شكرا لك يا شارلـي
سعيــد عبيــد
حين تشكر المسيء على إساءته، وتقول للجاهل سلاما، فإنك لا تجعله يخجل من نفسه فحسب، وإن كان الخجل من الفعل الذميم مطلوبا أخلاقيا، ولكنك فوق ذلك تكشف بأريحيتك حجم التناقض الذي يفاصل بينك وبينه، لاسيما إن كنت صاحب رسالة، تملك بديلا نبيلا عن الإساءة التي لا يملك هو غيرها.
لذلك أقول شكرا لك يا صحيفة شارلي، لأنك فضحت كيف تتواطأ أجهزة الإعلام العالمية "الحرة"، وقواد الدول العظمى والصغيرة، ومرتزقو السياسة، ومنظمات حقوق الإنسان، وغيرهم، على الصمت الرهيب إزاء كل مشاهد المسرحية التي مثلت على ركح باريس في مشاهد غير متقنة، ومدة زمنية خاطفة، فلم يجرؤ منهم أحد - إلا أقلية قليلة من الأحرار الذين اختاروا جرأة النباهة على صمت الاستحمار– على التشكيك في الأحداث، مع أن التشكيك حديث الناس، كل الناس، لوضوح البصمة الاستخباراتية منذ صيحة "لقد انتقمنا للرسول" التي لم تُقل لأحد بعينه، ولكنها بُرمجت بسذاجة مبتدئي الدهاء لتقول "هذه جريمة المسلمين، لا غير"، ولمآرب أخرى أكثر خبثا، إلى البطاقة الوطنية العجيبة التي وجدت في سيارة المهاجمين، ثم قتلهم جميعا لتموت معهم أسرار العملية برمتها، مع سهولة إمكانية القبض عليهم أحياء، ولتقول عنهم باريس ما تشاء، مرورا بدفن اليهود الأربعة في "إسرائيل المسكينة" المستهدفة دائما من "المسلمين الأشرار" أينما كانت، إلى غير ذلك مما لا يصدقه من له عقل يحترمه.
شكرا يا شارلي، لأنك فضحت أيضا ألوف الأغبياء والأذلاء من مسؤولي العرب والمسلمين الذين بادروا إلى رفع شعار "أنا شارلي"، وهرولوا للمشاركة في مسيرة باريس رغبا أو رهبا، أو تزلفا أو تمثيلا، وهم يتجاهلون أنهم بذلك يحقّرون أنفسهم أمام السيد الغربي المتعجرف الذي لم يعتد منهم إلا الطاعة، ويستخفُّون شعوبهم التي لا يخافون منها احتجاجا... حتى إن رئيس السلطة الفلسطينية كان من بين المهرولين بل الطائرين، وبينه وبين باريس ألوف الكيلوميترات، للتنديد بمقتل خمسة من صحافيي شارلي، ولم يزر قطاع غزة قط، وبينه وبينه بضعة كيلومترات من التراب المحتل، وفيه شعبُه من دمه وجلدته، من آبائه وأبنائه وإخوانه الذين قتلت منهم "إسرائيل" أكثر من ألفين من أطفال ونساء وشيوخ في العدوان الأخير فقط!
شكرا يا "شارلي"، لأنك بإساءاتك الكثيرة المتكررة إلى رسول الله شخصيا تبينين مدى ميراث الحقد الصليبي الذي لا يزال حاضرا بقوة في مخيال الغربي المعاصر الزاعم الحداثة، تحت مسميات جديدة، ولن تنفك متجددة على ما يبدو في قابل الأزمان.
شكرا لك يا شارلي، لأنك بالرسوم الهازئة بالنبي الكريم تبرهنين على أنك لا تستطيعين مجابهة الفكر بالفكر، ولا العقيدة بالعقيدة، ولا الرأي بالرأي، فتتخذين الهزء والإساءة والتهكم – وهي أسلحة ضعاف الفكر ومن لا حجة لديهم - أقصر الطرق إلى تسفيه الآخر؛ فيظل الآخر شامخا، تقتفي مئات الملايين من البشر أدنى تفاصيل سيرته شبرا بشبر، وتظلين أنت أنت، شارلي، ولا شيء سوى شارلي.
شكرا يا شارلي، لأنك برسومك المُسيئة لمخالفيك تحت غطاء حرية التعبير، تبرهنين على شدة انحراف مفهوم الحرية في الغرب، حتى أضحى يهدم القيم، ويهدد التعايش، وينشر الأمراض واللاحترام... وحتى توهّم الذين ينخدعون بالمظاهر أن الإساءة إلى الناس تعبير، وأن شتمهم حرية، وأن الاستهزاء منهم حق مكفول لغيرهم... "أيتها الحرية الحبيبة، كم من الجرائم ترتكب باسمِك!"، كما صرخت مدام رولان دو لابلاتيير ذات حكمة بالغة.
شكرا يا شارلي، لأنني أدركت غايتك الربحية الرخيصة حين وقف رئيس تحريرك ليفتخر بأن صحيفته حققت معجزة لم تحققها الأنبياء، فإذا بالمعجزة هي بيع خمسة ملايين نسخة! ألا ما أرخصها من ملايين! وما أبأسها من صحافة حين تصير الرسالة استهزاءً وشتما وعراء يباع للناس، والغاية ربحا بالملايين، ولو على حساب الأديان، ولو بجرح عواطف أهل ملة يقدرون بمليار وسبعمائة مليون مسلم، ولو على جثث الضحايا من الصحفيين!!
شكرا لك يا شارلي، لأنك بسببك انفضح الوجه القبيح لأوربا. فها هي ذي تندفع اندفاعا أهوج لترسم للمهاجرين المسلمين مستقبلا أسود كالحا، وبالقانون! وهم الذين ضحوا بزهرة أعمارهم في سبيل بناء فرنسا الحديثة، كما ضحى آباؤهم وأجدادهم بأرواحهم من أجل استقلال فرنسا، وخروجها منتصرة من الحرب العالمية الثانية، ونِعم الوفاء!
شكرا لك يا شارلي، لأنك تفضحين فرنسا أيضا مرة بعد أخرى، تفضحين ميزها القبيح إزاء أبنائها المسلمين الذين لا ترى لدينهم السماوي أية حُرمة، والحرمة كل الحُرمة لأبنائها اليهود الذين تمنع حتى مجرد الشك في ما يزعمون أنها إبادة تعرضوا لها على يد النازية، ولو كان التشكيك من أكبر عقل فلسفي في القرن العشرين: روجي جارودي الذي لم تتورّع فرنسا عن سجنه وتهميشه بقسوة، رغم أنه لم يستهزئ من يهودي قط، ولا أساء إليه بحرف ولا رسم، ولكنه برهن بنصاعة وثائق التاريخ، وقوة الأرقام التي لا تواجَه حُجّيتُها، أن "الهولوكوست" أسطورة من أساطير العصر الحديث، ابتدعها الصهاينة لتبرير قيام دولة "إسرائيل" على أرض فلسطين.
شكرا لك يا شارلي، لأنك أظهرت للعالم كم هي ضعيفة خاوية هذه الأوربا التي طالما ادعت أنها مركز العالم، بكل حضارتها، وتاريخها، وعلومها، وتقانتها... فها هي ذي تبدو شديدة الخوف من بضعة ملايين من عمال مسلمين مستضعفين، أتوا إليها ليضمنوا لأنفسهم لقمة عيش كريم، فإذا بدينهم الفطري الذي حملوه بين جوانحهم وفي صلواتهم ورمضانهم ومساجدهم، يتغلغل إلى روح الغرب ليملأ الفراغ الباطني الذي يعاني منه الغرب منذ أن فرّط في دينه، فتصرخ كثير من مؤسسات أوربا الفكرية والسياسية اليمينية صرختها الصليبية مرة أخرى "لا لأسلمة أوربا"، وترتعد من الخوف من كلمة واحدة هي "إن شاء الله"!!
شكرا لك يا شارلي، لأنك أيضا فضحت الغرب، فاتّضح أن حوار الحضارات والأديان عنده ليس إلا شعارا للاستهلاك، غرضه تذويب المسلمين وإدماجهم فيه، لا محاورتهم الند للند كما تقتضي أعراف الحوار، وإلا فكيف يكون الحوار إن غاب الاحترام وتقدير المحاوَر؟ حوار بمعجم الإساءة والتهكم أم يا ترى بالرسوم العارية؟؟
شكرا يا شارلي، لأنك برسومك الجنسية ترمزين إلى هذه العقدة الجنسية التي تؤطر الحضارة الغربية الحديثة المغرقة في ماديتها القاتلة لجوهر الوجود الإنساني، حضارة أصبحت متعة "الجنس" مركز وجودها، وستكون سبب ترهلها، ثم انحلالها، ثم فنائها.
شكرا يا شارلي، لأنك مِن رسومك العارية لأطهر الخَلق يبرز خيالُكِ المريض، خيال هو نتاج حضارة غربية خاوية الروح عارية، فنونها عارية، وتماثيلها عارية، وثيابها عارية، وأفلامها عارية... أقول هذا بتجرد من كل عاطفة، ومن غير شتم، لأنها الحقيقة التي لا يماري فيها ذو عينين. أما الرسول الكريم، فلم يُرَ عاريا قط، ولا في طفولته النقية، حتى إنه لما مات استحيى الصحابة أن يكشفوا عنه ثيابه، فغسّلوه فيها. النبي الكريم هو الذي أتى ليعلّم البشرية ما تركته من فطرة ستر العورة، وفضيلة الحياء، وخُلق غض البصر، كما قال الدكتور مصطفى بنحمزة في كلمة بليغة... لم أكن أعلم أن الخيال المريض من الصحافة، ولا من حرية التعبير، ولكني أعلم كما يعلم غيري من الذي من صميم عمله ورهانه أن ينزع عن الإنسان ثيابه الساترة ليريه سوأته، ثم ليتبرأ منه.
شكرا يا شارلي، لأنك تؤدّين خدمة للكراهية لا تنسى، فتؤلبين فرنسا أولا، ثم العالم كله ضد المسلمين، بشحن الناس بطاقة الكراهية الظُّلمانية لهم، ثم بعدها لا تتورع فرنسا عن أن تطلب من المسلمين أن يكفوا عن خطاب الكراهية... ترميهم بدائها، وتنسل أمام العالم نهارا جهارا.
شكرا يا شارلي، لأنك بنيلك المستنقص من كل ما هو مقدّس عند المسلمين، تجعلينني أدرك أي عظمة وسمو يقوم عليهما الإسلام حين يأمر من يؤمنون به بأن (لا يسخر قوم من قوم، عسى أن يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من نساء، عسى أن يكنّ خيرا منهن)، وحين يحظر عليهم سب خصومهم أوشتمهم حظرا صارما (ولا تسبوا الذين يدْعُون من دون الله، فيسبوا الله عَدْوًا بغير علم)، وحين يوجههم إلى ألا يجادلوا أهل الكتاب (إلا بالتي هي أحسن).
شكرا يا شارلي، لأنك حين تستنقصين من الرسول الكريم، أستحضر كذلك كم هو عالٍ نقيٌّ هذا الإسلام الذي يؤاخي بين كل أنبياء الله، فيعظّم موسى، وعيسى، ومحمدا عليهم صلوات الله جميعا، ولا يسمح لأحد أن ينال بسوءٍ حتى من شخوص "أنبياء" الدنيا، كبوذا، وزرادشت، وماركس، وغيرهم، وإنما يجادلهم، ويمحص فكرهم، ويفند حججهم، بأدب جم، لأن منطلقه عقيدة صلبة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
شكرا يا شارلي، لأنني بسببك أيضا أدركت كيف تضيق فرنسا ذرعا بمسلميها، فلا يتردد متطرفوها (كاليمين وحركة بيغيدا) عن الدعوة إلى تطهير أوربا منهم، بل لم يتردد حتى بعض متغربي المسلمين من دعوة مسلمي أوربا إلى الرحيل عنها إذا لم تعجبهم قوانينها. دعوة واضحة إلى تطهير على أساس ديني لا تبتعد عن الفكر الصليبي للقرون الوسطى كثيرا، وتستدعي إلى الذاكرة إرهاب الدولة الذي مارسته محاكم التفتيش على مسلمي الأندلس ويهودها، مع أن المسلمين آووا بلا حرج مخالفيهم من أهل الكتاب، وأعطوهم من أنفسهم ذمة، وشعارهم الرائع (لكم دينكم ولي دين) يمنعهم – إلا الجهال منهم – من الاقتراب قيد شبر من مِلتهم.
شكرا يا شارلي، فهاهم المسلمون في المشارق والمغارب يستيقظون من سباتهم، ليزدادوا تعرفا إلى نبيهم، وهياما بسيرته، وارتباطا بسنته، فيدركون كم هم محسودون عليه، أما الحاسد فيكفيه أن تأكله النار التي في صدره، لأن النار تأكل بعضها، إلم تجد ما تأكله.
simo
je suis Charlie hebdo
je suis Charlie hebdo, je ne suis pas avec les terroristes