لاَ تَأخُذُ العِلمَ مِن صُحُفِي ولاَ القُرآنَ مِن مُصحَفِي
محمد القاسمي الريبوز
نُقِلَ عن الخطيب البغدادي رحمه الله قوله: لا تأخذوا العلم إلا من أفواه العلماء، وقال: الذي يأخذ العلم من الكتب يقال له الصحفي، والذي يأخذ القرءآن من المصحف يقال له مصحفي.
حتما يجب على طالب العلم أن يحصل مفاتيح العلم الأساسية، أي أن يحصل المواد الأساسية من نحو وصرف، و قراءة الكتب الأساسية في العلوم المختلفة كالفقه وأصوله، والحديث النبوي وعلومه، والقرآن الكريم وفنونه، كل ذلك لابد فيه من التلقي عن الأساتذة الثقات والتتلمذ عليهم مباشرة عن طريق المشافهة، والرحلة في طلبهم إذا اقتضى الأمر، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة التوسع المعرفي والتخصص في فن من الفنون تدقيقا وإتقانا، سيما ونحن نعيش عصر التخصصات المعرفية المتعددة، سواء تعلق الأمر بالدراسة النظامية أم الدراسة المفتوحة.
ولا يشك أحد في أهمية الجلوس بين أيدي العلماء، لا للعلم فحسب، ولكن من أجل التربية والتزكية كذلك، فقد كان عصر السلف رضوان الله عليهم عصر كله بركة وازدهار، وما العلم عندهم إلا سماع أو إعمال فكر سليم، فهاهو الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله على جلالة قدره يجالس بالمدينة المنورة: إمام دار الهجرة، مالك بن أنس، ومجاهد، ويأخذ القرآن وعلومه عن عبد الله بن كثير المدني وغيرهم.
وأما من هجم على الكتب من أول وهلة وليس لديه هذه المفاتيح أو الأساسيات فلا يؤمن من الخلط والخبط، ومن آفات الكتب التحريف والتصحيف، بتغيير لفظ أو تحريف معنى، كأن يقرأ العبارات على خلاف ما أراده كتابه، أو على خلاف ما اصطلحوا عليه، فيكون ضرر كبير في الفهم، واعوجاج في المنهج، فيضل صاحبه الطريق ويضل معه غيره.
ومن الأمراض الخطيرة المستشرية في جسد الأمة اليوم: الاستهتار بالعلم ومقدساته، ولو بحسن نية أحيانا، فقد تجد شابا ملتزما، متحمسا، يقتني كتابا فقهيا، أو مصنفا في علم الوحيين، يقرأ نصا عابرا، لا يدري ما قبله ولا ما بعده، أو يسرد مسألة فقهية قد حيرت فحول العلماء، فيقوم بتنزيلها على واقع الناس، مع جهله التام بسبب نزول الآيات، وورد الأحاديث، والمؤتلف منها والمختلف، وناسخها ومنسوخها، وراجحها ومرجوحها، وصحيحها وسقيمها، ومواطن الإجماع، كل هذا من الموضوعات المهمة المتعلقة بعلوم المتن رواية ودراية، وقد اعتنى المحدثون والفقهاء والأصوليون بهذه الأنواع من العلوم، وحرصوا على إبرازها وضبطها، لما لها من آثار في فهم النص، وضبط الاستنباط منه.
إن الأمه اليوم قد اكتوت بنار الفتنة الدينية، والنزاعات المذهبية، فقد تُمسِي وتصبح على وقع فتاوى متضاربة، وآراء عجيبة غيربة، تثير استغراب أصحابها قبل غيرهم أحيانا، فيقع المسلم البسيط في حيرة من أمره، إسقاطات بالجملة، معظمها بعيدة عن الرصانة الفكرية، قد تضرب بسلم الأولويات عرض الحائط، إنتشرت الفتاوى في مختلف المنابر الإعلامية، كالنار في الهشيم، حتى لم نعد نميز ما بين المفتي والداعية والإعلامي، وما بين العلم والمعلومات.
ولسنا بصدد المصادرة هنا، بل هي دعوة إلى فتاوى من أهلها في محلها، نريد فقه الواقع، بدل فقه الوقع، لأن وقعه أليم شديد، نريد نقابة لهذا الدين، تحميه من المتعسفين، فتكافئ المحسن منهم عن إحسانه، وتجازي المسيء عن إساءته، لأن جرح الجهل عميق، لا يبقي ولا يذر، حتى اشتهر في بعض الآثار:" أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار"، أخرجه الدارمي في السنن.
ومما يكتب بماء العينين، لا بماء الذهب فحسب، ما نُقل عن الإمام الجليل محمد ابن سيرين رحمه الله: "إنَّ هذا العلم دينٌ فاعرفوا عمن تأخذون دينكم"، وقد أورده مسلمٌ في مقدمة صحيحه، يريد بذلك علم الإسناد، وهو من أجَلِ العلوم وأشرفها أيضا، وشرف العلم من شرف المعلوم.
وقد حذرنا سبحانه وتعالى في كثير من النصوص الشرعية من عاقبة التقول على الله بغير علم وبصيرة، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، الأعراف33، جعل سبحانه القول عليه بغير علم فوق الشرك، وهذا عام في القول عليه بغير علم أي بغير دليل محكم ـ قطعي الثبوت والدلالة ـ من الكتاب والسنة في أصول الدين وفي فروعه، ونص على القول عليه بغير علم في التحليل والتحريم فقال سبحانه: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، النحل116.
فإذا كان الله قد توعد الذين يحللون ويحرمون بغير دليل بالعذاب الأليم وعدم الفلاح فكيف بالذين يقولون عليه بغير علم في العبادات ومكانها وزمانها اللذين حددهما الله لها، والعبادة كما هو معلوم توقيفية في كيفيتها، وفي زمانها، ومكانها، فمن شرع فيها شيئاً لم يأذن الله به فهو داخل في قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)، الشورى21، فجعل سبحانه من شرع للناس شيئاً من الدين لم يشرعه الله شريكا له في تشريعه، ومن أطاعه في ذلك وهو يعلم فهو مثله بلا شك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، متفق عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم قد بين للناس ما شرعه الله وحدده متبعاً بذلك ما حدده الله له، فقال سبحانه: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نفسه)، الطلاق1.
والقرآن الكريم هو الأولى بما تقدم، لأنه عبادة أمِرَ بها المكلفون، قَالَ تعالى: "فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ"، المزمل: 20، والعبادات توقيفية في جميع متعلقاتها، ومن ذلك هيئات أدائها، فكما أن صِفة الصلاة توقيفية تتلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الثابتة المتصلة، فكذلك صفة القراءة توقيفية، تتلقى بالأسانيد المتواترة المتصلة إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، لا فرْق في ذلك بينَ القراءة داخل الصلاةِ وخارجها، قال صلى الله عليه وسلم : "خُذُوا القُرْءانَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ، وَمُعَاذٍ، وَأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ"، متفق عليه.
والشرع الحكيم دائما يحثنا على التعلم والاستزادة من معين المعرفة، من المهد إلى اللحد، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المرفوع: "طَلَبُ العِلْمِ فَرِيْضَةٌ عَلَىْ كُلِّ مُسْلِمٍ"، صحيح سنن ابن ماجه.
فالعلم خير ما تفنى فيه الأعمار، وأفضل ما يتنافس فيه الأبرار، حتى جعل الله للعلماء منزلة سامقة، ومكانة عالية، وأكرمهم بما لم يكرم به غيرهم، ولطالب العلم آداب وأركان وأجنحة ينبغي له معرفتها، ومراعاتها في حال طلبه وانشغاله بالعلم، ومنه الجلوس له، كما أن عليه أن يهتم بترتيب الأولويات، وتقديم الأهم على المهم.
والناس رجلان: عالم, ومتعلم, ولا خير فيمن سواهما، فالشيء الذي يؤكد إنسانية الإنسان هو طلب العلم, والعالم والمتعلم في الأجر سواء، أي شأن المتعلم لا يقل عن شأن المعلم أبداً, كلاهما يبغي الخير؛ إنسان يعطي مما أعطاه الله, وإنسان يأخذ مما تفضل الله به عليه، وإن اختلفت مكانتهما، كما لا يليق أن نساوي بين ممرض وجراح القلوب.
وقد تعلمنا قديما: أن العلم مكتوب على جبين العلماء...!
صفاءعبدالهادى
المحلةالكبرى
هل المسلم العادى لابدان يكون له شيخ يعلمه دىن . وبناء عليه لايحق له ان يعلم نفسه