مغاربة يهربون من المبيدات الكيماوية نحو المنتجات «البيو»!
«الطاجين » قد يسهم في التقارب بين الرباط وواشنطن٠ ففي قلب العاصمة الأمريكية، كانت أنواع مختلفة و ساخنة من الطاجين، تحتل قلب أحد أفخم المعارض، محفوظة في أوعية فخارية مستديرة ، فيما النكهات والروائح المعتادة تفوح وسط هذ الفضاء ، الطبق مزيج من الزيتون والبصل والثوم والليمون، وقطع من لحم الغنم و التوابل المغربية الطبيعية ، ونتاج ساعات طويلة من المهارة اليدوية و الطهي المتمهل على الفحم الخشبي ٠ فالطريق إلى موائد الأمريكيين وأكبر السلاسل الغذائية في العالم ، يبدأ من مزارع وضيعات صغيرة، يمتلكها فلاحون في أفقر المناطق بالمغرب، و مكونات «الطاجين» الطبيعية تلك لن تقتحم البيوت الأمريكية فقط إنما ستفيد صغار المزارعين المغاربة، في اتفاقية التبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية.
نكهة الطاجين تفوح في واشنطن
وسط مركز ضخم و شاسع للمؤتمرات في واشنطن، كان شخصين امريكيين يعملان في التسويق،لا يترددان في دعوة كل من يمر قربهما، إلى تذوق أنواع الطاجين المغربي ، في هذا المعرض بالذات كان يلتقي مسؤولو المشتريات في المراكز التجارية المتخصصة، مع باعة المنتجات من مختلف أرجاء العالم على أمل العثور على سلع تحقق النجاح وتلاقي رواجا على رفوف محالهم ٠ في الحقيقة هذان الأميركيان هما مسوقان لأربعة أنواع من صلصة الطاجين تنتجها شركة خاصة في المغرب، المسوقان نجحا بشكل كبير في مهمتهما ففي نهاية المعرض، كان معظم حديث المشترين يدور حول أول شحنة من الصلصة، وكان متجر “هول فود” الضخم وهو من أكبر أسواق الأغذية الطبيعية في الولايات المتحدة وبريطانيا مهتما بالسلعة المغربية ، أحد هذين الأمريكيين قبل أن يعمل على تسويق صلصة الطاجين المغربي في واشنطن، كان قد عمل كمتعاقد مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والبرنامج المغربي للتنافسية الاقتصادية، الرامي إلى زيادة الصادرات إلى الولايات المتحدة، وتخفيف آثار الفقر في منطقتين من مناطق المغرب هما دكالة عبدة والجهة الشرقية، وهو يعلم أن المزارعين المغاربة عموما، لا يستطيعون منافسة المنتجين الأمريكيين بتكلفة متدنية في اللسوق الأميركية، خصوصا وأن للمكسيك المجاورة ميزة جغرافية كبرى . . الطاجين المغربي لم يقتحم البيوت الأمريكية بمحض الصدفة ولكن الشركة المصنعة لهذا المنتوج المغربي ، ولكي تحصل على منحة لتسويق الصلصات في الولايات المتحدة، بدأت في صنعها من منتجات فلاحية طبيعية في دكالة عبدة، هناك حيث يلتزم المزارعون بقواعد صارمة لضمان إنتاج النوعية المطلوبة للأغذية التي تصدر إلى الولايات المتحدة، و بعد دراسة للسوق الأمريكي عملت الشركة على تجديد عبوات صلصة الطاجين وتغليفها أيضا، كما اختفت العناوين والأسماء باللغتين العربية والفرنسية، وتلاشت الكتابة الدقيقة وذهب الاسم القديم “صلصة الطاجن”، ليحل محله بخط إنجليزي عريض وواضح الاسم الجديد “صلصة الكسكس ” فالأميركيون لا يعرفون ماهو الطاجن، لكن الكثيرين منهم يعرفون الكسكس ويألفونه.
السلاح البيولوجي في دار بوعزة
من واشنطن إلى دار بوعزة، وتحديدا في إحدى الضيعات على بعد 15 كلمترا على الطريق المتوجهة إلى أزمور ، التقت الأحداث المغربية بعض الشبان في مقتبل العمر، يحملون المعاول ، منهمكين في تقليب التربة البنية اللون ، كمن يبحث عن شئ خفي ، أدوات بسيطة ، وروائح تربة تستلذها الأنوف، ناجمة عن اختلاط التربة بالمياه، قد يبدو مظهرهم للوهلة الأولى مثيرا للشفقة . لم تكن الضيعة تتوفر على تقنيات عالية ولا على تجهزات متطورة بل تعتمد اساليب بسيطة ورثوها عن الأجداد، لا مجال هنا للاسمدة الكيماوية ولا مبيدات الحشرات، وكمية المنتوجات جد مرضية ، شكل الخضر والمغروسات للوهلة الأولى، قد لا يشجع على الإقبال عليها، حيث تبدو بعض الخضراوات مغبرة يعلوها التراب، وحجمها متوسط ، لكن مع ذلك كان للضيعة زبنائها الأوفياء ممن كانوا ينتظرون القفة بشكل منتظم فالأمر يتعلق بمنتوجات طبيعية ٠تباع تحت الطلب وبالدفع المسبق . أحد الشبان الذين أنشاوا تعاونية للفلاحة البيولوجية بالمنطقة، أوضح أن ” الزراعة البيولوجية قيمة مضافة و هي سلاح الفلاحين الصغار لمواجهة جبروت الفلاحين الكبار في السوق” مضيفا ان « الفلاح الصغير هو ضحية قلة الإمكانيات وبالتالي لا يمكنه مقاومة الإمكانيات الهائلة للشركات والضيعات الحديثة، إلا من خلال بوابة المنتوجات البيولوجية التي بدأ الإقبال عليها يتزايد شيئا فشيئا في المغرب وبدأ المستهلكون يعون قيمتها الصحية » ٠ أحد المزارعين في المنطقة أكد للجريدة ان الفلاحة الطبيعية لا تعني زراعة متخلفة، بل هي احترام للبيئة ولصحة الإنسان من خلال اعتماد طرق سقي اقتصادية وانتاج خضر وفواكه غير ملوثة بالاسمدة الكيماوية والمبيدات السامة، هنا في هذه الضيعات التي بدأت تقتنع بجدوى تجربة الفلاحة البيولوجية ، يقبل زبناء من الطبقات الميسورة بشكل منتظم إلى هذه المناطق لإقتناء قفة من الخضر الموسمية تزن حوالي 18 كلغراما، بثمن لايزيد عن 200 درهما، وهي منتوجات يصفها اصحابها بأنها لا تحتاج إلى أسمدة وكيماويات للتخصيب وقد تكون أثمنتها مرتفعة قليلا عن الموجود بالأسواق لكن منافعها الغذائية والصحية لا تقدر بثمن .
«الكومبوست» إبداع مغربي
الفلاحون هنا ليسوا مثل أسلافهم ، بل هم عبارة عن جيل جديد من الشباب يتعهدون الأرض بطرق حديثة وعلمية لكنها طبيعية في نفس الوقت ، سواء في الزراعة أو السقي أو التسويق و إحداث التعاونيات الفلاحية ، كما أنها تعتمد التعريف بنفسها في كل التظاهرات المحلية والجهوية وحتى الوطنية لتوسيع دائرة نشاطها وزبنائها، وسائل الإقناع الأساسية هي حماية البيئة والإنسان ، عبر مواقع الأنترنت المتخصصة والفيسبوك لتبادل المعلومات والمعطيات الجديدة في المجال الزراعة الطبيعية ٠وكذا التعاون مع الجمعيات الأجنبية و الأحداث المغربية صادفت خلال زيارتها لإحدى الضيعات النموذجية بدار بوعزة شابين فرنسيين يهتمان بالتجربة يقضيان فترة تدريب للتعرف على التقنيات المغربية في مجال الفلاحة البيولوجية . لا يفوت هؤلاء الفلاحون الشباب الفرصة للتعريف باهمية الفلاحة الطبيعية واضرار الفلاحة الكيماوية في جميع المناسبات ، واعتبار هذا النوع من الزراعة وسيلة للتمسك بالأرض والتشبت بها بدل الهجرة للعمل في المدن ، أحدهم شارك مؤخرا في معرض فلاحي برواق صغير جدا، تحدث بتفصيل عن منافع المنتوجات البيولوجية وأكد ان السماد الكيماوي، رغم منافعه الظاهرة على المدى القريب فإن مضاره على المدى البعيد مؤكدة و خطيرة، من خلال التأثير على خصوبة التربة نتيجة قتل الحيوانات والحشرات التي تعيش فيها و تحافط على توازنها الطبيعي، وكذا التسرب إلى الفرشات المائية وتلويث مياه الشرب ، ثم الإنتقال إلى المنتوجات الغذائية ومنها إلى الإنسان حيث تسبب له أمراضا خطيرة ٠ الشباب المزارعون لا ينتقدون الخضر والفواكه والمنتوجات العادية التي تغرق أسواق الخضر، ويقفون عند هذا الحد بل يقدمون حلولا بدبلة، من خلال وصفات وطرق لصناعة الأسمدة الطبيعية، التي تساعد على التخصيب دون الإضرار بالطبيعة، فهم يقومون بتجميع التبن والأعشاب الطبيعية الغنية بالكربون، ومخلفات البهائم والمواشي وحتى الدواجن، وهي غنية بالآزوت ، يضاف لها كميات من الرماد الغني بالبوتاسيوم والعظام، ثم مخلفات الطعام والخضر والنفايات المنزلية التي تتحلل مع المواد السابقة، وكل 20 يوما يتم تحريك هذه الأكوام ليحصلوا بعد شهرين على سماد طبيعي، جاهز للإستخدام في زراعة الخضر والأشجار غني بالمواد العضوية والمعدنية دون مضاعفات تذكر على البيئة أو الإنسان وقد وصفه أحدهم مبتسما بانه “طاجين” بالنسبة للتربة .
الزعفران والأركان وزيت الزيتون
الزعفران وزيت الزيتون و الأركان ، الفواكة المجففة و تقطير الأعشاب الطبية والعطرية، منتوجات بسيطة، لكنها أصيلة و عميقة في تجذرها في الأرض، وفلاحات توصف بالصبورة ، بعضها يرتبط بصناعات يدوية بسيطة هدفها تحسين دخل وأوضاع الاسر في العالم القروي، وهي منتوجات حافظت على صفائها الطبيعي لقرون ، ولم تستطع التكنلوجيا أن تنال منها ، ومادامت تحافظ على اصالتها فقد بدات بعض الجمعيات تعمل على فكرة تطوير هذه المنتوجات في إطار تعاونيات تصدر إلى أوربا، حيث المستهلك يقدر هذم المنتوجات حق قدرها ويدفع مقابلها أثمانا مرتفعة ، على عكس السوق الداخلية التي تبخس هذ المنتوجات قيمتها الحقيقة وإن كانت تخصص لها خانة تحت مسمى المنتوجات “البلدية ” التي تحتل مكانة خاصة لكن أثمنتها لا توازي مكانتها في أذهان مستهلكيها. وفي السنوات الأخيرة خاصة بعد المشاريع التي أطلقتها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية،بدأت هذه المنتوجات تنتعش كثيرا وظهرت تعاونيات مهمة منها ما يختص في انتاج الزعتر والخزامى، حيث يصنع منها نوعا من الصابون، وتعاونيات أخرى تهتم بانتاج الأركان في مناطق شياضمة وأخرى تهتم بانتاج الصبار «الكرموس الهندي» و استخرجت منه مربي ومسحوقا للتجميل وزيتا يباع اللتر الواحد منه بآلاف الدراهم ٠ الأصل في المنتوجات الغذائية كلها أنها بيولوجية ، لكن هاجس رفع الإنتاج والتصدير نحو بلدان الإتحاد الأوربي والسعي لتجنيب المحاصيل من الآفات الزراعية، دفع الفلاحين والشركات إلى اللجوء لإستعمال المبيدات والأسمدة الكيماوية بطريقة مكثفة ، لكن بالرغم من اعتبار المغرب بلدا فلاحيا بامتياز يزخر بالمنتوجات الأصيلة والتقليدية على ميزتها الطبيعية، فإن المائدة المغربية تتضمن ألوانا مختلفة من الأطعمة المصنعة والمعلبات التي تحتوي موادا حافظة و كيماوية، شيئا فشيئا تم انتهاج نمط الأغذية السريعة و الفاست فود والساندويتش الغنية بالكربوهيدرات الضارة ، مقابل التخلي عن الاكلات النباتية والطبيعية، التي تعتمد على مكونات طازحة، لكن مع تزايد انتشار الأمراض الخطيرة، يبدو أن الكثيرين فطنوا لقيمة الأغذية البيولوجية .
فطومة : عاشقة البيئة ورائدة الفلاحة البيولوجية
البداية كانت من مؤتمر حول تشغيل المرأة في أكادير قبل سنوات طويلة ، حينما فاجأ أحد الفرسيين الحضور وجلهم من النساء الناشطات ، بقوله إن منطقة سوس تعاني من تصحر متقدم جدا، كيف ذلك والمنطقة المعروفة بانتاجها لأجود الحوامض التي تصدر صوب أوربا تعاني التصحر كيف يعقل هذا؟ الملاحظة تجاهلتها جل الحاضرات لكن واحدة فقط شغلتها الفكرة كثيرا، وظلت تجول في خاطرها فكرة واحدة وبإلحاح ، ماذا كان يقصد هذا الفرنسي بالضبط ؟ وهو الخبير المحنك الذي بدأ الفلاحة البيولوجية، قبل خمسين سنة في منطقة قاحلة بفرنسا مليئة بالأحجار ، تحولت اليوم إلى بساتين غناء، إنها الفكرة التي ألهمت فطومة الجيراري بنعبد النبي رئيسة جمعية الأرض والإنسانية بالمغرب من أجل التفكير في خوض تجربة الفلاحة البيولوجية قبل عشر سنوات . في 2001 انتقلت فطومة إلى منطقة بالقرب من ضواحي الدار البيضاء بدار بوعزة و قامت باقتناء قطعة أرضية وتجهيزها بالكامل، وحفر بئر للسقي فيها وبدأت فيها أساليب الزراعة البيولوجية من خلال تكوين جمعية فلاحية ، ورغم المشاكل و الصعوبات الكبيرة انطلق المشروع بعدما استفادت الجمعية من خبرة جمعيات أخرى تهتم بالفلاحة البيولوجية في فرنسا وألمانيا، كما تم الحصول على مساعدة من عامل الحي الحسني ، من خلال شراكة مع جمعية (ايسبود) النسائية مكنتها من بناء سوق خاص لترويج المنتوجات الطبيعية ، سيتم افتتاحه قريبا . صعوبات كثيرة واجهها المشروع السابق بسبب عدم اقتناع الفلاحين الذي نرددوا في البداية وانتابتهم مخاوف كبيرة من فشل المشروع، وعدم تسويق المنتوجات بعد تجربة سابقة حيث تحملوا ديون كبيرة ، وغير أن الإتحاد الأوربي رفض المنتوجات التي تحمل منتجوها الكثير من الأعباء ٠ فطومة بنعبد النبي أحست أن الفلاحين لابد من اطلاعهم على النموذج الناجح حتى يقتنعوا بالتجربة، واليوم تحول مشروعها الرائد قبل عشر سنوات إلى ضيعة نموذجية، تتولى تكوين الفلاحين وتدريبهم على طرق الفلاحة البيولوجية بطرق علمية حديثة، وكذا الإنتاج التعاوني، حيث اقتنع اليوم عدد كبير من الفلاحين في المنطقة بالتجربة وبدأوا ينتظمون في تعاونيات فلاحية كما انتشرت العديد من الضيعات بالمنطقة ، بل إن تجربة الجمعية امتدت اليوم إلى منطقة ابن جرير ٠
فطومة بنعبد النبي الأستاذة الجامعية والناشطة النسائية و الجمعوية التي تهتم بالبيئة ،التي يعرفها كل القرويين وسكان المنطقة، يكفي أن تذكر إسمها ليدلوك على الضيعة بكل فخر وسط الممرات الضيقة والضيعات، تقول اليوم بعد عشر سنوات تطور المشروع كثيرا، وأصبح عليه طلب كبير خاصة من سكان الدار البيضاء مهندسين أطباء صيادلة وأطر مختلفة تهتم بهذ النوع من الإنتاج ، مضيفة « غالط لي يقول أن الفلاحة البيولوجية غير منتجة بل بالعكس كاين الخير إلى تحترمات فيها الطرق العلمية ٠٠٠ » ٠
تقول إن الفلاحة البيولوجية صديقة للبيئة من خلال استخدام الطاقة الشمسية والمتجددة واقتصاد مياه السقي من خلال التنقيط وكذا الحفاظ على التربة وتشغيل أبناء المناطق القروية، عبر تقنيات يدوية بسيطة تتعلق بعدم تعميق الأخاديد وتغطية التربة لحمايتها من الشمس الحارقة، تقول فطومة إن ضيعة صغيرة جدا لا تتعدى مساحتها الهكتار كافية لتوفير زراعة معيشية للفلاح واسرته وكذلك توفير فائض للتسويق مضيفة أن الجمعية حاليا تتلقى طلبات عدد كبير من الزبناء يتم الدفع عنها مسبقا لمدة ثلاث اشهر، حيث يتم تلبية حاجياتهم أسبوعيا قفة تضم 18 كلغراما من الخضراوات الموسمية مقابل 200 درهم . وهي اللائحة التي تجدد كل ثلاث شهور واهم المنتوجات هي (البطاطس، الفلفل ،الطماطم، البصل ، الباذنجان، القرع، السالمية، الفول، البروكولي، المقدونس، الفجل ) كما تتوفر الضيعة على عدد من أشجار الزيتون وحتى الاركان وبعض الأعشاب الطبية،كلها يراعى فيها تقنية “الجوار الفلاحي”باعتبار أن بعض المنتوجات تنسجم مع بعضها بشكل كبير وأخرى تؤثر على بعضها ، لكن رغم نجاح الضيعة النموذجية ، تتمنى فطومة أن تتحول التجربة إلى مشروع يلقى الدعم الحكومي ويتحول إلى رافعة للتشغيل في العالم القروي .
عبد الواحد الدرعي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
المقالات الأكثر مشاهدة
73703 مشاهدة
1