لفظ (الغيب) في القرآن الكريم
أخبارنا المغربية
لفظ (الغيب) في أصل اللغة يدل على تستر الشيء عن العيون، ثم يقاس عليه. من ذلك الغيب: ما غاب مما لا يعلمه إلا الله. ويقال: غابت الشمس تغيب غيبة وغيوباً وغيباً. وغاب الرجل عن بلده. وأغابت المرأة فهي مغيبة، إذا غاب عنها زوجها، وفي الحديث: (لا تدخلوا على المغيبات) رواه الدارمي. ووقعنا في غيبة وغيابة، أي: هبطة من الأرض يغاب فيها. قال الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {وألقوه في غيابة الجب} (يوسف:10). والغابة: الأجمة، والجمع غابات وغاب. سميت بذلك؛ لأنه يغاب فيها. والغِيبة: الوقيعة في الناس مأخوذة من هذا؛ لأنها لا تقال إلا في غَيبة المُستغاب.
ولفظ (الغيب) ورد في القرآن الكريم في ستين موضعاً، جاء في جميعها بصيغة الاسم سوى موضع واحد جاء بصيغة الفعل، وهو قوله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضا} (الحجرات:12)، ومن الآيات التي ورد فيها بصيغة الاسم قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة:3). وكثيراً ما يقترن لفظ (الغيب) في القرآن الكريم بلفظ الشهادة، نحو قوله سبحانه: {عالم الغيب والشهادة} (الأنعام:73).
وجاء لفظ (الغيب) في القرآن الكريم بمعان مختلفة، حاصلها ما يلي:
{الغيب} كل ما غيَّبه الله سبحانه عن عباده، وبه فُسر قوله عز وجل: {الذين يؤمنون بالغيب}، قال الطبري: آمنوا بالجنة والنار، والبعث بعد الموت، وبيوم القيامة، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وقيل: الغيب هنا: هو الله سبحانه، أي: يؤمنون بالله. وقيل: الغيب هنا: القرآن. وقيل: الغيب: القدر. قال ابن كثير: كل هذه الأقوال متقاربة في معنى واحد؛ لأن جميع هذه المذكورات من {الغيب} الذي يجب الإيمان به. ونظير هذا قوله عز وجل: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} (الجن:26). وأكثر ما ورد لفظ {الغيب} في القرآن الكريم على هذا المعنى.
{الغيب} بمعنى الوحي والقرآن، من ذلك قوله سبحانه: {وما هو على الغيب بضنين} (التكوير:24)، فـ {الغيب} هنا -كما قال المفسرون- هو: القرآن. قال قتادة: إن هذا القرآن غيب، فأعطاه الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فبذله، وعلمه، ودعا إليه، والله ما ضنَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{الغيب} بمعنى حوادث القدر، من ذلك قوله عز وجل: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير} (الأعراف:188)، أي: لو كنتُ أعلم ما هو كائن مما لم يكن بعد، لفعلت الكثير من الخير. ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {وعنده مفاتح الغيب} (الأنعام:59)، قال الطبري: فأخبر الله تعالى ذكره أن عنده علم كل شيء كان ويكون، وما هو كائن مما لم يكن بعد، وذلك هو {الغيب}. وفَسَّرَ مجاهد {الغيب} هنا، بـ: الموت.
{الغيب} بمعنى عِلْم الغيب، وهذا غير قليل في القرآن، من ذلك قوله سبحانه: {أم عندهم الغيب فهم يكتبون} (الطور:41)، قال الطبري: أم عندهم علم الغيب، فهم يكتبون ذلك للناس، فينبئونهم بما شاءوا، ويخبرونهم بما أرادوا. وقال ابن كثير: أي: ليس الأمر كذلك، فإنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله. ونحو هذا قوله عز وجل: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} (الجن:26)، قال ابن كثير: إنه يعلم الغيب والشهادة، وإنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه.
{الغيب} بمعنى غيبة الزوج، وعلى هذا المعنى قوله سبحانه: {حافظات للغيب بما حفظ الله} (النساء:34)، قال السدي وغيره: تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله. وقال الطبري: حافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن عنهن، في فروجهن وأموالهم، وللواجب عليهن من حق الله في ذلك. ونظيره قوله عز وجل: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} (يوسف:52)، قال الطبري: لم أفعل معها فاحشة في حال غيبته عني. وإذا لم يكن منه ذلك بمغيبه، فهو في حال مشهده إياه أحرى أن يكون بعيداً من فعل فاحشة معها.
{الغيب} بمعنى قعر البئر، وعليه قوله تعالى: {وألقوه في غيابة الجب} (يوسف:10)، أي: ألقوه في قعر الجب، حيث يغيب خبره، ولا يُعلم أثره. ونظيره قوله عز من قائل: {وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب} (يوسف:15). وليس غيرهما على هذا المعنى في القرآن. وفُسَّرَ بعضهم (الغيابة) في الآيتين بمعنى: الظلمة، أي: ظلمة البئر. والمعنى قريب، بل هو لازم المعنى الأول.
{الغيب} بمعنى الظن، ومنه قوله تعالى: {ويقذفون بالغيب من مكان بعيد} (سبأ:53)، قال ابن كثير: {بالغيب} بالظن. يعني أنهم يرجمون محمداً صلى الله عليه وسلم، وما أتاهم من كتاب الله بالظنون والأوهام، فيقول بعضهم: هو ساحر، وبعضهم شاعر، وغير ذلك. ونظيره قوله سبحانه: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب} (الكهف:22)، أي: قذفاً بالظن غير يقين علم.
{الغيب} بمعنى كل ما غاب عن حواس الإنسان وعلمه، من ذلك قوله تعالى: {وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين} (النمل:20)، يقول القرآن على لسان سليمان: أخطأه بصري، فلا أراه، وقد حضر، أم هو غائب فيما غاب من سائر أجناس الخلق، فلم يحضر.
{الغيب} بمعنى ملازمة العذاب الكفار، وعلى هذا قوله عز من قائل: {وما هم عنها بغائبين} (الانفطار:16)، قال ابن كثير: لا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة، ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة، ولو يوماً واحداً. وارتأى الطبري أن المعنى هنا: وما هؤلاء الفجار من الجحيم بخارجين أبداً، فغائبين عنها، ولكنهم فيها مخلدون ماكثون، وكذلك الأبرار في النعيم، وذلك نحو قوله: {وما هم منها بمخرجين} (الحجر:48).
{الغيب} بمعنى أنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وعلى هذا قوله تعالى: {وما كنا غائبين} (الأعراف:7)، قال ابن كثير: يخبر تعالى عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا، من قليل وكثير، وجليل وحقير؛ لأنه تعالى شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا يغفل عن شيء، بل هو {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} (فاطر:19)، كما قال: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} (الأنعام:59).
{الغيب} بمعنى أحداث يوم القيامة والآخرة، من ذلك قوله عز وجل: {الذين يخشون ربهم بالغيب} (الأنبياء:49)، قال الطبري: يعني يخافون في الدنيا أن يعاقبهم في الآخرة إذا قدموا عليه بتضييعهم ما ألزمهم من فرائضه، فهم من خشيته، يحافظون على حدوده وفرائضه، وهم من الساعة التي تقوم فيها القيامة مشفقون، حذرون أن تقوم عليهم، فيردوا على ربهم قد فرطوا في الواجب عليهم لله، فيعاقبهم من العقوبة بما لا قِبَلَ لهم به. ونظيره قوله تعالى: {أطلع الغيب} (مريم:78)، قال ابن كثير: أعلم ما له في الآخرة حتى حلف على ذلك.
والمتأمل في مجمل المعاني التي ورد عليها لفظ {الغيب} في القرآن الكريم، يجد أنها تدور على معنى ما استأثر الله بعلمه، وحجب علمه عن عباده، وما جاء على غير هذا المعنى، فهو صادر منه، وراجع إليه.