الرّخصة في منظور الشّرع

الرّخصة في منظور الشّرع

الشيخ عبد المالك واضح

تُعدّ الرُّخصة اسما لما أباحه الشّارع للضرورة، تخفيفًا عن المكلَّفين، ورفعًا للحرج عنهم، فالرخصة إذن: ليست الحكم الأصلي، وإنما هي حكم جاء مانعا من استمرار الإلزام في الحكم الأصلي، وهي في أكثر الأحوال تنقل الحكم من مرتبة اللزوم إلى مرتبة الإباحة، وبذلك يسقط الحكم الأصلي تماما طالما وجد سبب أعمال الرخصة.

 وللرُّخصة أسباب، من بينها الضّرورة، وذلك كمَن يكون في حالة مخمصة شديدة (مجاعة) ويخشى على نفسه الهلاك، فإنّ المكلَّف عندها يجوز له أن يتناول ممّا يجده من المحرَّمات، كالميتة والخنزير وغير ذلك، بل يجب عليه أن يأكل منها حفاظًا على نفسه، قال تعالى: {ولاَ تُلْقُوا بأيْدِيكُم إلَى التَّهْلُكَة}.
ومن أسبابها الحَرَج، فقد أباح الشّارع للطبيب النّظر إلى عورة الأجنبية لأجل العلاج، رفعًا للحَرَج. ومن الأسباب أيضًا الحاجة، كإباحة الكذب لأجل الإصلاح، الإباحة للمرأة أن تأخذ من شعر حاجبيها إذا كان فيهما نشاز.. ومنها المشقّة، كإباحة قصر الصّلاة للمسافر، والجمع بين الصّلاتين للمريض والمسافر، إباحة الإفطار للمسافر والمريض والمرأة الحامل، والمرضع.


والرُّخَصُ أنواع: رخص في إباحة المحرم، فقد تنزل بالإنسان ضرورة، فتتعرّض الكليات الخمس (الدِّين، النّفس، العِرْض، العقل، المال)، فيضطر المكلَّفُ مثلاً والحال هذه إلى شرب الخمر مثلاً لعدم وجود الماء. ورخص في إباحة ترك الواجب، فيُرَخَّص للمكلَّف ترك الواجب في حالتين اثنتين: أن يخشى المكلف على نفسه الهلاك عند الأخذ بالعزيمة، وذلك كمَن ينطق بكلمة الكفر مثلاً مُكْرهًا بقوّة سلاح من أكرهه على ذلك. وأن يقع المكلّف عند أخذه بالعزيمة في المشقّة، فيرخّص له بترك الواجب دفعًا لتلك المشقّة، ومثاله: إباحة الإفطار في رمضان للمسافر والمريض.
ومن أنواع الرُّخص: تصحيح بعض العقود الّتي يحتاجها النّاس مع مخالفتها للقواعد العامة، كبيع السَّلَم الّذي رخّص الشّارع فيه، دفعًا للحرج وتيسيرًا للتّعامل في واقع النّاس، وكذا عقد الاستصناع.
حكم الرُّخصة: الرُّخصة تأخذ أحكامًا عدّة بحسب إذن الشّارع في فعل ما كان أصله الأمر بتركه، أو ترك ما كان أصله الأمر بفعله، أو التّخيير بين فعل العزيمة أو الأخذ بالرّخصة.
يكون حكم الرّخصة الوجوب؛ بحيث يأثم المكلّف إذا لم يأخذ بها، كمَن ألجأته الضّرورة إلى أكل الميتة أو شرب الخمر مثلاً، حفاظًا على حياته. وقد يكون حكم الرّخصة النّدب؛ كقصر الصّلاة الرُّباعية للمسافر، وفي هذه الحالة يكون الأخذ بالرّخصة أولى من الأخذ بالعزيمة. وقد يكون حكم الرّخصة الإباحة، بمعنى أنّ المكلّف مخيَّر بين أن يأخذ بالرّخصة أو بالعزيمة، ومن أمثلة هذا النوع إباحة عقد السَّلَم، وعقد الاستصناع، وإباحة إخراج الزّكاة عن موعدها.. إلخ.
وقد يكون حكم الرُّخصة جواز الأخذ بها على خلاف الأولى، بمعنى أن يكون الأخذ بالعزيمة أولى من الأخذ بالرّخصة، ولا إثم على المكلّف في الأخذ بالرّخصة. ومن أمثلة ذلك: جواز الإفطار في نهار رمضان بالنّسبة للمسافر الّذي لا يَشُقُّ عليه السّفر، فله أن يفطر أخذًا بالرّخصة، أو الصّيام أخذًا بالعزيمة، وهذا النّوع من الرّخص سمّاه سادتنا الحنفية رخصَ التّرفيه، مع ملاحظة أنّ الحكم الأصلي لم يسقط، ولكن رُخِّص للمكلَّف تركه ترفيهًا وتخفيفًا. وكذلك جواز التّلفُّظ بكلمة الكفر لمَن أكره على النّطق بها، سواء تهديدًا بالقتل، أو تهديدًا بإتلاف عضو من أعضاء البدن، فيجوز والحال هذه النّطق بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب، مع أنّ الأولى عدم النّطق بها اعتزازًا بالدّين. وأيضًا جواز ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، إذا أدّى إلى قتل المُحتَسِب وذلك لقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّه فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً، وَيُحَذِّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ وَإِلَى اللّه الْمَصِيرُ”، إلاّ أنّ الأخذ بالعزيمة في هذه الحالة أفضل، لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: ”سيّد الشُّهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره فنهاه فقتله”، وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: ”أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطان جائر”.


هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات