السيناريوهات القادمة لإدارة الصراع وللانقسام
إبراهيم أبراش
بالرغم من الاستعصاءات التي تكتنف القضية الفلسطينية ، سواء على مستوى المشهد الفلسطيني الداخلي ،أو المشهد العربي حيث الحروب والانشغالات الداخلية لها السبق على أية قضية اخرى بما فيها القضية الفلسطينية،أو المشهد الإسرائيلي حيث مجتمع وحكومة هما الأكثر عنصرية ويمينية في تاريخ إسرائيل ،بالرغم من كل ذلك فهناك حقيقة تفرض نفسها وهي أن 12 مليون فلسطيني ما زالت قضيتهم بدون حل،لأن الشعب الفلسطيني لم يتنازل عن حقوقه التاريخية ولم يفوض أحدا من قياداته للتوقع على حل نهائي للصراع مع الاحتلال .ما يمنح الفلسطينيين جرعة من الأمل أن العالم أصبح أكثر تفهما وتأييدا لحق الفلسطينيين في دولة،وبسب كل ذلك فإن إسرائيل في مأزق حقيقي بالرغم من كل مظاهر القوة البادية عليها،ومأزقها مستمد من عدم حل القضية الفلسطينية حتى اليوم .
في نفس الوقت فإن كل أطراف الصراع باتت مقتنعة بأن المعطيات الراهنة لا توفر فرصة مناسبة لحل سياسي يرضي كل الأطراف ولذا نلاحظ في الفترة الأخيرة تراجع الحديث عن سيناريوهات حل الصراع في الشرق الاوسط وتراجع الدافعية نحو إنهاء الانقسام حيث ملف المصالحة اصبح متداخلا مع ملف التسوية،ليحل محلة الحديث عن إدارة الصراع .لذا فإن السيناريوهات المتوقعة للتعامل مع القضية الفلسطينية،سواء على مستوى الصراع الإسرائيلي العربي بشكل عام ،أو في إطار المصالحة الوطنية،لن تخرج على المدى القريب عن نهج إدارة الأزمة،أزمة الصراع مع إسرائيل وأزمة الانقسام ، - وهذا ما يجري بالفعل في السنوات الاربع الاخيرة - ، الأمر الذي يتطلب كثيرا من الحذر والعقلانية ،لأن كيفية إدارة الصراع ستحدد معالم الحل المستقبلي ومخرجاته .
وفي هذا السياق فإن السيناريوهات المتوقعة على المدى القريب :-
السيناريو الأول: إنجاح المصالحة الوطنية ولكن على أسس جديدة
هذا السيناريو يؤسَس على المراهنة على نجاح جهود المصالحة وقدرة حكومة الوفاق على تفكيك الملفات العالقة مما سيؤدي لاستلام الحكومة مقاليد الأمور في قطاع غزة الأمر الذي سيؤدي لحل المشاكل الناتجة عن الانقسام كفتح معبر رفح والموظفين الخ وهو ما سيساعد أيضا على إعمار قطاع غزة ثم التفرغ لمواجهة إسرائيل ومخططاتها الاستيطانية والتهويدية في الضفة والقدس .
هذا السيناريو يندرج عند الجمهور الفلسطيني في باب التمني الذي لا يسنده عمل رسمي جاد حتى الآن،وخصوصا مع تعثر حكومة الوفاق بالقيام بعملها ، فبعد مرور عام كامل على تشكيلها فالمصالحة وإنهاء الانقسام ليسا اقرب منالا ، بل في ظل وجودها زادت الأمور تفاقما. ستتغير الامور في حالة تغيير الحكومة لتصبح حكومة وحدة وطنية أو حكومة إنقاذ وطني تشارك فيها كل الأحزاب والحركات السياسية لتتحمل مسؤوليتها الوطنية في هذا الظرف الصعب والمنعطف المصيري،وكفى الأحزاب تهربا من المسؤولية والتخفي وراء الانقسام والشعارات الكبيرة وتكرار الكلام الممجوج عن الصمود والمقاومة والتمسك بالثوابت ،فيما الانقسام يتعمق ويتكرس ،وإسرائيل تواصل انتهاكها كل الثوابت والمحرمات .
نجاح حكومة وحدة وطنية يحتاج أولا للاعتراف بمفهوم الوطنية : هوية وانتماءا ومشروعا وطنيا وتجسيدها مشاركة سياسية حقيقية،كما تحتاج لحسن نوايا القوى السياسية التي تطالب بها ،فالخشية أن يكون مطلب حكومة وحدة وطنية (قول حق يراد به باطل) ، والباطل هو إسقاط حكومة الوفاق الوطني وكسب مزيد من الوقت لاستكمال مخطط إقليمي يجري الإعداد له لتكريس الانقسام وإقامة دويلة غزة .
السيناريو الثاني : انفجار الاوضاع في غزة
ويؤسَس هذا السيناريو على مراهنة البعض – فلسطينيين وغير فلسطينيين - بأن استمرار إغلاق معبر رفح وبالتالي استمرار الحصار وإعاقة الإعمار وانغلاق افق التسوية العادلة والمصالحة الجادة ، سيدفع أهل غزة للانفجار أو الثورة ، دون تحديد معنى الانفجار وبوجه مَن سيكون ؟ وقد تطرقنا للموضوع في المقال السابق . من الممكن حدوث حالة من الفوضى والانفلات الأمني في قطاع غزة ، سواء بسبب الحصار والفقر ، أو لأسباب سياسية كضعف حركة حماس وتضعضع هيبتها،أو وجود جماعات مسلحة قديمة أو جديدة غير راضية عن سلطة حماس وخياراتها السياسية والأمنية وخصوصا إذا ما تأكدت مفاوضات الهدنة طويلة المدى مع إسرائيل .أما أن تنفجر غزة في مواجهة إسرائيل فتجارب وحصيلة ثلاثة حروب لا تشجع على ذلك وخصوصا في ظل الحديث عن وساطة قطرية وتركية وأوروبية بين حماس وإسرائيل .اما المراهنة على ثورة أو انفجار في قطاع غزة ضد حماس ، فأمر لا يخلو من خطورة كما أنها مراهنة لا تؤسَس على تحليل وفهم واقعي وعقلاني لخصوصية الحالة الفلسطينية ولطبيعة الشعب الفلسطيني الذي يرفض الانزلاق لحرب أهلية .
وفي هذا السياق ندين ونحذر من أية أعمال عنيفة كالتفجيرات والاغتيالات ضد مؤسسات وأشخاص حركة حماس ،كما جرى في الايام الأخيرة ،لأن هذه الاعمال لن تخدم إلا إسرائيل التي ستغذي حالة الفتنة ، وستزيد من القبضة الأمنية لأجهزة حماس وبالتالي من معاناة اهالي القطاع ،دون إمكانية إسقاط سلطة حماس ، وعلينا الاستفادة وأخذ العبر مما يجري في سوريا وليبيا والعراق واليمن .
السيناريو الثالث : الاشتغال على دويلة غزة
هذا السيناريو يحظى بفرص أكبر للنجاح ، ليس لأنه حل وطني او عادل بل لأن يمثل نقطة تقاطع لمخططات وأهداف عدة اطراف :إسرائيل وأطراف فلسطينية وعربية وإقليمية ودولية ، وهو يؤسَس على توظيف حصار غزة وتعثر حكومة التوافق لتبرير التفاوض مع إسرائيل حول مصير قطاع غزة بمعزل عن مجمل القضية الفلسطينية. في ظني وما يثير القلق أن استمرار إغلاق معبر رفح بشكل غير مسبوق مع استمرار إعاقة الإعمار بشكل مقصود وممنهج سيدفع لاستكمال مشروع دويلة غزة،من خلال فتح حركة حماس،السلطة الفعلية الحاكمة في قطاع غزة ،قنوات مفاوضات مع إسرائيل لفتح منفذ بحري بديل لمعبر رفح مقابل هدنة طويلة المدى،وستكون دويلة غزة والهدنة جزءا من استراتيجية إسرائيل لإدارة الصراع وقد تحولها إسرائيل لاحقا لجزء من تسوية نهائية حيث الجزء الثاني للتسوية هو التقاسم الوظيفي في الضفة .
إسرائيل ستكون مستعدة لفتح قناة تفاوض مع حماس في موازاة قناة التفاوض مع السلطة – المتعثرة الآن- ما دامت ستحظى بهدنة طويلة المدى وستحافظ على الانقسام الفلسطيني ،وفي نفس الوقت تناور في العودة للمفاوضات مع منظمة التحرير للبحث عن تسوية شاملة تؤدي لقيام دولة فلسطينية على حدود 1967 ،ما دام طرفا فلسطينيا – حركة حماس - فاز بانتخابات تشريعية يقبل بمبدأ إدارة الصراع أو تجميده لأمد طويل على أساس دويلة في غزة .
قد يقول قائل من منطلق عملي بأن قطاع غزة لا يصلح ليكون دولة سواء بسبب مساحته المحدودة مقابل كثافته السكانية أو بسبب ندرة ألإمكانيات . لأن الأطراف المعنية بهذا المخطط قوى ودول نافذة ومتواطئة مع إسرائيل فلن تعوزها الحيلة لحل هذه الإشكالات ،فيمكنها مثلا تحويل ما تقدمه من أموال للسلطة – أو جزء منها - إلى سلطة حماس في قطاع غزة وهذا ما يجري بالنسبة للأموال القطرية والتركية،ويمكنها تشغيل بضعة آلاف من شباب غزة في بلدانها، وقد تعمل لاحقا على تمكين السلطة القائمة في قطاع غزة – حركة حماس المُدجَنة – من نصيب من النفط والغاز المُكتشف في المياه الإقليمية للقطاع ،وكذا تشغيل المنطقة الاقتصادية للقطاع ،مع تسهيلات اقتصادية إسرائيلية والسماح بدخول عدة ألاف من عمال غزة لإسرائيل .
الخطورة في هذا السيناريو ليس إن كانت غزة قابلة لتكون دولة أم لا،بل الثمن السياسي لنزع غزة من سياقها الوطني ،حيث سيكون الثمن على حساب الضفة والقدس وتدمير القضية والهوية الوطنية بل أيضا إنهاء المقاومة : ممارسة وحقا وفكرا ، بالإضافة إلى الفتنة التي ستندلع في غزة ، أيضا فإن دويلة في غزة ستكون تحت رحمة وابتزاز إسرائيل وبالتالي ستكون دويلة وظيفية تخدم أمن إسرائيل . المثير للقلق والغضب أنه فيما العالم يطالب بدولة فلسطينية في غزة والضفة عاصمتها القدس فإن فلسطينيين يريدون دولة في غزة فقط ! .
السيناريو الرابع : العودة للمفاوضات على اساس مشروع جديد للتسوية
قد تلجأ واشنطن أو أية دولة أوروبية لطرح مشروع تسوية جديد يؤدي للعودة لطاولة المفاوضات,ولا نستبعد أن تتعامل معه منظمة التحرير سواء للخروج من مأزق الجمود الراهن أو حتى لا تظهر بأنها ضد السلام والتسوية السياسية . إلا أن أية مبادرة سلام جديدة لن تكون إلا في إطار ملء الفراغ وإستراتيجية الإلهاء وكسب الوقت،وبالتالي لن تخرج عن إدارة الصراع ،مع استمرار إسرائيل في الاستيطان والتهويد،واستمرار أزمة السلطة والحكومة مع بعض الإغراءات المالية ، ومع استمرار الانقسام الفلسطيني .
السيناريوهات الثلاثة الأخيرة تندرج ما بين الخطير والمرفوض ، كما أنها غير وطنية ، ويبقى السيناريو الأول،سيناريو المصالحة الوطنية المتدرجة هو المُفضل وطنيا،مصالحة تبدأ بتشكيل حكومة وحدة وطنية حقيقية تتحمل فيها كل الاحزاب المسؤولية،في تساوق مع إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير التي تستوعب حركتي حماس والجهاد الإسلامي بما يتطلب ذلك من ميثاق وطني جديد ، أيضا التفكير بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية ،ولكن دون رهن المصالحة واستنهاض منظمة التحرير بإجراء الانتخابات،حيث يمكن لسياسة التوافق والتراضي أن تنوب عن الانتخابات .
وأخيرا،نعتقد أنه بعد ما جرى في الحرب الأخيرة وما الحقت بفلسطينيي غزة من موت ودمار،وانكشاف المفاوضات الخفية بين حماس وتركيا وقطر من جانب وإسرائيل من جانب آخر،وبعد وصول مفاوضات التسوية وحتى المراهنة على الأمم المتحدة لطريق مسدود ،ومحدودية المراهنة على محكمة الجنايات الدولية ،ومع الأزمة -المالية والتنظيمية وأزمة التحالفات الخارجية -التي تمر بها حركة الجهاد الإسلامي،بعد كل ذلك لا داع لأحد للمكابرة والتبجح بخطاب الانتصار،وعلى الجميع العمل،على الاقل،لوقف حالة الانحدار الداخلي والارتقاء إلى مستوى الرأي العام الدولي الذي أصبحت كثير من مواقفه ومكوناته أكثر فلسطينية من بعض مواقف بعض الفلسطينيين والعرب ، وحكومة وحدة وطنية جادة هي الحل الوحيد.