واقع مؤلم وتحديات كثيرة تواجه المصابين بالأمراض النفسية في المغرب

رجل يعاني من اضطرابات نفسية في ضريح في بويا عمر قرب مراكش، أرشيف

الحرة

في شوارع المدن الرئيسية في المغرب، يتجول عشرات من المرضى النفسيين وكثير منهم من المشردين، في غياب من يهتم بشؤونهم. وأغلب المشردين من هذه الفئة هم من المواطنين الذين تخلى عنهم ذووهم بسبب تكلفة الرعاية المرتفعة وغياب البنية التحتية لعلاجهم.

فحسب إحصائيات رسمية أصدرتها وزارة الصحة المغربية، تعاني نسبة كبيرة من المغاربة من اضطرابات نفسية متفاوتة، قد تتحول في غياب المراقبة والمتابعة الطبية، إلى أمراض نفسية وعقلية حادة.

وشرحت طبيبة الأمراض النفسية في مركز طب الإدمان في مدينة الدار البيضاء الدكتورة زينب حيمر لـموقع "الحرة" أنه "لا يوجد فرق بين الاضطرابات النفسية والعقلية إلا في التسمية"، موضحة أن "المشكل في كلا الحالتين في الدماغ وفي المواد التي يفرزها الدماغ، وأن تلك الاضطرابات تكشف أحيانا عندما يمر الشخص بمشاكل اجتماعية أو عائلية وهو ما يسميه البعض مشاكل نفسية، وأحيانا لا تكون أي مشاكل عائلية أو اجتماعية لدى الشخص فيظهر عليه المرض فتسمى اضطرابات عقلية".

الأمراض النفسية منتشرة في المملكة

وكانت دراسة ميدانية أعدتها وزارة الصحة بتعاون مع المنظمة العالمية للصحة عام 2008، قد كشفت عن أرقام وضعت نصف المغاربة تقريبا في خانة المصابين بأمراض نفسية، تراوحت بين القلق والاكتئاب والخوف وانفصام الشخصية.

وفي هذا الإطار، قالت الدكتورة حيمر إن "الكثير من المواطنين في المغرب وفي دول أخرى يلجؤون إلى الطب التقليدي، وأغلبيتهم لا يصلون إلى المستشفيات إلا بعد فوات الأوان".

ويقابل هذه الحقيقة واقع صعب في ظل ضعف الخدمات والمرافق وعدم توفر الكوادر الكافية لرعاية مرضى الاضطرابات العقلية، فضلا عن تدهور أوضاع المستشفيات القائمة والتي شبهها وزير الصحة الحسين الوردي في تصريحات سابقة بـ"المعتقلات"، وقال "حتى العقلاء والأصحاء إن ساقتهم الأقدار إلى دخول إحدى المصحات الأقرب منها إلى معتقلات لن يخرجوا أصحاء".

معاناة مع المجتمع

السيدة أم أحمد ومحمد، شاهدة على وضع الصحة العقلية في المغرب، وما يعاني منه المرضى وذووهم. فقد أصيب ولداها التوأم بصدمة نفسية قاسية عقب وفاة والدهما فجأة وهما طفلين في الـ12 من العمر. وعلى الرغم من زياراتهما المنتظمة إلى أطباء مختصين، إلا أن حالتهما لم تتحسن بل تفاقمت وباتت ترافقها نوبات غضب وعنف يكسران خلالها كل ما يجدانه أمامهما.

وسردت الأم لموقع "الحرة" مغامراتها مع الأطباء والممرضين والمواطنين العاديين، وألوان سوء المعاملة التي يذوقها ولداها اللذان لم تتخل عنهما أبدا ولم ينقص حبها لهما خلال أكثر من عقدين من المعاناة، حتى عندما يكونان في أسوأ الحالات.

وقالت إن ولديها يعيشان في انعزال تام عن المجتمع على الرغم من أنهما يخرجان ويتجولان في بعض مناطق مدينتهما.

وأردفت قائلة إن "كثيرا من المواطنين يصدرون أحكامهم على أشخاص لا يعرفونهم مثل ولداي، ولا يشعرون بأي حرج فتجدهم ينظرون إليّ ثم إلى أحمد، الذي يحب مايكل جاكسون ويقلده في لباسه وحركاته، ثم إلى محمد، الذي يحب الموسيقى ويرتدي ملابس هيب هوب ويضع وشما على ذراعيه وعنقه، ثم ينظرون إلي مرة أخرى باشمئزاز، جاهلين مرضهما وحاجتهما إلى الحب والتفهم وليس الاحتقار والسخرية".

وأوضح الأستاذ في كلية الطب ورئيس المركز الجامعي للطب النفسي في الدار البيضاء إدريس الموساوي لموقع "الحرة"، أن "نظرة المجتمع إلى الأشخاص الذين يعانون من الفصام أو العديان أو السلوك غير المتوقع، يغلب عليها التمييز والاستفزاز".

وأشار إلى أن تلك النظرة السلبية متواجدة في كل المجتمعات لكنها منتشرة بشكل كبير في المغرب، مما يدفع عددا من العائلات إلى منع المريض الفصامي مثلا من الخروج إلى المجتمع، بل هناك "عائلات تقتاد مرضاها إلى أضرحة مثل بويا عمر حيث يكبلون بالسلاسل (لطرد الجن)"، حسب قوله.

غير أن أم أحمد ومحمد التي أكدت أنها لا تؤمن بالأضرحة أو غيرها من الطرق غير الطبية لعلاج ولديها، قالت إن الأخيرين يخرجان كما يحلو لهما لكن احتكاكهم مع المجتمع يؤدي غالبا إلى تدهور حالتهما.

وتابعت أن "الجهل وانعدام الرحمة المنتشرين في المجتمع" يزيدان من اضطراب ولديها اللذين يعيشان في عالمهما، لكن الناس لا يتركونهما وشأنهما فهناك شباب يطلبون من عاشق مايكل أن يرقص ويصورونه ويتظاهرون بأنه يعجبهم بينما هم يسخرون منه ليعود إلى المنزل، وهو في حالة ثوران تستدعي أحيانا نقله إلى المستشفى على وجه السرعة.

معاناة مع المرض

وشرحت الدكتورة حيمر أن هناك حالات من الأمراض النفسية تستدعي دخول المريض إلى المستشفى، مشيرة إلى أن "هناك علاجا نفسيا يتم عبر العمل على الأفكار من أجل مساعدة المريض على تغيير سلوكه"، كما أن هناك علاجا بالأدوية التي ظهرت قبل 60 عاما وتطورت مع مرور السنين وساهمت بشكل كبير في تحسين حياة الكثير من المرضى، بل جعلت بينهم من يمارس حياته بشكل شبه طبيعي "ما دام يتناول دواءه".

لكن الأدوية لم تساهم في تحسين حياة الشابين أحمد ومحمد، بل منعتهما من العمل أو ممارسة حياتهما ولو بشكل شبه عادي. فالآثار الجانبية للأدوية، التي يتناولانها منذ أكثر من 20 عاما، أدت إلى تدهور صحتهما العامة وأثرت على أعضاء أخرى في جسديهما، فأخفقا في متابعة دراستهما أو تعلم حرفة تؤمّن لهما قوت يومهما.

وقالت الأم إنها سجلتهما في مدرسة لتعلم الحلاقة ثم مدرسة للخياطة، لكنهما كانا يصابان بالإرهاق الشديد بسبب الأعراض الجانبية للأدوية، فضلا عن الرعشة الشديدة والإفراز الفائق للعاب، مما "جعلهما مرة أخرى محط سخرية من زملائهما". فتركا الحرفتين اللتين لو تعلمانها لكانت اليوم مصدرا لرزقهما.

معاناة مع الأطباء

ولا يقتصر سوء المعاملة التي يلقاها الشابان، على الغرباء في الشارع، بل إنها تتم على يد أشخاص أخذوا على عاتقهم مهمة مساعدة هذه الفئة من المواطنين.

وفي هذا الإطار، قالت الأم إنها اضطرت في إحدى الليالي إلى طلب مساعدة الشرطة لنقل ولديها إلى المستشفى حيث تم حقنهما بجرعة كبيرة من الدواء المهدئ، لكن الشخص المكلف حينها، وكانت سيدة، تعاملت معهم "بقسوة". وتابعت أن تلك السيدة "تحدثت إلي أمام ولداي المريضين واتهمتني بأنني جلبتهما إلى المستشفى للتخلص منهما".

وقالت إن مثل هذا الاتهام لا ينبغي أن يصدر من شخص "من المفترض أنه أدرى بالطريقة التي ينبغي أن يعامل بها المرضى، كما أن مثل ذلك الكلام قد يشكل خطرا علي أنا كأم إذا ظن أحمد ومحمد أنني أنوي رميهما في المستشفى".

وأقرت الأم بأن الاهتمام بأشخاص يعانون من أمراض عقلية ليس بالأمر الهين. لكنها قالت إن الأطباء والممرضين الذين اختاروا التخصص في الطب النفسي "عليهم أن يتحلوا بالإنسانية وأن يكونوا قدوة لغيرهم"، مشيرة إلى أنه على الرغم من وجود استثناءات، إلا أن "عددا كبيرا من الأطباء والممرضين الذين تعاملنا معهم خلال مشوار العلاج هم أنفسهم يعانون من أمراض نفسية ويحتاجون إلى الرعاية".

وفي السياق ذاته، قالت الدكتورة حيمر إن "هذا المجال ليس سهلا على الإطلاق"، مشيرة إلى أن أغلبية المرضى "يكونون في حالة خطر عندما يصلون إلى المستشفى، ويشكلون حينها خطرا على أنفسهم وعلى المجتمع".

وتابعت أنه في حين يعاني 47 في المئة من المغاربة من أمراض نفسية، يوجد في المقابل نقص شديد في عدد الأطباء والممرضين في مجال الصحة النفسية، مما يشكل ضغطا كبيرا على الكوادر الطبية المتوفرة.

"ما من عائلة تخلو من مريض عقلي"

وقال الدكتور الموساوي إن نظرة المجتمع إلى هذه الفئة من المواطنين "غير حبية"، لكنه  أكد أنه ينبغي إدراك أن هذه الأمراض تسببها اضطرابات في الدماغ، وأن هذا مرض كجميع الأمراض الأخرى، وعلى الناس أن يتعاملوا بإنسانية مع الذين يعانون منها كيفما كان الحال، مؤكدا أنه ليس هناك أي عائلة إلا وأحد أعضائها يعاني من مرض نفسي ما.

وكان المجلس الوطني المغربي لحقوق الإنسان قد أصدر تقريرا في نهاية العام الماضي كشف فيه أن القطاع العام في المملكة، التي يزيد عدد سكانها عن 30 مليون نسمة، يضم 172 طبيبا نفسيا و740 ممرضا في الطب النفسي فيما لا تتوفر في البلاد سوى 2000 سرير موزعة على 27 مؤسسة ومستشفى خاص بالمرضى النفسيين.

وكان وزير الصحة، قد وصف هذا الواقع بأنه خطير، وأوصى بجعل إصلاح القطاع وتحسين الولوج إليه والاهتمام بالمرضى وتأهيل الموارد البشرية والمالية واللوجستية ضمن أولويات القطاع خلال عرضه مخطط العمل ما بين عامي 2012 و2016.

وقد أبدى الدكتور الموساوي تفاؤلا إزاء برنامج الوزارة للنهوض بجميع مرافق الصحة النفسية، مشيرا إلى وجود "مجهود جبار" من قبل الوزارة، خصوصا بعد أن قال وزير الصحة  أمام البرلمان إن توفير المستعجلات الطبية والجراحية والصحة النفسية والأمراض النفسية من أولويات وزارته.

وفي ظل غياب الدعم الحكومي الكافي، تنشط بعض الجمعيات مثل جمعيتي أملي والبلسم في مجال مساندة المرضى النفسيين وعائلاتهم، لكنها هي الأخرى تواجه الكثير من التحديات.

بديعة منصوري 


المقالات الأكثر مشاهدة