أسباب سوء الخاتمة , عدم الاستقامة على الطاعة

أسباب سوء الخاتمة , عدم الاستقامة على الطاعة

أخبارنا المغربية

 

لا شك أن أهل الاستقامة على دين الله يثبِّتهم الله - عز وجل - في الدنيا، فلا يَزِيغُوا ولا يَضِلُّوا، ويثبِّتهم عند الموت بـ: (لا إله إلا الله)، ويثبِّتهم في القبر عند سؤال المَلَكين، قال - تعالى -: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27].

 
وهم الذين تتنَزَّلُ عليهم الملائكة عند الموت لتبشرهم بالجنة، قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثم اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾ [فصلت: 30 - 32].


وأما مَن كان مستقيمًا على طاعة ربه، ثم تغير حاله وخرج ممَّا كان عليه، فهؤلاء الذين يختم لهم بخاتمة السوء، عياذًا بالله، فالواجب على المسلم الالتزام بدين الله، وأن يأخذَ بأسباب الثبات على دين الله، والحذر من وَسَاوس الشيطان، والاجتهاد في الطاعات والعبادات، حتى تقوى شجرة الإيمان في قلبه، فلا تزعزعها رياح الشهوات والشبهات، وحتى يَثبُت على الإيمان في الحياة الدنيا وعند الممات.

قيل لأحد العلماء: "فلان عَرَف طريق الله ثم رجع عنه، فقال: لو وَصَلوا إليه ما رجعوا".
 

• فمن عَرَف طريق المَلِك - جل وعلا - ثم أعرض عنه وتنكَّبه، واختار طرق الغواية والضلال، وآثر الغَيَّ على الرشاد، والضلالة على الهدى، والفجور على التُّقَى، كان ذلك من أعظم أسباب سوء الخاتمة، وصدق ربنا حيث قال: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5].
 
• فهذه سنة ربَّانية مع أهل الأهواء، والذين تتقاذفهم أمواج الفتنة والشهوات، بل انظر خطاب رب العالَمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال له في كتابه الكريم: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 65، 66].


وهذا الخطاب موجَّه إلينا نحن أمة النبي؛ لأنه لا يُتصوَّر شرعًا ولا عقلاً أن يُشرِك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي جاء ليبنِي صرح التوحيد، وكأن الله - تعالى - يقول لنا: هذا هو نَبِيِّي وخليلي، لو أشرك لأحبط عمله، فكيف أنتم؟ ومع هذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاف على نفسه، ويستعيذ من الحَوْر بعد الكور؛ أي: النقصان بعد الزيادة
 

ففي "صحيح مسلم" من حديث عبدالله بن سَرْجِس - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوَّذ من وَعْثاء السفر، وكآبة المَنظَر، وسوء المُنقلب، والحَوْر بعد الكَوْر".


فكم سَمِعنا عمَّن آمن ثم كفر، وكم رأينا مَن استقام ثم انحرف؛ ولذلك كان كثيرًا ما يردِّد النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: ((يا مقلِّب القلوب، ثَبِّت قلبي على دينك))، وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد - بإسناد صحيح - من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُكثِر أن يقول: ((يا مقلِّب القلوب، ثَبِّت قلبي على طاعتِك))، فقلت: يا رسول الله، إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء، فهل تخشى؟ قال: ((وما يؤمنني يا عائشة، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الجبار، إذا أراد أن يُقلِّب قلبَ عبدٍ قلَّبه)).


فإذا كان هذا هو أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر - وهو سيد الأولين والآخرين - فماذا نقول نحن أصحاب الذنوب والمعاصي؟


وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني (2/446) في كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة" قولَ ابن كثير:

كان الرَّجَّال بن عُنفَوة قد وفد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرأ البقرة، وجاء زمن الردَّة إلى أبي بكر، فبعثه إلى أهل اليمامة يدعوهم إلى الإسلام ويثبِّتهم عليه، فارتدَّ مع مسيلمة، وشهد له بالنبوة، وكان الرَّجَّال يقول: كبشانِ انتطحا فأحبُّهما إلينا كبشُنا؛ يعني: مسيلمة، ولقد قُتل هذا الكذَّاب الأَشِر في يوم اليمامة، قتله زيد بن الخطاب، اللهم لا تجعلنا ممَّن يفضحُه ميراثه عند موته وعند القدوم عليك... آمين.
 

فإيَّاك أخي أن تتجرَّأ على حُرُمات الله، وتعرِّض نفسك للفتن، فمَن عرَّض نفسه للفتن فلا يلومنَّ إلا نفسه، ومَن تشرَّف له تستشرفه ولم ينجُ منها، ومَن يسمح لقدمِه أن تنزلقَ في مستنقع الرذيلة، فلا يدري إلى أين تصل؟!


• كإبليس الذي كان في ابتدائه ما كان، ثم عصى الله، فطرده الله من جنته ورحمته.
 

• وكبلعَام بن باعوراء الذي آتاه الله آياته، فانسلخ منها بخلوده إلى الأرض، واتبع هواه وكان من الغاوين.


• وكعبيدالله بن جحش الذي هاجر إلى الحبشة، فارتد ودخل في النصرانية؛ فخرج من النور إلى الظلمات.


• وخرج في زمن أبي بكر - رضي الله عنه - بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - خلقٌ كثير فقاتلهم أبو بكر - رضي الله عنه.


• وارتدَّ كذلك خلق في عهد خلافة عمر - رضي الله عنه - فمنهم ربيع بن أمية بن خلف، وكان في عداد الصحابة؛ حيث كان رجلاً شرَّابًا للخمر فحدَّه عمر - رضي الله عنه - ثم نفاه إلى خبير، ففر هاربًا إلى هرقل، فارتد عن دينه ودخل في النصرانية من أجل الخمر.
 

فنعوذُ بالله من الخِذلان، ومن سوء العاقبة، ونسأله - سبحانه وتعالى - أن يُثبِّتنا على الإيمان إلى أن نلقاه.

 
وذكر ابن القيم في كتابه "الداء والدواء" (ص170):


"أن عبدالحق الإشبيلي - رحمه الله - قال: ويُروَى أنه كان بمصر رجل يلزم مسجدًا للأذان والصلاة، وعليه بهاء الطاعة وأنوار العبادة، فرقى يومًا المنارة على عادته للأذان، وكان تحت المنارة دار لنصراني، فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار؛ فافتتن بها فترك الأذان، ونزل إليها ودخل الدار عليها، فقالت له: ما شأنك؟ وما تريد؟ قال: أريدك، قالت: لماذا؟ قال: لقد سلبت لُبي، وأخذت بمجامع قلبي؟ قالت: لا أجيبك إلى ريبة أبدًا؟ قال: أتزوجك، قالت: أنت مسلم وأنا نصرانية، وأبي لا يزوِّجني منك، قال: أتنصَّر؟ قالت: إن فعلتَ أفعل، فتنصَّر الرجل ليتزوجها، وأقام معها في الدار، فلما كان في أثناء ذلك اليوم، رقى إلى سطحٍ كان في الدار، فسقط منه فمات، فلم يظفر بها وفاتَه دينُه.


وأخرج عبدالرزاق في "تفسيره" عن طاوس بن كيسان قال:

كان رجلٌ من بني إسرائيل، وكان عابدًا، وكان ربما داوى المجانين، وكانت امرأة جميلة أخذها الجنون فجِيء بها إليه، فتُركت عنده فأعجبته فوقع عليها فحملت، فجاءه الشيطان، فقال: إن عُلِم بهذا افتضحتَ فاقتلها وادفنها في بيتك، فقتلها ودفنها في بيته، فجاء أهلها بعد ذلك بزمان يسألونه عنها، فقال: ماتت، فلم يتهموه لصلاحه فيهم ورضاه، فجاءهم الشيطان، فقال لهم: إنها لم تَمُت ولكنه وقع عليها فحملت فقتلها ودفنها، وهي في بيته في مكان كذا وكذا، فجاء أهلها فقالوا: ما نتهمك ولكن أخبِرنا أين دفنتها؟ ومَن كان معك؟ ففتشوا بيته فوجدوها حيث دفنها، فأُخذ فسُجن، فجاء الشيطان، فقال: إن كنت تريد أن أخلصك مما أنت فيه وتخرج منه فاكفر بالله، فأطاع الشيطان وكفر، فأُخِذَ وقُتل، فتبرَّأ منه الشيطان حينئذ"؛ قال طاوس: فما أعلم إلا أن هذه الآية نزلت فيه: ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الحشر: 16].

 
وذُكِرت هذه القصة بسياق آخر وفيها:

"كان عابد في بني إسرائيل من أعبد أهل زمانه، وكان في زمانه ثلاثة إخوة لهم أخت، وكانت بكرًا ليس لهم أخت غيرها، فخرج الثلاثة للجهاد في سبيل الله، فلم يدروا عند مَن يتركون أختهم، ولا مَن يأمنون عليها، ولا عند مَن يضعونها، فأجمعوا رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل، وكان ثقة في أنفسهم فأتَوه أن يخلفوها عنده، فتكون في جواره إلى أن يرجعوا من سفرهم، فرفض العابد ذلك، وتعوَّذ بالله - عز وجل - منهم ومن أختهم، فلم يزالوا يُلحُّون عليه حتى أطاعهم وقَبِل، وقال لهم: أنزلوها في بيت بجوار صومعتي، فأنزلوها في ذلك البيت ثم انطلقوا وتركوها، فمكثت في جوار ذلك العابد زمانًا ينزل إليها الطعام من صومعته، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام، فتلطَّف به الشيطان فلم يزل به يُرغِّبه في الخير، ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهارًا، ويخوفه أن يراها أحدٌ فيعلقها، فلو مشيت بطعامها حتى تضعه على باب بيتها، لكان أعظم لأجرك، فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها، ووضعه على باب بيتها ولم يكلِّمها، فلبث على هذه الحالة زمانًا، ثم جاءه إبليس فرغَّبه في الخير والأجر وحضَّه عليه، فقال: لو كنت تُكلِّمها وتُحدِّثها؛ فتأنس بحديثك، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة، فلم يزل به حتى حدَّثها زمانًا، يطلع إليها من فوق صومعته، ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فقال: لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها، وتقعد على باب بيتها فتحدثك، كان أحسن لها وآنس لها، فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها وتحدثه، وتخرج الجارية من بيتها حتى تقعد على باب بيتها، فلبثا على ذلك زمانًا ثم جاءه إبليس فرغَّبه في الخير والثواب فيما يصنع معها، وقال له: لو خرجت من باب صومعتك ثم جلست قريبًا من باب بيتها فحدثتها، كان آنس وأحسن لها، فلم يزل به حتى فعل.


قال: فلبث زمانًا، ثم جاءه إبليس فرغَّبه في الخير قائلاً: لو دنوت منها وجلست عند باب بيتها فحدثتها ولم تخرج من بيتها، ففعل فكان ينزل من صومعته، فيقف على باب بيتها فيحدثها، فلبثا على ذلك حينًا، ثم جاءه إبليس فقال له: لو دخلت معها فحدثتها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد، كان أحسن بك، فلم يزل به حتى دخل البيت فجعل يحدثها نهاره كله، فإذا مضى النهار صعد إلى صومعته، ثم أتاه إبليس بعد ذلك فلم يزل يزيِّنها له، حتى ضرب العابد على فخذها وقَبَّلها، فلم يزل إبليس يحسنها في عينيه ويُسوِّل له حتى وقع عليها فأحبلها، فولدت له غلامًا، فجاء إبليس، فقال: أرأيت إن جاء إخوة الجارية وقد ولدت منك كيف تصنع؟ لا آمن أن تفتضح أو يفضحوك، فاذهب إلى ابنها فاذبحه وادفنه، فإنها ستكتم ذلك عليك مخافة إخوتها أن يَطَّلعوا على ما صنعت بها، ففعل وقتل ابنها، فقال له إبليس: أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها، خذها واذبحها وادفنها مع ابنها، فلم يزل به حتى ذبحها وألقاها في الحفرة مع ابنها، وأطبق عليهما صخرة عظيمة وسوَّى عليهما وصعد إلى صومعته يتعبَّد فيها، فمكث بذلك ما شاء الله به أن يمكث، حتى أقبل إخوتها من الغزو، فجاؤوا فسألوه عن أختهم، فنعاها لهم وترحَّم عليها وبكاها، وقال: كانت خير امرأة، وهذا قبرها فانظروا إليه، فأتى إخوتها القبر فبكوا أختهم وترحَّموا عليها وأقاموا على قبرها أيامًا، ثم انصرفوا إلى أهاليهم، فلما جن الليل وأخذوا مضاجعهم، جاءهم الشيطان في النوم على صورة رجل مسافر، فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم، فأخبره بقول العابد وموتها وترحُّمه عليها، وكيف أراهم موضع قبرها فكذبه الشيطان، وقال: لم يصدُقْكم أمر أختكم، إنه قد أحبل أختكم، وولدت منه غلامًا، فذبحها وذبح الغلام خوفًا منكم، وألقاهما في حفرة حفرَهَا خلف باب البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله، فانطلِقوا فادخلوا البيت الذي كانت فيه، فإنكم ستجدونهما كما أخبرتكم هناك جميعًا، وأتى الأوسط في منامه، فقال له مثل ذلك، ثم أتى أصغرهم، فقال له مثل ذلك، فلما استيقظ القوم أصبحوا متعجِّبين مما رأى كل واحد منهم، فأقبل بعضهم على بعض يقول لأخيه: لقد رأيت الليلة عجبًا، فأخبر بعضهم بعضًا بما رأى، فقال كبيرهم: هذا حلم ليس بشيء، فامضوا بنا ودعوا هذا عنكم، فقال أصغرهم: والله لا أمضي حتى آتي إلى هذا المكان فأنظر فيه، قال: فانطلقوا جميعًا حتى أتوا البيت الذي كانت فيه أختهم، ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفرة كما قيل لهم، فسألوا عنها العابد، فصدق قول إبليس فيما صنع بهما، فرفعوا أمره إلى مَلِكَهم، فأنزلوه من صومعته وقدم ليُصلب، فلما أوثقوه على الخشبة ليُقْتَل، أتاه الشيطان فقال له: أنا صاحبك الذي فتنتك بالمرأة التي أحبلتها وذبحتها وابنها، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرتَ بالله الذي خلقك وصورك، خلَّصْتُك مما أنت فيه، فكفر العابد بالله؛ فلما كفر بالله - تعالى - خلَّى الشيطان بينه وبين أصحابه، فصلبوه، ثم قُتِلَ، ففيه نزلت هذه الآية: ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾ [الحشر: 16- 17].

 
قصة أخرى تدل على شؤم عدم الاستقامة على طاعة الله:


"وهذه قصة شاب كان ملتزمًا بشرع الله، حريصًا على دينه، محافظًا على يقينه، ثم تهاون في تنفيذ أوامر الله - عز وجل - وتجرأ على محرَّمات الله، وعدل عن الاستقامة، فكان ذلك سببًا لسوء خاتمته، نسأل الله العافية، يقول الراوي:

كنا على ظهر سفينة نجول بها حول البلدان طلبًا للرزق، ومعنا شابٌّ صالح نقي السريرة طيب الخلق، كنا نرى التقى يلوح في قسمات وجهه، والنور والبشر يرتسمان على محياه، لا تراه إلا متوضئًا مصليًا أو ناصحًا مرشدًا، إن حانت الصلاة أذَّن لنا وصلَّى بنا، فإن تخلَّف أحدٌ عنها أو تأخَّر عاتبه وأرشده، وكان معنا على هذه السجية طيلة أسفارنا، وألقى بنا البحر إلى جزيرة من جزر الهند فنزلنا إليها، وكان مما تعوَّد عليه البحارة أن يستقروا أيامًا يرتاحون فيها، ويستجمون بعد عناء السفر الطويل، يتجوَّلون في أسواق المدينة؛ ليشتروا أغرب ما يجدون فيها لأهلهم وأبنائهم، ثم يرجعوا إلى السفينة في الليل، وكان منهم نفر ممَّن وقع في الضلال يَتيمَّم مساكن اللهو والهوى ومحال الفجور والبغاء، وكان ذلك الشاب الصالح لا ينزل من السفينة أبدًا، بل يقضي هذه الأيام يصلح في السفينة ما احتاج منها إلى إصلاح، فيفتل الحبال ويلفها، ويُقوِّم الأخشاب ويشدها، ويشتغل بالذكر والقراءة والصلاة وقته ذاك.


وقال الراوي وعينه تترقرق بالدموع وتنحدر على لحيته:

وفي إحدى السفريات، وبينما كان الشاب منشغلاً بأعماله تلك، إذا بصاحب له في السفينة ممَّن أتبع نفسه هواها، وانشغل بطالح الأمور عن صالحها، وبسافل الأخلاق عن عاليها، يهامسه، ويقول: صاحبي، لِمَ أنت جالس في السفينة لا تفارقها؟ لم لا تنزل حتى ترى دنيا غير دنياك؟ ترى ما يشرح الخاطر، ويؤنس النفس، أنا لم أقل لك: تعالَ إلى أماكن البغاء وسخط الله، ولا إلى البارات وغضب الله، هيهات... يا صاحبي، لكن تعالَ فانظر إلى مُلاعِب الثعابين كيف يتلاعب بها ولا يخافها، وإلى راكب الفيل، كيف يجعل من خرطومه له سلمًا، ثم يصعد برجليه ويديه؛ حتى يقيمه على رجل واحدة، وآه لو رأيت مَن يمشي على المسامير أنَّى له الصبر، ومَن يلقم الجمر كأنه تمر، ومَن يشرب ماء البحر فيسيغه كما يسيغ الماء الفرات، يا أخي، انزل وانظر الناس، فتحرَّكت نفس الشاب شوقًا لما سمع، فقال: وهل في هذه الدنيا ما تقول؟ قال صاحب السوء: نعم، وفي هذه الجزيرة، فانزل ترَ ما يسرك، ونزل الشاب الصالح مع صاحبه، وتجولا في أسواق المدينة وشوارعها، حتى دخل به إلى طرق صغيرة ضيقة، فانتهت بهما الطريق إلى بيت صغير، فدخل الرجل البيت وطلب من الشاب أن ينتظره، وقال: سآتيك بعد قليل، ولكن إياك.. إياك أن تقترب من الدار، جلس الشاب بعيدًا عن الباب يقطع الوقت قراءةً وذكرًا، وفجأة إذا به يسمع قهقهة عالية ليُفتَح الباب وتخرج منه امرأة قد خلعت جلباب الحياء والمروءة.

 

أواه! إنه الباب الذي دخل فيه الرجل، وتحرَّكت نفس الشاب فدنا من الباب، وإذا به يسمع صيحة أخرى، فنظر من شق الباب، ويتبع النظرة أختها لتتواصل النظرات منه وتتوالى، وهو يرى شيئًا لم يألفه، ولم يره من قبل ثم رجع إلى مكانه، ولما خرج صاحبه بادره الشاب مستنكرًا.. ما هذا؟! ويحك هذا أمرٌ يغضب الله ولا يرضيه، فقال الرجل: اسكت يا أعمى، يا مغفل، هذا أمر لا يعنيك، قال الراوي: ورجعا إلى السفينة في ساعة متأخرة من الليل، وبقي الشاب ساهرًا ليلته تلك، مشتغل الفكر فيما رآه قد استحكم سهم الشيطان من قلبه، وامتلكت النظرة فؤاده.

فما أن بزغ الفجر وأصبح الصباح، حتى كان أول نازل من السفينة، وما في باله إلا أن ينظر فقط، ولا شيء غير أن ينظر، وذهب إلى ذلك المكان، فما أن نظر نظرته الأولى وأتبعها الثانية، حتى فتح الباب وقضى اليوم كله هناك، واليوم الذي بعده كذلك، فافتقده ربان السفينة وسأل عنه، أين المؤذن؟ أين إمامنا في الصلاة؟ أين ذلك الشاب الصالح؟ فلم يجبه من البحارة أحد! فأمرهم أن يتفرقوا للبحث عنه، فوصل إلى علم الربان مَن ذهب به إلى ذلك المكان، فأحضره وزجره، وقال له: ألا تتقي الله؟! ألا تخشى عقابه، عجِّل واذهب فأحضره، فذهب إليه مرة بعد مرة، فلم يستطع إحضاره؛ لأنه كان يرقص ويأبى الرجوع معهم، فلم يكن من قائد السفينة إلا أن أمر عدة من الرجال أن يحضروه قسرًا، فسحبوه بالقوة وحملوه إلى السفينة.

 

قال الراوي:

وأبحرت السفينة راجعة إلى البلاد، ومضى البحارة إلى أعمالهم، وأخذ ذلك الشاب في زاوية من السفينة يبكي ويئن، حتى لتكاد نياط قلبه تتقطع من شدة البكاء، ويقدمون له الطعام فلا يأكل، وبقي على حاله البائس هذه بضعة أيام.

وفي ليلة من الليالي ازداد بكاؤه ونحيبه، ولم يستطيع أحد من أهل السفينة أن ينام، فجاءه ربان السفينة وقال له: يا هذا اتقِ الله ماذا أصابك، لقد أقلقَنا أنينُك، فما نستطيع أن ننام، ويحك ما الذي بدل حالك؟ ويلك ما الذي دهاك؟ فرد عليه الشاب وهو يتحسر: دعني فإنك لا تدري ما الذي أصابني، فقال الربان: وما الذي أصابك؟ وعند ذلك كشف الشاب عن عورته، وإذا بالدود يتساقط من سوءته؛ فانزعج ربان السفينة وارتعش لما رأى، وقال: أعوذ بالله من هذا، وقام عنه الربان، وقبيل الفجر قام أهل السفينة على صيحة مدوية أيقظتهم، وذهبوا إلى مصدرها، فوجدوا ذلك الشاب قد مات، وهو ممسك خشب السفينة بأسنانه".


استرجع القوم وسألوا الله حسن الختام، وبقيت قصة هذا الشاب عبرة لمَن يعتبر؛ (رسالة عاجلة إلى المسلمين: ص 40 - 46).


هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات
المقالات الأكثر مشاهدة