بخطر مواجهة احتمال الدك التام وفي شروط قد تكون الأسوء، انه صراع الطبقات.

من المتوقع أن يتصاعد القمع مع قرب إعلان لجنة تعديل دستور الملك عن نتائجها، وذلك بديهي لأن الأمر يتعلق بحركة جماهيرية سائرة نحو الانغراس تعبئتها الأساس مرتكزة علي رفض تعديل الدستور وفق الصيغة التي انتهجها النظام.

قد تتعرض حصيلة اللجنة للسقوط تحت وقع الحركة الجماهيرية مما سيفرض العودة إلي ما قبل خطاب 9 مارس وفق رؤية مختلفة يكون فيه تلبية مطالب التغيير الجدري للدستور شكلا ومضمونا على جدول أعمال الحركة وهذا مجازفة لن يقبل النظام أن تحصل. إذن لابد من توفر شروط ملائمة لتمرير ترقيعات اللجنة وهو ما يتعارض مع المسيرات الضخمة والاحتجاجات المتنوعة وكواكب التعبئة الجماعية التي تجتاح الأسواق والأحياء السكنية بمكبرات الصوت والحديث المباشر مع الشعب.

يجب تحجيم ذلك بطريقة تنزع عن القمع إمكانية تحويله إلي مادة للتحريض والتعبئة لتعزيز الحركة، القمع الانتقائي للنشطاء و إنهاك الحركة بمحورة نضالها علي إطلاق سراح المعتقلين و إبعادها عن الارتباط اليومي بتعبئة الشعب، القمع لن يشمل كل المدن في نفس الوقت تساهل هنا وقمع هناك، مع الرهان علي نهاية شهر يونيو المتزامنة مع العطلة المدرسية وبداية موسم الصيف لإطلاق مهرجانات الموسيقى في كل المدن والركود النضالي المعهود مما سيلغي الظروف المناسبة سواء لنقاش شعبي لما ستقدمه لجنة الملك وتتمة ذلك بإطلاق تعبئات واسعة لإسقاطها. هذا هو رهان النظام .

ُيصعدون شدة القمع، لنُصعد أشكال الكفاح

إن الوضع السياسي الذي خلقته حركة 20 فبراي، يفتح بشكل غير معهود إمكانية التغيير العميق علي مختلف الأصعدة، ويمثل فرصة تاريخية أمام شعبنا ليكنس عهود الاستبداد والقهر. سيحاول المستبدون ما أوتوا من قوة قمعية وأساليب مكر واحتواء مصادرة هذا الأمل، وسيقاتلون بشتي الطرق لدوام قهرهم واستغلالهم للشعب، سيستميلون بالتنازلات الزهيدة التي لا تمس جوهر الاستبداد كل القوي المستعدة للخيانة، وسيسلطون جبروت قمعهم علي الرافضين لنظامهم المستبد، سيناورون حتى تمر الموجة الشعبية ليكشرون على أنيابهم لنهش لحم الشعب من جديد.

واجب الاشتراكيين الثوريين التحلي بما يقتضيه الظرف من استشعار المسؤولية النضالية ليكونوا في مستوي الاستجابة للتحديات المطروحة أمام الحركة الجماهيرية، واستيعاب عمق التحول الجاري، والانتباه إلي أننا أمام فرصة تاريخية لتحرر شعبنا ونزع قيود الاستبداد والقهر التي كبلته مند عقود خلت.

علينا نفض كل صنوف العصبوية اتجاه الحركة الشعبية الجارية أمام أعيننا أي كانت المبررات، وعلينا التدخل براية استقلال طبقي متلائم مع مستوي تطور الحركة و أن لا نعزز توجس الملتحقين بالنضال، الحذرين من تحويلهم إلي قاعدة لمناورات أحزاب سياسية. الاشتراكيون الثوريون هم مستقبل الحركة وهم خصوم أشداء لكل استبدالية فتحرر الكادحين من صنع الكادحين أنفسهم.

إن مهمة كسب الطلائع المتقدمة معركة ليست محسومة سلفا، على الثوريين البرهان في مختبر الميدان عن صدقيتهم ويقنعوا المناضلين بجدوى برنامجهم ويلفوهم حول راية الديمقراطية والاشتراكية وهو ما يتناقض مع أي ادعاأت جوفاء بتبوء الطليعة بناء علي ترسيمات إيديولوجية يفندها الواقع النضالي باستمرار، علينا أن نسعى إلي تعزيز قوة الحركة المناضلة موحدة وتلف ملايين جماهير شعبنا الكادح.

علينا أن نمدها بمعدات النضال: تحين المطالب وتحديد أساليب النضال ونقل دروس انتصارات وهزائم الشعوب المناضلة والمنتفضة والمتحررة لتفويت الفرصة علي الفخاخ التي تنصبها الرجعية لهزم الحركة.

سيواصلون فتكهم بنا وعلينا مواصلة كفاحنا بإصرار من أجل ديمقراطية جذرية تطال كل المستويات في أفق مغرب كبير للشعوب، ديمقراطي واشتراكي.



عدد التعليقات (3 تعليق)

1

عمر

شكرا اخي العزيز عن هذا المقال المفصل عن كل ما يريد عن يقال و يسمع لكن كلمة الحق لا تعجب احدا.فلا تلومك في الله لومة لائم. جزاك الله عنا خيرا و لك و لامثالك منا الشكر العميق.

2011/06/19 - 01:57
2

ملاحظ

الإصلاح في وقتنا الحالي يبدأ من المواطن البسيط إلى المسؤول الكبير .. لا جدوى من القوانين والدساتير إن لم يسبقها إصلاح الضمائر المريضة . كلنا يعرف نفسه . ملكنا الحبيب دائما في خطاباته يحاور الضمائر الحية , أما التي ماتت فلنصلي عليها صلاة الغائب .

2011/06/19 - 04:38
3

بوسيف

حاميها جراميها الاصلاح ان لم يبدأ من فوق فلن يكون أبداوانتظاره أي الاصلاح لن يصل الا مع قيام الساعة

2011/06/19 - 04:15
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات
المقالات الأكثر مشاهدة