الدنيا مزرعة الآخرة
أخبارنا المغربية
الدنيا مزرعة الآخرة، ومدة الحياة هي وقت عملك الذي ستكتب لك به سعادة الآخرة أو شقاؤها، فالحياة إنما جعلت سبيلا للتزود وطريقا للسعادة والنجاة.
ومن علم أن سعادة الأبد وشقاء الأبد مرهون بهذه الأيام والساعات واللحظات التي نقضيها في الدنيا علم قدر ما هو فيه، ومن لم يقدر ذلك قدره فهو من الغافلين، وسيكون في الآخرة من النادمين.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: "من علم أن العمر بضاعة يسيرة يسافر بها إلى البقاء الدائم في الجنة، لم يضيعه". [حفظ العمر:57].
وقال في صيد الخاطر: "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة".
وقال بعضهم:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترز.. .. عليه من الإنفاق في غير واجب
قال الإمام المقدسي في وصيته المشهورة ما لفظه:
"فاغتنم - رحمك الله - حياتك النفيسة، واحتفظ بأوقاتك العزيزة، واعلم أن مدة حياتك محدودة، وأنفاسك معدودة، فكل نفس ينقص به جزء منك. والعمر كله قصير، والباقي منه هو اليسير، وكل جزء منه جوهرة نفيسة لا عدل لها، ولا خلف منها. فإن بهذه الحياة اليسيرة خلودَ الأبد في النعيم أو العذاب الأليم، وإذا عادلت هذه الحياة بخلود الأبد علمت أن كل نفس يعدل أكثر من ألف ألف ألف عام في نعيم لا خطر له أو خلاف ذلك، وما كان هكذا فلا قيمة له. فلا تضيع جواهر عمرك النفيسة بغير عمل، ولا تذهبها بغير عوض، واجتهد أن لا يخلو نفس من أنفاسك إلا في عمل طاعة أو قربة تتقرب بها، فإنك لو كانت معك جوهرة من جواهر الدنيا لساءك ذهابها، فكيف تفرط في ساعاتك وأوقاتك؟! وكيف لا تحزن على عمرك الذاهب بغير عوض؟! [غذاء الألباب شرح منظومة الآداب: 2/448].
الموفق والمخذول:
والموفق من علم أن الدنيا إنما هي فترة امتحان وابتلاء، يجمع الإنسان فيها زادا للآخرة، فهو يسعى لجمع ما ينفعه عند لقاء ربه، فيجدّ فيها ويجتهد ليقبل على الله ببضاعة يرضاها منه ويشتريها منه بجنة عرضها السموات والأرض.
والمخذول من أصيب بالغفلة وفوّت الفرصة، وأهدر النعمة، وقتل الوقت بالبطالة، وخدعته الدنيا بزخارفها، فمال إلى لذاتها، وسكن إلى متاهاتها، وانشغل باللهو فيها واللعب والمتعة حتى دعاه داعي النهاية فأقبل على الله خالي الوفاض، قليل البضاعة أو عديمها، فندم الندامة التي لا سبيل لانقطاعها، وطلب العتبى والرجوع ولكن هيهات فلا مستعتب هناك، {فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ۖ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ}[فصلت:24]..
اغتنم.. اغتنم
لهذا وجَّه رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- أمته لاستغلال الفرص، والمبادرة إلى الخير قبل فوات الأوان، فقال: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".
فاغتنم الصحة؛ فمن مرض ضعف عن كثير عمل.. واغتنم الفراغ قبل أن تداهمك الشواغل وتشغلك صوارف الأيام.. واغتنم الشباب قبل أن يكبر سنك، ويضعف جسمك وتعجز أعضاؤك.. واغتنم الغنى تصدق وأنفق وابذل قبل أن تفقد مالك أو يرحل عنك.. واغتنم فرصة وجودك في الحياة؛ قبل أن ينادي عليك منادي الموت؛ فإن من مات انقطع عمله، وفات أمله.
مثال لأهل الدنيا
يقول ابن قدامة المقدسي رحمه الله وهو يصف حال أهل الدنيا:
"وإنني قد خطر لي أن أمثل هذه الدنيا وأهلها كمثل أهل سفينة ألقتهم الريح إلى جزيرة في البحر: فيها معادن الجواهر كلها من الياقوت والزمرد والزبرجد والبلور والمرجان والدر واللؤلؤ وما دون ذلك إلى العقيق والسيح!
ثم بعد ذلك زَلَفٌ وحجارة لا قيمة لها، وفيها أنهار وبساتين.. وفي الجزيرة حمى للملك قد حد له حدوداً وأحاط عليه حائطاً: فيه خزائن للملك وإماء وولدان، فنزل أهل السفينة في الجزيرة، وقيل لهم: إن مقامكم بها يوم وليلة، فاغتنموا مدتكم القصيرة فيما أمكنكم من أخذ هذه الجواهر الكثيرة:
1- فأما الحازمون: فأسرعوا في تلك الجواهر: ينتقون منها، ويحملونه إلى مخازنهم في السفينة ويجدون ويجتهدون، فإذا تعبوا تذكروا قدر تلك الجواهر التي يحصلونها، وكثرة قيمتها، وقلة مقامهم في تلك الجزيرة، وأنهم عن قليل رائحون وراحلون منها لا يقدرون على الازدياد، فرفضوا الراحة، وتركوا الدعة، وأقبلوا على الجد والاجتهاد ليلاً ونهاراً.
وإن عرض لهم النوم تذكروا ذلك فذهب عنهم لذة النوم والكرى، وتمثلوا: عند الصباح يحمد القوم السرى.
2- وأما آخرون: فأخذوا من الجواهر شيئاً، واستراحوا في أوقات الراحة، وناموا وقت النوم.
3- وأما فرقة أخرى: فلم يتعرضوا للجواهر أصلاً، وآثروا النوم والراحة والتفرج. ومنهم قوم أقبلوا على بناء المساكن والقصور والدور. وقوم أقبلوا على جمع الزلف والصدف والحجارة والشقف "الفخار المكسور". وقوم أقبلوا على اللعب والنزهان، وتشاغلوا باللذات، وسماع الحكايات المطربات، وقالوا: درة منقودة خير من درة موعودة!
4- وفرقة أخرى: عدلوا إلى حمى الملك، فطافوا به، فلم يجدوا له باباً، ففتحوا لهم فيه ثلماً واقتحموه، ففتحوا خزائن الملك، وكسروا أبوابها وانتهبوا منها، وعبثوا بجواري الملك والولدان، وقالوا: ليس لنا دار غير هذه الدار.
فأقاموا على ذلك، حتى ذهبت مدة المقام، وضربت نواقيس الرحيل، ونودي بالتحويل بل بالحث والتعجيل:
. فأما الذين حصلوا الجواهر فرحلوا مغتبطين ببضائعهم لا يأسون على المقام إلا للازدياد مما كانوا فيه.
. وأما الفرقة الثانية: فاشتد جزعهم: لعدم استبضاعهم، وكثرة تفريطهم، وقلة زادهم، وتركهم ما عمروه، وارتحالهم إلى ما أخربوه.
. وأما الفرقة الثالثة: فكانوا أشد جزعاً وأعظم مصيبة، وقيل لهم: لا ندعكم حتى نحمِّلكم ما أخرجتم من خزائن الملك في أعناقكم وعلى ظهوركم!
فارتحلوا على هذه الصفة، حتى وردوا مدينة الملك العظمى، فنودي في المدينة أنه قد قدم قوم كانوا في معادن الجواهر، فتلقاهم أهل المدينة، وتلقاهم الملك وجنوده، فاستنزلوهم، وقيل لهم: اعرضوا بضاعتكم على الملك!
فأما أهل الجواهر فعرضت بضائعهم، فحمدهم الملك، وقال: أنتم خاصتي وأهل مجالستي ومحبتي، ولكم ما شئتم من كرامتي. وجعلهم ملوكاً: لهم ما شاءوا، وإن سألوا أعطوا، وإن شفعوا شفعوا، وإن أرادوا شيئاً كان لهم. وقيل لهم: خذوا ما شئتم واحتكموا فيما أردتم. فأخذوا القصور والجواري والدور والجوهر والبساتين والقرى والرساتيق، وركبوا المراكب، وسار بين أيديهم وحولهم الولدان والجنود، وصاروا ملوكاً ينزلون في جوار الملك، ويجالسونه، وينظرون إليه، ويزورونه، ويشفعون إليه فيمن شاءوا، وإن سألوه ما سألوه أعطاهم، وما لم يسألوه ابتدأهم.
وأما الفرقة الثانية: فقيل لهم: أين بضائعكم؟ فقالوا: ما لنا بضاعة! فقيل لهم: ويحكم! أما كنتم في معادن الجواهر؟! أما كنتم وهؤلاء الذين صاروا ملوكاً في موضع واحد؟! قالوا: بلى، ولكنا آثرنا الدعة والنوم! وقال بعضهم: اشتغلنا ببناء الدور والمساكن! وقال آخرون: اشتغلنا بجمع الزلف والشقف! فقيل لهم: تباً لكم! أما علمتم قلة مقامكم، ونفاسة الجواهر التي عندكم؟! أما علمتم أن تلك ليست لكم بدار مقام، ولا محل منام؟! أما أيقظكم الأيقاظ، أما وعظكم الوعاظ؟!
قالوا: بلى والله قد علمنا فتجاهلنا، وأوقظنا فتناومنا، وسمعنا فتصاممنا! فقيل لهم: تباً لكم آخر الدهر.
فعضوا أيديهم ندماً، وبكوا على التفريط بعد الدموع دماً، وبقوا آسفين متحيرين، ووقفوا منتظرين أن يتصدق عليهم بعض الذين صاروا ملوكاً بشفاعة أو يتكلم لهم عند الملك بكلمة. فهؤلاء إن خرجوا من الجزيرة على طاعة الملك - لم يهتكوا حرمة ولم يتعدوا حدوده- رجي لهم بعض الاتصال بالملك.
. وأما الفرقة الثالثة: فجاءوا يحملون أوزارهم على ظهورهم، آيسين بائسين مبلسين حيارى سكارى، قد زلت بهم القدم، وحل بهم الندم، ونزل بهم الألم، وافتضحوا عند الأمم، فأبعدهم الملك عن داره وطردهم من جواره، وأمر بهم إلى السجن فجروا إليه: قد أيقنوا بالعذاب، وجل أمرهم عن العتاب، {فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ۖ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ}[فصلت:24].
فانظر -رحمك الله- تفاوت ما بين المنزلتين وما حصل من الفرق بين الفريقين بالصبر في تلك المدة القصيرة اليسيرة التي أقاموها في الجزيرة.
فهذا تقريب مثال الدنيا: ومن عمل فيها بالطاعة، ومن استوعبها بالتفريط والإضاعة.
فاجتهد رحمك الله تعالى في الكون من الفرقة الأولى الذين استوعبوا الساعات بالطاعات، ولم يفرطوا في شيء من الأوقات. وألزم قلبك الفكر في نعم الله لتشكرها، وفي ذنوبك لتستغفرها، وفي تفريطك لتندم، وفي مخلوقات الله وحكمه لتعرف عظمته وحكمته، وفيما بين يديك لتستعد له، أو في حكم شيءٍ تحتاج إليه لتعلمه.
وألزم لسانك ذكر الله تعالى، ودعاءه، واستغفاره، أو قراءة قرآن، أو علماً، أو تعليماً، أو أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، أو إصلاحاً بين الناس.
وأشغل جوارحك بالطاعات، وليكن من أهمها الفرائض في أوقاتها على أكمل أحوالها، ثم ما يتعدى نفعه إلى الخلق، وأفضل ذلك ما ينفعهم في دينهم لتعليمهم الدين، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
واحترس من مفسدات الأعمال لئلا يفسد عملك ويخيب سعيك فلا تحصل على أجر العاملين ولا راحة البطالين وتفوتك الدنيا والآخرة".
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[فاطر:5].