الحجـر الصحـي .. أطفـال رهن الاعتقـال إلى "أجل غير مسمـى"
أخبارنا المغربية
بقلم : عزيز لعويـــسي
بحلول العشرين من شهر يونيو الجاري، نكــون قد قضينا ما مجموعه ثلاثـة أشهر من حالة الطـــوارئ الصحية التي ألزمتنـا بالبقـاء "أســـرى" تدابيـر الحجـر الصحي، وهي مساحـة زمنيـة "شاقـة" و "غير مسبوقــة"، لا يمكـن الجدل أو الاختـلاف حول تداعياتهـا الاجتماعيـة والاقتصاديـة، وخاصة "النفسيــة" على أفــراد المجتمع، في ظل ما فرضتـه الجائحـة من طقـــوس ومن أنمـاط عيــش جديدة خلف الجدران، وإذا كنا ككبـار سـن، لا نتـردد في التعبيـر عن مشاعر القلــق والتوجــس والبوح بأحاسيس الملل والتذمر والمشقـة النفسيـة، فيمكــن أن نتصــور واقـع حال الملاييــن من الأطفــال الذين فرض عليهم واقــع الجائحة الكورونية، التواجــد "رهن الاعتقال" بين جــدران المنازل وحيطان البيوتات منذ العشرين من شهر مارس الماضي، لا خــروج ولا دخــول ولا لعب ولا منتزهات ولا ممارسة الرياضة...، باستثناء "تعليم عن بعـد" بالقدر ما ضمن ما سمي بالاستمرارية البيداغوجيـة، بالقدر ما عمق الفوارق الاجتماعية والمجالية، وأثقل كاهـل أوليـاء الأمور ماديا ونفسيا، وكــرس تلاميذ، باتـوا أكثر من أي وقت مضى "رهائــن" الهواتف الذكية والحواسيب واللوحات الإلكترونية، بكل ما يحمله ما تداعيات نفسية وصحية.
ومحاولة مقاربة التداعيات النفسية للجائحة على الأطفــال، قد لا تتطلب رأي أطباء وأخصائيين نفسانيين يطلقـون العنان للنظريات والتحاليل الفضفاضة، لأن ما نشعـر بـه - نحن الكبــار - من ملل وترقب وانتظـار ورتابة وتقهقـر نفسـي يزداد تعمقـا يوما بعد يوم، يكفـي لنستوعب حجم المعاناة النفسـية التي يعيشها الملاييـن من الأطفال وراء الجــدران، بعد أن سلـبت منهم الجائحـة، الحق في الخروج والتنقل والتجول والتنـزه واللعب وممارسة الرياضة وزيــارة الأهل والأحباب، بـل و الحـق في "التعليم الحضـوري" الذي غاب ذات يـوم، وحضر محلـه "تعليم عن بعـد" رفـع من منسوب المعاناة النفسية والصحيـة للتلاميذ، بعـد أن أرمى بهـم على حين غفلـة، في أحضـان الهواتف الذكيـة والحواسيب والألعــاب الإلكترونيـة، التي بــاتت "المـلاذ الآمـن" لأطفـال في "سجـون" غير السجــون" و"اعتقال" غير الاعتقـال، غير العادات والممارسات، وزحــزح منظومة النـوم والتغذية، وكـرس الإحساس الجماعي بالقلق والعزلة والكآبة والرتابة والإحبـاط والخوف والتوتـر والانتظـار ...
وفي هذا الصدد، فإذا كان التمديــد الأخير لحالة الطـــوارئ الصحية، قـد خفـف من حجم المعاناة على ساكنـة منطقة التخفيـف رقم (1)، وخاصة على فئـة "الأطفال" الذيــن فكـت قيــودهم ولو بشكل تدريجي، ومنحوا وذويهــم فرصة الخروج واللعب، والتنقل إلى المنتزهات و مراكز المدن والأسواق وممارسة الرياضة في الفضاءات العامة، فإن أطفال منطقة التخفيف رقم (2) لازالوا معتقليـن داخل المنازل والبيوتـات، يترقبــون خلف الجدران، أن يــزف لهم قريبا، خبـر "الإفـراج" عنهم والتخفيف من أزمتهم على غرار ما تم القيام به في منطقة التخفيف رقم (1)، وفي هذا المستوى من النقــاش، لا مناص من التأكيد أن التداعيات النفسية للجائحة على الأطفال، تتجاوز واقـع الحجر الصحي وما يرتبط بـه، من تقييد للتحركات وإلزام المكوث بالمنازل، وترتبط بمعطيات أخرى، من قبيل مدى استقرار الأسرة وتماسكها ومدى تأثر وضعيتها المادية والاجتماعية بـسبب الجائحـة، ومدى توفر وسائل ومستلزمات العيـش ومدى جودة السكن، وكلها معطيات، قد تخفف من الأزمة أو تعمقها، وفي هذا الإطار، نحن نناقـش الوضعية "النموذجية"، التي يتحمل فيها أوليـاء الأمور مسؤولياتهم التربوية كاملة، في مراقبة أبنائهـم وإلزامهـم بالمكوث بالمنازل، التزاما بحالة الطوارئ الصحية وما يرتبط بها من حجر صحي.
أما الحالات التي يحضر فيها التراخي الأسـري، أو تضعف فيها سلطة أوليـاء الأمور، وينتهـك فيها الأطفال والشباب حرمات الحجر الصحي ويخرجون إلى الشوارع بــدون حسيب أو رقـيب وأحيانا بدون كمامات، فيصعب الحديث عن أية تداعيات نفسية للحجر الصحي الذي لم يعـد قائما بحكم الواقــع، لكـن بالمقابل، نستطيـع توجيه البوصلة نحو التداعيات التربويـة لأي تراخي أو عنف أسـري أو تهور أو لامبالاة، على الأطفال والشباب، لأن جائحة "كورونا"، هي أكبر من أزمة صحية تقتضي التقيد بقواعد الصحة والسلامة، هي اختبـار في المواطنة والالتـزام والانضباط والصبـر والامتثال لسلطة القانــون والإحساس بالمسؤولية ونبذ الأنانيــة المفرطة، وهي "وضعيات اختباريـة"، لا بد وأن يتلمسها الأطفال في سلوكات وممارسات الكبـار (أولياء الأمور) باعتبارهم القدوة والنموذج، ففي الحالات التي تخرج فيها ربة الأسرة أو رب الأسرة بدون قيد وبدون قيد أو شرط أو ضرورة قصــوى، وأحيانا بدون كمامات وبدون التقيد بالإجراءات والتدابير الوقائية والاحترازيــة، أو يتم التشكيك -أمام الأطفال- في "كورونا" أو الاستخفاف بمخاطرها المحتملة، فـلا نتوقع، إلا طفلا تسيطر عليه مفردات التراخي وعدم الانضباط والاستهتـار والتسيب والانفلات وعدم احترام القانــون، ومع ذلك، لا يمكن إلقاء المسؤولية كاملة على كاهل أوليـاء الأمور، لأن "سلطة الجوع" أكبر من أية دعوة للالتزام والانضباط والصبر والتقيد بالضوابط الوقائية والاحترازيـة، في غياب آليات الدعم والمواكبة والتتبـع ...
وعليه، فإذا كان رهـان الحكومة في الوقت الراهـن، هو وضـع "السيناريوهات" الممكنـة التي من شأنها ضمـان خـروج آمن من الحجر الصحـي، ومعالجـة التداعيات الجانبيـة للجائحـة على المستوييـن الاقتصادي والاجتماعي، فاللحظـة، تقتضـي توجيـه البوصلـة نحو ملاييــن من أطفـال المغرب في المدن والقرى والمناطـق النائيـة، الذين وضعـوا في صلب أزمة "غير مسبوقــة"، فرضت تنزيل سياسات عموميـة وقائية واحترازيـة وتدبيريـة، حكمت عليهم وهم لا يدرون، بالسجن أو الاعتقال خلف الجدران، رهــن تدابيـر الحجر الصحي، بـدون "محاكمة عادلة" أو نقـل، دون الاستماع إليهم والإنصـات إلى همومهم وتطلعاتهم وأحلامهم الصغيـرة، في جائحة عالمية لم يسلـم من تأثيرها حتـى الكبـار، وفي هذا الإطار، وبالقدر ما نثمـن ما تم تحقيقه من إجماع وطني ومن تعبئة جماعية في إطار الحرب ضد "كورونا"، بالقدر ما نديـن، غياب أية رؤيـة واضحة المعالم نحو أطفال "خلف الجدران"، لا يحتاجون اليوم، إلى أطباء أو أخصائيين نفسانيين يقرؤون عليهم الفنجان، بل إلى سياسات عمومية رصينـة وناجعة في مجال الطفولة والشباب، تقطع مع أية سياسة مقرونة بالتردد والارتباك، مكرسة للضعـف والإعاقة والانحطاط، على أمل أن يفتح نقــاش متعدد الزوايا، بشـأن قضيـة "الطفولة والشباب في زمن كورونا" لتشخيص واقع الحال (نفسيا، اجتماعيا، تربويا، تعليميا ..)، وهي دعـوة لمختلف وسائل الإعـلام، لتوجيه البوصلة نحو شرائح واسعة من الأطفال والشباب، ليس فقط للنبــش في حفريات مدى تأثرهم بالجائحة، ولكن، أيضا من أجل تقديم مضامين رصينة ومحتويات هادفة، من شأنها الإسهام في الارتقـاء بمستوى الأذواق والقراءة والقطع مع كل الممارسات المكرسة للتفاهة والانحطاط، في انتظار التخفيف من وطأة "حجر صحي" يئــن بسببه "الكبار"، فكيف هو "حال الصغــار".. خاصة من يعيشون في العالم القروي والمناطق النائية والجبال العالية، حيث لا يعلـو صـوت على صــوت "الهشاشة " وأخواتها ...
ونختم بالقول، إذا كان رهـان الحكومة حالـيا، منصبا على الوبـاء "الكوفيـدي"، فهي تتحمل - وهي تعد خطة الإنعاش الاقتصادي والاجتماعي- مسؤولياتها المواطنة، في التصـدي المسؤول، لمختلف "الأوبئـة" التي تعرقل حركة الوطن، وتمنعـه من فرص النهــوض والارتقـاء، وهي مدعــوة، لحسن استثمار ما تم تحقيقه من منجزات ومكاسب، وما هو متاح آنيا ومستقبليـا من فــرص اقتصادية وإمكانيات استثماريـة، مع الحرص كل الحرص، على الاستثمار في "الرأسمال البشـري" وإرساء منظومة ناجعة للحماية الاجتماعية والارتقاء بمنظومتي الصحة والتعليم والرهان على "الإدارة الرقمية" التي باتت ضرورة ملحة، لتكريس الحكامة الرشيدة والقطع مع كل ممارسات العبث والفساد والبيروقراطيـة والشطط في استعمال السلطة والمساس بالمال العام، والالتفاتـة إلى القطاع الفلاحي الذي أبانت الجائحة أهميته في كسب أي رهان مرتبط بالأمن الغذائي، وبلـورة رؤية للنهوض بواقــع السياحة الداخلية والصناعة التقليديــة، وتنزيل سياسات وبرامج تنمويـة مندمجة وشمولية من شأنها الارتقــاء بواقع الطفولة والشبـاب، وإنعـاش الشغل والتقليص من حجم الفوارق الاجتماعية والمجالية، وتشجيع ثقافة الإبـداع والاختراع والابتكـار ..، وكلها تدخلات من ضمن أخرى، يفتــرض أن تحضر في صلب "النموذج التنمــوي المرتقب"، الذي لابد أن ينبـثــق من عمق الجائحة وأن يكـون عاكسا لما قدمته من دروس وعبـر، وما فرضته وتفرضه من تحديات ورهانات ...مع الإشــارة، أن اللحظة، تقتضي المصالحـة ووحدة الصـف والتضامن والتعبئـة الجماعية والالتفاف حول ثواب الأمة، والبعد عن "كوفيـد لعصا فالرويضـة" والقطع من "صراع الديكـة"، فلا مصلحة فوق مصلحة الوطـن ولا سياسة إلا في ظل الوطن ومن أجل الوطــن ، فطوبى لمن يخدم الوطـن بمحبة وصدق وتضحية ووفــاء، بعيـدا عن "ورم الريــع" و "وباء الانتهازيـة والوصولية"...