فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما...
أخبارنا المغربية
بعد أن ذكر سبحانه الكيفية التي تؤدى بها صلاة الخوف في ساحات القتال، وعند مواجهة الأعداء شرع سبحانه ببيان ما يكون بعد أداء صلاة الخوف من ذكر لله سبحانه، فقال عز وجل: {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} (النساء:103) فقد بين سبحانه في هذه الآية حكم أصحاب الضرورة القائمة بهم بعد بيان حكم أصحاب المشقة من أولي السفر والقتال. وقد تضمنت الآية الكريمة بعض الأحكام المتعلقة بالصلاة، نقف عليها في ثمان مسائل وفق التالي:
المسألة الأولى: قوله سبحانه: {فإذا قضيتم الصلاة} المراد بـ (قضاء) الصلاة في هذه الآية الأداء، أي: أديتم الصلاة، وليس المراد حقيقة القضاء، الذي هو استدراك لما فات، وهذا نحو قوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم} (البقرة:200) وقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} (الجمعة:10) قال القرطبي: "وهذا يدل على أن (القضاء) يُستعمل فيما قد فُعِل في وقته".
المسألة الثانية: قوله عز وجل: {فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} (الذكر) المأمور به هنا -بحسب قول أكثر أهل العلم- مطلق الذكر لله تعالى، ولا شك في أنه مستحب عقيب قضاء الصلاة، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله عنهما؛ فقد روى الشيخان في "صحيحهما" عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك، إذا سمعته.
ومذهب ابن مسعود رضي الله عنه أن (الذكر) المأمور به هنا ذِكْرٌ مخصوص، وهو الصلاة، وهذا المعنى هو الظاهر من سياق الخطاب؛ ويدل عليه قوله تعالى بعدُ في الآية نفسها: {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة}. وعنه رضي الله عنه أيضاً، أنه رأى الناس يضجون في المسجد، فقال: ما هذه الضجة؟ فقالوا: أليس الله تعالى يقول: {فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} فقال: إنما تعني هذه الآية الصلاة المكتوبة، إن لم تستطع قائماً فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك.
ونقل القَنُّوجي قولاً في معنى الآية مفاده: إذا صليتم، فصلوا قياماً، وقعوداً، وعلى جنوبكم، حسبما تقتضيه الحال عند ملاحمة القتال، فهي مثل قوله عز وجل: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} (البقرة:239).
المسألة الثالثة: أجمع أهل العلم على أن المريض مخاطب بأداء الصلاة، وعلى أنه يسقط عنه فرض القيام والقعود، إذا لم يستطعهما. ومذهب الشافعي وأحمد أنه إذا عجز عن القعود، صلى مضطجعاً على جنبه مستقبل القبلة، إلا إذا لم يمكنه، ذلك فيصلي مستلقياً، ورجلاه إلى القِبلة، كما ورد في الكتاب والسنة، وهذا مروي عن علي رضي الله عنه. ومذهب الحنفية أنه إذا عجز عن القعود، صلى مستلقياً، ورجلاه إلى القبلة، وهذا مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما. واختلفت الرواية في مذهب المالكية؛ والذي في "المدونة" أنه يخير بين الصلاة على جنبه، أو الاستلقاء على ظهره.
المسألة الرابعة: للعلماء أقوال في (العذر) المبيح للقعود، أو الاضطجاع؛ فمذهب جمهور أهل العلم: أن العذر المبيح لترك القيام والقعود هو الذي يُدخل على المكلف مشقة غير محتملة، واعتبروه بتخفيف الشرع في نظائره من المواطن؛ كالفطر للمسافر، والتيمم للمريض؛ استدلالاً بقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج:78). وذهب فريق من أهل العلم إلى أن العذر المبيح لترك القيام هو الذي لا يستطيع المكلف معه القيام والقعود بحال، وتمسكوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم لعمران بن الحصين رضي الله عنه: (صلِّ قائماً؛ فإن لم تستطع، فقاعداً، فإن لم تستطع، فعلى جنب) رواه البخاري.
المسألة الخامسة: قوله تعالى: {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة} قال بعض أهل العلم: معنى قوله: {فإذا اطمأننتم} أي: فإذا استقررتم في أوطانكم، وأقمتم في أمصاركم، {فأقيموا} يعني: فأتموا الصلاة التي أذن لكم بقصرها في حال خوفكم في سفركم، وضربكم في الأرض، فالمراد بـ (الاطمئنان) بحسب هذا القول: الاستقرار في مكان الإقامة بعد السفر، والمراد بـ (الإقامة) إتمام الصلاة من غير قصر ولا خوف. قال ابن عاشور: "الاطمئنان مراد به القفول من الغزو؛ لأن في الرجوع إلى الأوطان سكوناً من قلاقل السفر واضطراب البدن، فإطلاق الاطمئنان عليه يشبه أن يكون حقيقة، وليس المراد الاطمئنان الذي هو عدم الخوف؛ لعدم مناسبته هنا".
وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا استقررتم بعد حالة الخوف والمقاتلة، {فأقيموا الصلاة} أي: فأتموا حدودها بركوعها وسجودها واعتدالها. وهذا القول اختاره شيخ المفسرين الطبري، قال: "وأولى التأويلين بتأويل الآية، تأويل من تأوله: فإذا زال خوفكم من عدوكم وأمنتم، أيها المؤمنون، واطمأنت أنفسكم بالأمن {فأقيموا الصلاة} فأتموا حدودها المفروضة عليكم، غير قاصريها عن شيء من حدودها". وقال ابن عاشور: "(الإقامة) هنا: الإتيان بالشيء قائماً، أي تامًّا، على وجه التمثيل؛ كقوله تعالى: {وأقيموا الوزن بالقسط} (الرحمن:9) وقوله سبحانه: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} (الشورى:13) وهذا قول جمهور الأئمة". وقال الحنفية: لا يؤدي المجاهد الصلاة حتى يزول الخوف؛ لأنهم رأوا مباشرة القتال فعلاً يفسد الصلاة.
المسألة السادسة: قوله عز وجل: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} في المراد من قوله سبحانه: {كتابا موقوتا} أقوال:
فقال بعضهم: معناه: إن الصلاة كانت على المؤمنين فريضة مفروضة.
وقال آخرون: معنى ذلك: إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضاً واجباً.
وقال فريق: المعنى: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً، منجماً، يؤدونها في أنجمها. و(النجم) هو الوقت المضروب، يقال: جعلت مالي على فلان نجوماً منجمة، يؤدي كل نجم في شهر كذا، وهو القسط، أو الوظيفة، يؤديها عند حلول وقتها كل شهر أو كل سنة.
قال الطبري: "وهذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض؛ لأن ما كان مفروضاً فواجب، وما كان واجباً أداؤه في وقت بعد وقت فمنجم. غير أن أولى المعاني بتأويل الكلمة، قول من قال: "إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضاً منجماً"؛ لأن (الموقوت) إنما هو (مفعول) من قول القائل: "وقَّت الله عليك فَرْضَه، فهو يقته"، ففرضه عليك "موقوت"، إذا أخرته، جعل له وقتاً يجب عليك أداؤه. فكذلك معنى قوله: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} إنما هو: كانت على المؤمنين فرضاً، وقَّت لهم وقت وجوب أدائه، فبين ذلك لهم". والمعنى: أن الله افترض على عباده الصلوات، وكتبها عليهم في أوقاتها المحددة، لا يجوز لأحد أن يأتي بها في غير ذلك الوقت إلا بعذر شرعي من نوم، أو سهو، ونحوهما.
المسألة السابعة: قال ابن العربي: "ومن قال: إن الصلاة منوطة بوقت فقد أخطأ، وقد عولت عليه جماعة من المبتدعة في أن الصلاة مرتبطة بوقت، إذا زال لم تُفعل، ونحن نقول: إن الوقت محل للفعل، لا شرط فيه، وإن الصلاة واجبة على المكلف، لا تسقط عنه إلا بفعلها، مضى الوقت أو بقي".
المسألة الثامنة: أجمع المسلمون على أن للصلاة أوقاتاً مؤقتة، هي شرط في صحتها، وأن منها أوقات فضيلة، وأوقات توسعة، واختلفوا في تحديد أوقات الفضيلة وأوقات التوسعة؛ لتعارض الأحاديث الواردة في ذلك.