مفهوم الزهد بين الموسعين والمضيقين
أخبارنا المغربية
بسم الله الرحمن الرحيم
مفهوم الزهد بين الموسعين والمضيقين
الزُّهد في اللغة: الإعراض، والزهيد: الشيء القليل، فالأصلُ اللغوي واحد يدلُّ على قلَّة الشيء[1].
"فمعنى الزهد في الشيء: الإعراض عنه؛ لاستقلالِه واحتقارِه، وارْتفاع الهمَّة عنه"[2].
ولم ترد هذه المادة في القرآن الكريم إلاَّ في موضع واحد، في قوله - تعالى -: (وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) [يوسف: 20].
وقدِ اتَّفق العلماء والحكماء على علوِّ مكانه، وشرَف مقامه؛ بَيْدَ أنهم اختلفوا في حقيقتِه الشرعيَّة اختلافًا كثيرًا، وتنوَّعت عباراتهم، وقد يصل هذا الاختلافُ إلى التغاير، وسأورد أشهرَ هذه التعريفات، ثم أعقِّب بما أراه راجحًا:
1- فقيل: الزهد ترْك الحلال مِن الدنيا، والإعراض عنها وعن شهواتها بترْك طلبها؛ فإنَّ طالب الشيءِ مع الشيء.
2- وقال الفضيل بن عِياض: أصل الزُّهد الرِّضا عن الله - عز وجل - وقال: القنوع: هو الزاهدُ، وهو الغني.
3- وقال الحسنُ البصريُّ: الزاهد الذي إذا رأى أحدًا قال: هو أفضل منِّي؛ أي: إنه يزهَد في مدح نفسه وتعظيمها.
4- وقيل: الزُّهد في الدنيا أن لا تأسَى على ما فات منها، ولا تفرح بما أتَاك منها، قال ابن السمَّاك: هذا هو الزاهدُ المبرّز في زهده.
5- وقال مالك بن دينار: ترْك الدنيا لمن قدَر عليها.
6- وقال مالك بن أنس: هو طِيب الكسب، وقِصَر الأمل.
7- وقيل: أخْذ قدْرِ الضرورة مِن الحلال المتيقَّن الحِل، فهو أخصُّ من الورع؛ إذ هو ترْك المشتبه، وهذا زهدُ العارفين، وأعلى منه زهدُ المقرَّبين، وهو الزهدُ فيما سوى الله - تعالى -من دُنيا وجَنَّة وغيرهما؛ إذ ليس لهذا الزاهد مقصدٌ إلا الوصول إليه - تعالى -والقُرْب منه، وفي هذا التعريف مسحةُ تصوُّف.
8- وقال سفيان بن عُيينة: الزهدُ الشُّكر عندَ السرَّاء، والصبر عندَ الضرَّاء.
9- وقال سفيانُ الثوريُّ: الزهد في الدنيا قِصر الأمل، ليس بأكْل الغليظ، ولا لبس العباء.
10- وقال إبراهيمُ بن أدهم: الزُّهد ثلاثةُ أصناف: زُهد فرض، وهو الزُّهد في الحرام، وزهد فضْل، وهو الزُّهد في الحَلال، وزُهد سلامة، وهو الزُّهد في الشُّبهات[3].
ومِن هذه التعريفات يظهر أنَّ ثَمَّةَ اتجاهين:
أحدهما: ينظُر إلى الجانب الكمِّي: أي المقدار الذي يسوغ للإنسان الحصولُ عليه من الدُّنيا، وهنا نجِد آراء مختلفة:
• ترْك الدنيا بالكليَّة، كما في التعريف رقم (1).
• الأخْذ مِن الدنيا بالقليل، أو بقدْر الضرورة، كما في التعريفِ رقم (7).
• الاكتفاء بالحلالِ، كما في الصِّنف الأوَّل مِن التعريف رقم (10) وفي رقم (6) إلى حدٍّ ما.
الثاني: ينظُر إلى الجانبِ الكيفي؛ أي: السلوك النَّفْسي في التعامُل مع الدنيا والشهوات والغرائز الحسيَّة.
وهذا ظاهرٌ في التعريفات رقم (2)، (3)، (4)، (5)، (9)، ومِن أصحاب هذا الاتجاه - كما مرَّ - الحسنُ البصري، والفُضيل بن عِياض، وسفيان بن عُيينة، وابن السمَّاك، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وكلُّ هؤلاء أئمَّة يُقتدَى بهم.
وهذا الاتجاه يرَى أنَّ الزهد في حقيقته:
تعلُّق القلب بالله دون سواه، فلا تشغله الدنيا عن الآخِرة، ولا يهتمُّ لأمر الدنيا، سواء أقبلتْ إليه أم أدبرَتْ عنه، إذا أُعطي شكَر، وإذا مُنِع صبر.
هذا ما يُفهم مِن النصوص الشرعيَّة إذا جُمِع بعضها إلى بعض، كقول الحقِّ - سبحانه -: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [البقرة: 200 - 202].
قال الطبريُّ - رحمه الله - في تفسيره الآيات بعدَ أن ساق - كعادته - أقوالَ المفسِّرين: "والصواب مِن القول في ذلك عِندي أن يُقال: إنَّ الله - جلَّ ثناؤه - أخبر عن قومٍ من أهل الإيمان به وبرسوله، ممَّن حجَّ بَيته، يسألون ربَّهم الحسنةَ في الدنيا، والحسنةَ في الآخرة، وأن يَقيَهم عذاب النار، وقد تجمع "الحسنةُ" من الله - عز وجل - العافيةَ في الجسم والمعاش والرِّزق وغير ذلك، والعِلم والعبادة.
وأمَّا في الآخرة، فلا شكَّ أنَّها الجَّنة؛ لأنَّ مَن لم يَنلها يومئذٍ فقد حُرِم جميع الحسنات، وفارَق جميع مَعاني العافية"[4].
فكأنَّ هذا التصنيفَ في الآية الكريمة لمن حجَّ بيت الله إلى قِسمين:
طلاَّب الدنيا فقط، وطلاَّب الدنيا والآخِرة، كأنَّه يوحي بأنَّ الصنف الثاني قد بلَغ الغاية في المطلوب؛ إذ لم يأتِ صنف ثالث يطلُب الآخرة فقط، وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ فقراء المهاجرين أتَوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ((ذهَب أهلُ الدُّثور بالدرجات العُلى والنَّعيم المقيم))، فقال: ((وما ذاك؟))، فقالوا: ((يصلُّون كما نُصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون ولا نتصدَّق، ويعتقون ولا نعتق...)) الحديث.
وفي هذا الحديثِ إشارةٌ إلى أنَّ أغنياء الصحابة قدْ حازوا قصبَ السبق في المنافسة على الخير؛ لعملهم أعمالاً ليستْ في مقدور الفقراء؛ أي: إنَّ غناهم كان سببَ ذلك.
وفي ضوءِ تلك النصوص والمفاهيم، يُمكننا أن نختارَ هذا التعريف للزُّهد، فهو باختصار: "الأخْذ بما تيسَّر مِن متاع الدُّنيا الحَلال، والقناعة به، مع سخاوةِ النفْس وسلامة القلْب"، فقولنا: الأخْذ بما تيسَّر من متاع الدُّنيا، يخرج ما صعُب الحصول عليه مِن الدنيا؛ لكونه يرهق النفسَ ويشغلها ويهمُّها، وقولنا: متاع الدنيا: يشمل "كلّ ما ينتفع به مِن عروض الدنيا قليلها وكثيرها"[5]؛ ويأتي في مقدِّمة ذلك: المال والنِّساء، وقلنا: الحلال، يخرج الحرام وما فيه شُبهة، وقلنا: والقناعة به؛ أي: الرضا، كما ورد في الأثر: (القناعة كَنْز لا يفنَى)؛ أي: إن النفس تستغني به، كما جاء في الحديث الصحيح: ((ليس الغِنَى عن كثرة العرَض؛ ولكن الغِنى غِنى النفس))؛ متفق عليه، وقولنا: مع سخاوةِ النفس؛ أي: جودها وكرمها، وهذا نقيضُ الشح والبخل، وقلنا: سلامة القلْب؛ أي: "الخالِص مِن الأوصاف الذميمة، والمتَّصف بالأوصاف الجميلة"[6]، كما قال الحق - سبحانه -: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88 - 89]، فإنَّ القلب إذا كان مريضًا لا يستحقُّ صاحبه أن يكونَ زاهدًا ولو طلق الدنيا ألبتة، مثلما هو ملحوظٌ عندَ البوذيِّين والرهبان ومخرِّفي الصوفيَّة ونحوهم.
وهذا المرَض قد يكون شركًا، وقد يكون بِدعة، وقد يكون خلقًا سيئًا كالكبر والحِقد والحسد، ونحو ذلك، فأصحاب هذه القلوب المريضة بَعيدون عن الزهد.
ولعلَّ هذا الواقع للزُّهد ينطبق - فيما يبدو لي - على واقِع حياة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وبخاصَّة حياة سيِّدهم وخاتمهم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ثم ما كان عليه خيارُ الصحابة كالعَشرة المبشَّرين بالجنَّة، والسابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، ومَن سلك سبيلَهم مِن بقية الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يومِنا هذا.
فقدْ كانوا مثالاً للزُّهد مع أنَّهم لم يتركوا الدنيا ومتاعها، ولم يعيشوا بمعزلٍ عن المجتمع، بل كانوا يخالطون الناسَ ويصلُّون معهم، هذا مع الاكتسابِ والبذل في سبيلِ الله، حتى كان بعضُهم مِن كبار الأثرياء، ومَن يستقرئ كتابَ الزهد للإمام أحمد بن حنبل وكتاب الزهد للإمام ابن المبارك، يظهَر له ذلك، وفي قصة الثلاثة الذين جاؤوا إلى بيتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادته، فلمَّا أُخبروا كأنهم تقالُّوها، فقال أحدهم: أمَّا أنا، فإنِّي أُصلي الليل ولا أنام، وقال الآخَر: أصومُ النهار ولا أُفطِر، وقال الثالث: لا أتزوَّج النِّساء، فلمَّا بلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك قال مستنكرًا: ((أنتم قلتم كذا كذا، أمَا والله إني لَأخْشاكُم لله وأتْقاكم له؛ لكنِّي أصوم وأُفطر، وأُصلِّي وأرقد، وأتزوَّج النساء، فمَن رغِب عن سُنتي، فليس مني))[متفق عليه].
ففي هذه القصة أصدقُ معنًى للزهد، على أنَّ الزهد ليس رتبةً واحدة فقط، بل هو رُتَبٌ عديدة، ودرجات متفاوتة، فيما يظهَر لي، فهناك زهدٌ في الحرام، وزهد في المشتبهات، وزهدٌ في الحلال، فالأوَّل زهد واجب، والثاني مستحبٌّ في جملته، وقد يكون بعضه واجبًا، وأمَّا الثالث، فهو صفة كمال، بشرْط أن لا يحرّم الحلال، فإنَّ ذلك معصية، وربَّما صار كفرًا.
وأخيرًا أقول: إنَّه لا ملازمةَ بين الزهد والفقر، فقد يكون الغِنيُّ زاهدًا، كما قال مالك بن دينار: "يقول الناس: مالك بن دينار، إنَّما الزاهِدُ عمر بن عبد العزيز؛ الذي أتتْه الدنيا فتركَها"[7].
وبالله التوفيق.
___________________-
[1] "معجم مقاييس اللغة" (3/30).
[2] "جامع العلوم والحِكَم" لابن رجب (ص: 273).
[3] ينظر في التعريفات: "جامع العلوم والحِكَم" (ص: 274)، فما بعدها، و"كشَّاف اصطلاحات الفنون" (2/610).
[4] "تفسير الطبري" (4/205)؛ تحقيق محمود شاكر.
[5] "النهاية في غريب الحديث" (4/293) مادة (متع).
[6] "تفسير القرطبي" (13/115).
[7] رواه الإمام أحمد في المسند 5/249).