تربيعين.. قرية أطلسية من برد وثلج وعزلة قاتلة
من تربيعين إلى خنيفرة طريق من مطر وثلج. مسافة محفوفة بالخطر ومثقلة بالهواجس. قبل ذلك انطلق الثلج في التربص بضحاياه وهم في قلب دوار تربيعين. في أي لحظة يمكن أن تأسرهم الثلوج، وتجعل منهم رهائنها إلى أن يذوب حصارها الضارب في البياض. عجل انطلاقها في التساقط برحلة العودة في اتجاه خنيفرة.. هذه محاولة في التقاط آثار ما يخلفه الثلج والبرد في نفوس الآدميين وأجسادهم…
«هادا الثلج بدا يطيح.. ماشي الشتا.. حسيت بيه تيضرب ف وجهي». قال عز الدين ابن مدينة خنيفرة. إذن الحيطة والحذر. أضاف الشاب المؤدب على مشارف دوار تربيعين «التلج ما معاه ملاغا». يهجم على المرء في الخلاء إحساس عجيب وغير قابل للوصف. إحساس استثنائي يمتزج فيه الترقب بالخوف وتلك الأسئلة المصيرية وهو أعزل وعاجز أمام السيدة الطبيعة في دوار مغلوب على أمره من دواوير الأطلس المتوسط. ماذا لو حاصره الثلج واعتقله داخل السيارة؟! عبارة ترددت كثيرا «ما فينا ما نحصلو». الثلج فخ لا يرحم ضحاياه. هذا ما يتداوله أهل الأطلس المتوسط. زاد عبد الرحمان من حدة الهواجس «ماشي التلج.. إلا طاحت غير شوية الشتا.. غادي تحصلنا هنا الله يحفظ»، ثم أردف «الطريق خايبا والطوموبيل ما تقدرش تخرج للكودرون».
في الطريق الصاعد إلى أغبالو
مباشرة بعد مغادرة مدينة خنيفرة. لا يمل عز الدين من رواية تفاصيل «الحصلة» التي ورطته فيها مؤخرا السيارة أثناء زيارته مؤخرا لدوار تربيعين. أصاب الطوموبيل العطل في قلب تربيعين بعيدا عن «الكودرون». «الطريق المتربة» تسمية ترقى بكثير عن مستوى ما أطلق عليه عز الدين كلمة «لابيست». نتوءات صخرية، تصعد عبرها السيارة وتنزل كيفما اتفق. تغيب أي علامة تقول إن عجلات مركبة ما سبق لها أن مرت من هذا المكان. كأنها أرض بكر لم تدنسها عجلات وسائل النقل الحديثة.
قضى عز الدين الذي يشتغل وسيطا في بيع الأراضي الفلاحية، أكثر من خمس ساعات يحاول إصلاح العطب في البرد القارس. من منتصف النهار إلى حدود الخامسة مساء من ذلك السبت المشهود في تاريخه الشخصي. ابتسم وهو يعترف بالمخاوف التي سيطرت عليه، خاصة هاجس انطلاق الثلج في التساقط. في الأخير استعان ببغل لجر الطوموبيل في اتجاه الطريق المعبدة.
في الطريق إلى تربيعين. جعبة عبد الرحمان مليئة بالحكايات. زميل عز الدين في المهنة رهن الإشارة للإفراج عن حكايات من ثلج وعزلة. نساء حوامل يضعن مواليدهن على متن التراكتورات. معلمون قهرهم البرد والثلج وسوء التغذية. أهل تنفكو «جمعو ليكارت ومشاو لاحوهم ف الجماعة.. باش حنا مغاربة؟!». عزلة قاتلة قد تمتد شهرا كاملا. البغال تتحول إلى وسيلة لنقل المرضى في اتجاه الطريق المعبد.
قبل تربيعين. اقترح عبد الرحمان الانعراج في اتجاه دوار نعته ضاحكا بعاصمة البرد والرياح. السيد البرد لا يرحم. الثلج في القمة الجبلية يشرف على دوار آيت واحي وحقي. لم يبالغ الزمازيغي الأصيل البرد هنا مستبد لا يرحم. فرض الانخفاض الشديد لدرجات الحرارة حظر التجول على أهل الدوار. وحدها الحيوانات والدواجن تواجه شططه الذي لا يرحم. أبواب ونوافذ البيوت الطينية، وأحيانا أخرى حيطانها مكسوة بالبلاستيك، وسيلة مرتجلة للمزيد من الاحتماء من لسعات إبر البرد القادرة على النفاذ إلى العظم. الملاحظة التي يقف عليها المرء أن الملابس الصوفية لا تقف حاجزا في طريق هذا الكائن اللا مرئي المفتوح على الوصول إلىأعماق الآدميين.
طريق من صابون
بعد أغبالو بما ينيف عن ثمانية كيلومترات. غادرت السيارة الطريق المعبدة. تركت «الكودرون» في اتجاه «لابيست». الهدف المنشود اسمه تربيعين. دوار أطلسي مقطوع أصلا. إذا تساقط الثلج تنقلب الأرض إلى قطعة من زجاج. يكفي أن يبلل المطر الأرض لتنقطع الطريق المتربة، وتصير تربيعين منطقة معزولة. «تتولي لارض صابون». قال عبد الرحمان في وصف الحالة التي تصير عليها الطريق المتربة. طريق لزجة يستحيل استعمالها. طريق من صابون كما وصفها عبد الرحمان. تفقد الأقدام القدرة على الوقوف. أي حركة تعني فقدان التوازن ثم الانزلاق الأكيد. الاستعمال الوحيد هو التزحلق! أما عجلات السيارات فمصيرها سيكون في مهب اللزوجة. وحدها عجلات التراكتور الضخمة تنجح في رفع التحدي.
«إلا صبّات الشتا.. غادي نحصلو وما نقدروش نخرجو للكودرون». قال عز الدين الشاب الخنيفري الذي «حصل» في تربيعين. عبارة حركت الهواجس وأيقظت المخاوف. الطبيعة مصيدة منصوبة في طريق الآدميين الذين يغامرون في هذه الأقاليم. تربيعين بلا طريق تؤدي إليها. هذه هي الخلاصة التي خلص إليها عبد الرحمان. الرجل ينشط في مجال السمسرة في عمليات بيع وشراء الأراضي، وبالتالي فهو على علم بالتفاصيل الدقيقة للمنطقة، وسبق له أن خَبِر مخاطرها أثناء موسم الثلج. يحذر السائق، وينبهه إلى ما ينتظره. «حافظ الطريق»، علق السائق على تنبيهات منقذه من التورط في مفاجآت «لابيست».
التدفئة قبل الأكل!
في منتصف الطريق المتربة إلى تربيعين. في تابوهوت بالضبط. العربة التي يجرها التراكتور مثقلة بالعيدان. «السلام عليكم». «وعليكم السلام». «مين جايب هاد العود؟». «تنجمعوه من شجر التفاح.. هادا ديال الزبِير.. تنطيْبُو بيه الخبز». «فين غادي بيه؟». «للدار». «فين كايْنَا الدار؟». «ف دوار موكْدي». «باقي بعيد؟». «شي جوج كيلومتر».
الغابة بعيدة عن المنطقة. يضطر الناس هنا إلى شراء حطب التدفئة. أما الذين يتحدون البعد ويقطعون المسافة في اتجاه الغابة فالحرس الغابوي لهم بالمرصاد. «الخطيَّا» في انتظارهم. يقول امحند «إلا دِّيتي البغل وشدوه هاز العود اليابس.. تيديوه للفوريان وتتعطي فيه خمستاعش ألف ريال ولا عشرين ألف ريال». إذا ضبط الحرس الغابوي الشخص متلبسا بقطع الأشجار أو «العود لخضر» كما يسمونها هنا في الأطلس المتوسط، ترتفع قيمة الذعيرة لتصل إلى حدود ستة آلاف درهم. لا مفر من تدبر أمر الحطب «يادبر على العود ياتموت بالبرد». امحند حاسم في إشكال الاختيار بين الحطب والأكل «إلا حطو ليك العواد والخبز.. تاخد العواد»! ولا داعي للاستغراب «حيت خاصك ف هاد الوقيْتَا تسخن».
انسحب الرجل وعلق عز الدين على ما قاله «الناس الله يستر تيسمحو ف الماكْلا باش يشريوْ لعواد»!
ترتفع درجة الحرارة تدريجيا انطلاقا من شهر مارس. تبدأ الاستعدادات من جديد لاستقبال موسم البرد والثلج. يُخزن الناس الحطب خاصة وأن ثمن «العود» ينخفض في السوق «يشريوْ العود بالرّخَا» كما قال عبد الرحمان. دون نسيان المواد الغذائية الأساسية وعلف البهائم.
عزلة من برد
تتناسل السيول على طول المسافة الفاصلة بين «الكودرون» ودوار تربيعين. علق عز الدين على المشهد قائلا «هاداك التلج تيدوب»، ثم إلى التنويع على واقعة «الحصلة» في تربيعين. «الطوموبيل ما وقع فيها حتى مشكل.. غير الباتْري خوا». لم يتمالك السائق أعصاب انفعاله وانفجر في وجه قريبه «صافي الله يرحم باك.. سكتنا.. باراكَا.. واش بغيتيني حتى أنا نحصل هنا؟!». أضاف على إيقاع الانفعال دائما «ما تبقاش تدكر ليا البان». اضطر الشاب إلى النزول عند رغبة قريبه، لكنه سرعان ما عاد إلى الموضوع «داز نهار فسر». نهار رائع. رغم ما وقع فقد قضى يوما رائعا في ضيافة أحد الفلاحين «حطو لينا السمن والزيت البلْديَا». نظر إلى قريبه ثم أضاف «الناس مزيانين هنا.. الكرم والضيافَا».
الانخفاض الكبير في درجة الحرارة فرض حظر التجول أو كما قال عبد الرحمان «كل شي ساد عليه وشعل الفورنو». توهم الأعمدة والأسلاك بأن الدور مزودة بالطاقة الكهربائية. خطأ يصوبه عبد الرحمان «هادي غير لانسطلاسيون.. باقي ما دوزوش ليهم الضو». أخيرا امرأة شابة تحدت الحظر، وانهمكت في توجيه ضربات الشاقور إلى جذع الشجرة. لم يمنعها البرد وانطلاق قطرات المطر من عملية إعداد حطب التدفئة «تتوجد للفورنو ما ياكل ف الليل»! قال عبد الرحمان ثم تطوع وتحدث إليها بالأمازيغية. زوجها غادر إلى المرعى، ولا يمكن أن تتحدث إلى أشخاص أغراب. «عندها الحق ما تهدرش مع البراني» قال عز الدين ثم انتقل إلى شرح الأسباب. البيت معزول وبعيد بأكثر من كيلومترين عن أقرب جار. تعيش عزلة مطلقة رفقة بنت صغيرة لم تتجاوز عامها الثالث.
دقائق معدودة بعد مغادرة دفء السيارة، يستبد البرد بالجسد. يسري «سمه» في الأطراف. الملابس عاجزة عن مقاومة الإحساس بعدائه. القفازات كأنها «تغربله» ليسري في الأصابع انطلاقا من الأظافر. الأصوات التي تحدثها الريح تضاعف من الإحساس بالبرودة الشديدة. منطقة تربيعين ثلاجة لتجميد الأجساد الآدمية. البرد والريح يحاصران الآدمي الأعزل أمامهما. يولدان لديه الانفعال. يشتد الشعور بالضيق والرغبة الملحة في الحركة كأن الروح تسعى وراء فرصة لتحقيق شرط الدفء المحال في العراء.
ليس من حق المرء أن يمرض في تربيعين طيلة موسم تساقط الثلوج. عليه أن يؤجل المرض إلى أن تذوب الثلوج وتنفتح الطريق إلى أغبالو وخنيفرة. «يجي الحديد ف لابيست» كما قال فلاح من منطقة تابوهوت. على الزوج وزوجته أن يخططا بدقة متناهية لمشروع الحمل حتى تضع الزوجة مولودها خارج موسم تساقط الثلوج. إذا وقع خطأ في التقدير فعلى الزوجة أن تستعد لاحتمال نقلها على متن دابة أو تضطر إلى وضع وليدها على متن تراكتور إن نجح زوجها في العثور عليه. تصير تربيعين منطقة معزولة تماما «إلا صبات غير الشتا ما كاين فين تدوز». الوصول إلى «الكودرون» من المستحيلات. يستعمل الناس في الأيام العادية البغال والحمير لقطع المسافة الفاصلة عن الطريق المعبدة. هناك ينتظرون وسيلة نقل، غالبا ما تكون سيارات الخطافة التي تقلهم في اتجاه أغبالو. أما وسائل النقل القانونية فغير متوفرة.
دخلو تسخنو بعْدا
الثلج ينذر بالانطلاق في بسط كسوته على المكان. الطريق المتربة غير لائقة للاستعمال. ليست طريقا متربة «ما طريق ما بيست.. ما والو». يصعب الحسم في كون هذه الطريق سبق وأن مرت منها سيارة في يوم من الأيام. أرض بكر. لم تخلف العجلات آثار مرورها من المكان. ليست مبالغة. السيارة تضطرب وتترنح مستسلمة لإيقاع انخفاض الأرض وارتفاعها دون سابق إعلام. انتقل الانفعال من المركبة إلى قائدها. فجأة نبتت دار بسيطة في المكان. دار يتحقق فيها مطلق معنى العزلة. إذا سقط الثلج، يحاصر أهلها العُزل. يعزلهم عن أقرب جيرانهم.
رفع السائق الراية البيضاء. يستحيل عليه أن يقود السيارة في هذه الطريق. لا مفر من استعمال القدمين للوصول إلى المنزل. مغادرة السيارة مغامرة محفوفة بالمخاطر. تقف قوة الريح القطبية حاجزا مانعا من التقدم. تتثاقل الخطوات. تضاعف التربة المبللة من تثاقلها. تتصاعد الأنفاس. خمسون مترا تتطلب كل هذا الجهد العضلي. لا يتوقف عز الدين عن توجيه تنبيهاته «سير لهاديك البلاصا اليابْسا». الحمد لله مرت الرحلة بسلام. المدخنة استوت على السقف وهي تنفث دخانها خارج فضاء البيت.
الجرو يرحب بالضيوف كأهل الدار. نعت عز الدين المنطقة بعبارة «مركد التلج والبرد». مرقدهما. الأبواب والنوفذ مغلقة. الجرو يتحرك في المكان حول الدجاجات و«بيبيات». عبد الرحمان ينادي بالصوت العالي لينتبه المتحلقون حول «الفورنو». «آوْرا.. السلام عليكم». قال عبد الرحمان عندما أطل الرجل بأرنبة أنفه كأنه يخشى من شر البرد القارس. حاول عز الدين أن يفرك يديه، ثم نطق قائلا «الصباع ماتو». محمد مضياف. لم يتأخر في دعوة ضيوفه بالتفضل إلى الداخل «دخلو تسخنو بعْدا». دعوة لا يمكن ردها في وجه الفلاح البشوش.
نار الفورنو منهمكة في التهام الحطب. رائحة خاصة تطغى على فضاء الغرفة ذات السقف الخشبي المشكل من جذوع شجر الأرز. إنها رائحة احتراق الخشب التي لم تنجح «الجعبة» في تصريفها في اتجاه المدخنة التي تعلو سقف البيت البسيط. زود محمد الفورنو بالمزيد من الخشب ثم استعان بـ«الرابوز» ليسهل عملية الاحتراق.
البيت مجهز بالأسلاك الكهربائية في انتظار وصله بالطاقة. حدث سعيد ينتظره محمد في عامه الخامس والثلاثين على أحر من الجمر. عز الدين منشغل بأمر الأيادي الخشنة التي فقدت لونها وشكلها الأصليين. لا يمل من تنبيه رفاقه إلى الموضوع الذي يشغل باله. يتأمل يديه ثم يعلن قائلا «شوف يديهم كي ولاَّوْ مساكن بالبرد».
محمد منشغل بمستقبل بنته وابنه. أطفال تربيعين يعانون كأغلب تلاميذ قرى الأطلس المتوسط، من الاضطراب في السير العادي للدروس نظرا لغياب المعلمين الذين يطردهم البرد في اتجاه المناطق الأكثر دفئا. الطفل الخجول يتحرك داخل فضاء الغرفة حافي القدمين. «سيدي» يدرس في المستوي الثاني. شحيح في الكلام. نابت إلهام عن ابن عمها في الرد على السؤال «عندو تسع سنين». البنت جريئة في عامها الحادي عشر. تدرس في المستوى الخامس من التعليم الأساسي. المعلم حاضر رغم البرد واحتمال سقوط الثلج، لكن إلهام تغيبت لأنها رافقت أمها إلى ميدلت.
إلهام لا تغادر البيت عندما يسقط الثلج وينشر بساطه علي محيط الدار. لا تذهب إلى المدرسة. تحتمي بالغرفة التي يتوسطها الفورنو.
أصر محمد على أن ينتظر الضيوف إلى أن تعد زوجته صينية الشاي، ثم انتقل إلى الحديث عن شق الطريق إلى تربيعين. «خاص الطريق». مطلب الفلاحين في هذه النقطة المعزولة عن البلد في موسم البرد والثلج.
انطلق أخيرا الثلج في التساقط على تربيعين. الدليل جلباب محمد الذي علقت بسواده ندف الثلج الأقرب إلى النقط القطنية. محمد واضح في تنبيهه للزوار. إما الانسحاب أو التفضل بقبول دعوته «إلا طاح التلج غادي تقطع الطريق.. مرحبا بيكم حدا الفورنو». ضيوفه المكرمون إلى أن يذوب الثلج وتنفتح الطريق في اتجاه «الكودرون».
جمال زايد - الأحداث المغربية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
المقالات الأكثر مشاهدة
14664 مشاهدة
3
10966 مشاهدة
5
9206 مشاهدة
7
7205 مشاهدة
9