المصلحة الوطنية.. والاعتبارات الدينية بين التعارض والتناظر

المصلحة الوطنية.. والاعتبارات الدينية بين التعارض  والتناظر

يوسـف المتوكل

 

 

هل يمكن اعتبار المصلحة العليا للوطن أهم من الاعتبارات الدينية والعقدية المتعددة والمختلفة في الدولة الواحدة، أم أن المعتقدات والمقدسات الدينية والفكرية محدد أساسي من محددات المصالح الوطنية للدولة الإسلامية؟

هذا التساؤل كثيرا ما يطرح إشكالية العدل وتكافؤ الفرص بين المواطنين المختلفين عقائديا وثقافيا وعرقيا في الدولة الواحدة. بين من يقدم المصلحة العليا للوطن بغض النظر عن الاختلافات العقائدية والعرقية، وبين من يضع الاعتبار الديني أساسي في خدمة الوطن. لذلك وجب أن ننظر كيف حاول الإسلام التوفيق بين المصلحة العليا للوطن باعتباره  يضم كل الاختلافات الدينية والعرقية، والاعتبارات العقائدية للمواطنين.

لقد جعل الإسلام معيار التفاضل بين الناس هو الكفاءة والعمل الصالح الذي يخدم مصلحة الوطن والمجتمع، ويعود بالنفع على الفرد و الجماعة والدولة، و لم يفرق بين المسلم وأخيه، أو بين المسلم وغيره من معتنقي الديانات الأخرى. وبفضل هذا المبدأ ألغى الإسلام كل أنواع العصبيات السياسية والحزبية والعنصرية، سواء كانت عصبية قومية أو عصبية قبلية أو عصبية انتماءات جغرافية أو تجمعات لغوية، فلا فرق بين أبيض وأسود، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.

وجعل مصلحة الوطن خاضعة لمعيار الكفاءة،والتفاني في خدمة المجتمع ولعمل الخير، ومرتبطة بالاستقامة، والخضوع للقانون الجاري به العمل، مجسدا التقاء مواطنيه على صعيد العمل الصالح،الذي ينمي البلد ويزدهر بمقدراته وعقول كفاءاته، في جهد متواصل يهدف إلى تحقيق الرخاء والتقدم.

لذلك فإن المتأمل في سيرة النبي - صلى الله عليه و سلم – يجد أن هذه الخاصية بارزة واضحة؛ فقد أقام العلاقات بين أفراد مجتمعه الجديد على أسس إنسانية وقيم مشتركة، تجاوز فيها كل الاختلافات والفوارق الدينية والعرقية واللونية والطبقية، وجعلها علاقات بعيدة عن كل تعصب مهما كان أصله ولونه، لأن التعصب جهل، والعصبية جاهلية، وقد أبطل الإسلام العصبيات المختلفة للقبيلة، وللآباء والأجداد، وحتى النظرة الجاهلية التي تعتمد على التفاخر بالأنساب والأحساب.

وهذه الرؤية الإنسانية لمكانة الإنسان في الوطن والمجتمع، تختلف كل الاختلاف عن الرؤية العنصرية الضيقة التي تجعل العصبيات المتلاحمة في دولة واحدة تقف موقف المواجهة، بحثا عن مكاسب سياسية أومطامع مادية، وتكون نتائجها وخيمة على الوطن وأهله، بإراقة الدماء، والدخول في حروب أهلية ظالمة تأكل الأخضر واليابس.

لقد أبطل الإسلام كل ذلك، بما فيه التمايز والتفاضل بغير الأعمال التي يقدمها الإنسان لخدمة وطنه والآخرين في مجتمعه، وجعل الناس سواسية في إنسانيتهم، فهم بنظره من أب واحد و أم واحدة، فكلهم لآدم وآدم من تراب.

من كل ذلك نستنتج أن مبدأ التفاضل بين المواطنين في الدولة الإسلامية، على اختلاف قومياتهم وعقائدهم وألوانهم هو الخدمة الوطنية، أو "المواطنة الحقيقية"، والمصلحة العليا للوطن، لأنها من مصلحة الدين، بل الأكثر من هذا، أن المصلحة الوطنية تتقاطع مع المصلحة الدينية، وتصب في خانة واحدة، وهي الحفاظ على كيان الدولة الذي يرتكز ويستند على كافة المقدسات الدينيةوالوطنية، التي تدعو إلى التعايش والتسامح والسلام، ونبذ كل أشكال العنف والإقصاء.

ومنمعاني المصلحة الدينية والوطنية نصرة الحق والمظلوم، أينما وجد هذا الظلم، سواء كان ظلم مسلم أو غير مسلم، والبعد عن العصبيات الجاهلية التي حولها الإسلام إلى عصبية للحق والعدل،والإنصاف والخير للناس جميعا.

إن مبدأ تكافؤ الفرص بين المسلمين وغير المسلمين، يطرح حقيقة مستوى العدل الذي يمارسه الإسلام من خلال علاقاته الخاصة والعامة، في ظل الدولة الإسلامية التي يتعايش فيها مختلف الأديان والأعراق والأجناس. لذلك أمر الله تعالى بالعدل فقال:" إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون"[1]، فكان بين الناس العدل هو الروح السارية في الثقافة والحضارة الإسلامية.

وقد حرم الإسلام حتى ظلم الإنسان لنفسه، ومن باب أولى ظلمه لغيره. وأوجب العدل في كل المعاملات والعلاقات، حتى مع من نكره، قال تعالى:" و لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"[2]، و حتى مع من يقاتلنا قال عز وجل:" و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"[3].

لقد أسس الإسلام فريضة العدل مع الآخرين على سنة من سنن الله الكونية التي لا تبديل لها ولا تحويل، وليس على مزاج يتغير، أو خلق يتبدل، فالتنوع والاختلاف هو سنة من سنن الله في كل عوالم المخلوقات.

والواحدية والأحدية هي فقط للذات الإلهية، لهذه الحقيقة- حقيقة نظرة الإسلام إلى الآخر، وعلاقته به- كان العدل الإسلامي الذي حرص دائما على أن يميز بين الفرقاء السياسيين، والفصائل والمذاهب والتيارات والطوائف في هذا الآخر، فلا يعمم و لا يضع الجميع في سلة واحدة كي لا يظلم بهذا التعميم[4].

هكذا بلغ الإسلام الذروة في العدل مع كل ألوان وأطياف الآخرين والمخالفين.

 

 



[1]- سورةالنحلالآية 90.

[2]- سورةالمائدةالآية 8.

[3]- سورةالبقرةالآية 190.

[4]- هذاهوالإسلام،الدين،والحضارةعواملامتيازالإسلام،د. محمدعمارة،ط1، 1426ه- 2005م،مكتبةالشروقالدولية،القاهرة ص 15- 16- 17.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة