زمن "الربيع العربي".. انتقال غير محسوم وأفق مفتوح على كل الاحتمالات
أخبارنا المغربية
زهور السايح
تطل انتفاضات ما يسمى ب"الربيع العربي" على سنتها الرابعة، والمشهد السياسي بالبلدان، التي كانت مسرحا لهذا الحراك، لم تتضح بعد معالمه ولم تحسم جغرافيته، ومعه تتعدد الآراء والمواقف، وتتناسل الأسئلة والأجوبة بشأن محركاته الحقيقية (داخلية محضة أم خارجية أم هما معا بحجم تدخلات مختلفة)، وكذا مآلاته في ظل واقع متغير باستمرار وتجاذبات وصراعات حول مواقع القوة.
وتلتقي هذه المواقف والآراء جميعها عند الإقرار بانفتاح البلدان التي دخلت هذه التجارب على كافة الاحتمالات، قد يكون أقلها تشاؤما، لدى وجهات نظر بعينها، ميلاد أنظمة من رحم سابقتها بنفس ملامحها العائلية بتفاصيل قد تكون مجرد تنويعات تمويهية ليس إلا.
ففي ظل ما يجري حاليا من ارتباك وفقدان كلي للبوصلة لدى البعض، أو تناحر وتصادم يضع بعضها على شفير الحرب الأهلية، فيما يكشف عن اضطرام أوار هذه الحرب لدى البعض الآخر، تتعدد احتمالات وأشكال واقع حال ما ستنتهي إليه هذه التجارب.
وما بين احتمال نجاح بعضها في إرساء النواة الصلبة الأساس لتبرعم أنظمة حكم تتجه بالفعل صوب البحث عن تأسيس أرضية لديمقراطيتهاº وصولا في يوم ما إلى الديمقراطية الحلم، وانغماس البعض في الفوضى والعدمية والتناحر، وسقوط البعض الآخر في حضن نظام أسوأ من سابقه .. ما بين هذه وتلك مسافات زمنية ليست بالهينة بالنسبة لمستويات نضج تدبير المرحلة وتوقع مآلاتها وقراءتها بالحياد المطلوب.
وفي الوقت الذي يصر فيه محللون على أنه من قبيل المجازفة التكهن بما ستؤول إليه مصائر هذه التجارب، يرى آخرون أن مخاض التغيير في هذه البلدان، والذي قد يمتد لدى بعضها زمنيا بشكل يصعب تكهن مداه، يحمل في ثناياه بذور الفشل والنجاح معا.
ويؤكد هؤلاء أن تدبير محركات التغيير بهذه البلدان هو ما يحسم نتيجة المعادلة، التي تبقى ضمنها المعركة أو المعارك بين مواقع القوة والضغط، وفشل أو نجاح هذا الطرف أو ذاك في فرض أجندته، المحرك الأساسي لكافة التفاعلات، والشاحن لدينامية التحول، وبالتالي المسؤول عن صناعة المشهد السياسي.
ولن يكون إخفاق هذه التجارب، برأي متابعين، "بعودة النظام القديم وإنما بفشلها في الاتفاق على شروط الديمقراطية" المفترض أنها السبيل إلى إرساء السلم الاجتماعي الذي هو شرط أساس لكل تنمية.
كما أن هذا الحراك أو أيا كانت التسميات والنعوت ليس بالضرورة، بقناعة المتفائلين من المنخرطين في النقاش حول ما يجري، "انتقالا فوريا إلى أرض النعيم"، وإنما هو وعد بفسح الطريق أمام البحث عن شروط تحقيق السلم الاجتماعي والتنمية الاقتصادية، وتوسيع وإنضاج آليات النقاش حول هذه الشروط.
ويرى محللون أن الانقسام والفوضى وتعطل الحياة السياسية والاقتصادية وحجم الخسائر المادية والمعنوية، التي عرفتها هذه التجارب وما تزال، نجمت، بالأساس، عن "نخبة مدنية كسيحة وفهم متخلف للدين"، وغياب مشروع مجتمعي متكامل، وعدم وضوح في الرؤية، وضبابية في استيعاب عدد من المفاهيمº خاصة تلك المرتبطة بماهية الدولة المدنية وماهية الحكم الرشيد، وغيرها من المفاهيم الأساسية لبناء المرحلة.
وبالإضافة إلى هذا وذاك، يعود هذا الارتباك، عموما، إلى خلفية تاريخية مثقلة بإحباطات وإخفاقات على مستوى تنظيم الحوار بين النخب الفاعلة، وإرساء شروط الدولة الوطنية، وأيضا إلى رغبة فئات بعينها في الاستئثار بالسلطة على حساب ما تفرزه جدلية التدافع بين النخب وكذا التطلعات الحقيقية للأغلبية، وأحيانا ضدا على المصالح العليا للبلد.
مآل هذا الحراك، الذي لم يحسم مصيره، ولم يتضح بعد إن كان يسير في اتجاه الانتقال الديمقراطي المفضي إلى بناء الدولة بالمواصفات التي داعبت الشارع بهذه الدول وصنعت انتفاضاته، هو ما يجعل تسمية "الربيع العربي"، التي ثار حولها جدل كبير، لا تبشر، وفقا لمدلول اللفظ، بوعد حقيقي وأكيد بالأفضل، كما طاب للبعض أن يحمله.
وهو ما يحيل رأسا إلى اعتماد القراءة التي تؤكد أن الاصطلاح اقتباس من توصيف لحراك مماثل شهدته مناطق من أوروبا في القرن التاسع عشر وأطلقته بالأساس وسائل الإعلام والدوائر السياسية الغربية، وأنه لا يحمل أي تحقيب زمنيº خاصة إذا تم استحضار أن الانطلاقة كانت من تونس أواخر الخريف (17 دجنبر 2010)، قبل أن تنتقل بداية فصل الشتاء (25 يناير 2011 ) الى مصر لتطيح برأس النظام ومعاونيه في ظرف وجيز، وتسري من ثمة شرارتها إلى اليمن فليبيا ثم سورية.
وإذا كانت تمظهرات هذا الحراك قد اختلفت من بلد لآخر وفقا لخصوصيات نظام كل منها واختلاف حجم ونوعية التفاعل ما بين الضغوط الداخلية الخارجية، فجميعها كانت تحركها، بإجماع المتابعين، بواعث داخلية تزكيها الرغبة في التغيير تحت مسمى إقرار نظام ديمقراطي.
لكن نقطة التشابه الأساسية بين حالات انهيار هذه الأنظمة، التي توالى سقوطها بشكل مثير للانتباه والدهشة، تكمن في أنها جميعا كانت تبدو منيعة من الداخل والخارج معا، على الرغم من مواطن الخلل، التي كانت تكشف عنها بين الفينة والأخرى بعض التقارير المنجزة من قبل منظمات دولية غير حكومية أو منظمات تابعة للأمم المتحدة، أو ما كانت تسجله بعض الأرقام على مستوى المحركات الأساسية لاقتصاد الدولة ومستوى عيش الفرد، أو ما كانت تعبر عنه النخب والمعارضة بأصنافها في الداخل والخارج.هذه المناعة أو الصلابة الظاهرة هي ما كان ليحمل على الاعتقاد بأن حدثا بسيطا، في حالة تونس مثلاº كمنع بائع متجول من اتخاذ ركن من شارع ما في ولاية ذات طابع قروي بنسبة سكانية لا تتعدى 409 ألفا و700 نسمة ومؤهلات متواضعة، قد يتطور من احتجاج فردي بإضرام الضحية للنار في جسده إلى احتجاج جماهيري عارم لم يصمد معه النظام السياسي للبلد أكثر من شهر.
وأيضا فما من شيء أيضا كان ينبئ بسقوط نظام القذافي بالطريقة التي انهار بها. ونفس الأمر بالنسبة لنظامي حكم مبارك في مصر وصالح في اليمن.
أما باقي مكونات هذا المشهد العربي المتداعي أو الآيل للانهيار والتحول فما تزال متفاعلة في سورية، بصيغة تناحرية تداخلت وتحركت في إطارها قوى شتى تقف من الموضوع على طرفي نقيض، فيما تواصل المعارضة السورية استنزاف جهود البحث عن حل للأزمة، بعدما أضاعت ملامحها بين شتى التيارات، لتصبح معارضة متعددة بأجندات متنوعة، ولتزكي تأجيل الوصول إلى تسوية.وسط هذا الغبار المتطاير والسحب المتكاثفة تزداد قتامة المشهد العربي خاصة حين يترافق ببروز توجهات قبلية وطائفية والولاء الأعمى واللامشروط للأنظمة المهيمنة على المستويين الإقليمي والدولي، وكذا الانزلاق نحو تكريس إضعاف اللحمة والوحدة الوطنية بهذه البلدان، وإحداث التخريب والدمار، وإشاعة التشكيك والتخويف والإحباط.وفي قلب هذا المشهد يزداد تأزم الوضع الانساني، خاصة في ظل استمرار سقوط الضحايا (سورية واليمن) وارتفاع تدفقات اللاجئين الفارين من المعارك، كما هو الأمر بالنسبة للسوريين، وتعقد الوضع في بلدان التماس (البلدان المجاورة ) كلبنان والأردن، وعدم قدرتها على امتصاص أعداد اللاجئين المتزايدة إلى جانب اللاجئين الفلسطينيين، مضافا إلى ذلك أوضاع بلدان عربية أخرى ما تزال تعيش مخاض ومآسي التحول بأشكال أخرى كالعراق والسودان أو ويلات الاستعمار والتمزق كفلسطين. وبازدياد قتامة هذا المشهد يتعمق الجرح العربي وتستفحل تعقيدات الوضع السياسي والاقتصادي بالمنطقة وتتعطل العديد من المشاريع التنموية، فيما تتعدد التوقعات بشأن تطورات هذا الوضع ومآلاته، وتزداد مخاوف وقلق المواطن العربي وتتسع انتظاراته وفي كثير من الأحيان تترسخ إحباطاته.