البحث العلمي بالمغرب .. الفريضة الغائبة
يونس مليح
يمكن اعتبار القرن الحادي والعشرين "قرنا للمعرفة" أو "قرنا للتعلم". فبعد الحرب العالمية الثانية، تحول أكثر من %50 من إجمالي الناتج المحلي لعدد متزايد من الدول الصناعية من التنمية المادية إلى التنمية القائمة على المعرفة. وعلى الساحة الدولية، فقد أكدت الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، والبنك الدولي، على الأهمية الحاسمة للاقتصاد القائم على المعرفة كحقيقة عالمية تم إثباتها بنهاية القرن الماضي. وقد تنبأ كل من المفكر الياباني تايتشي ساكايا، والكاتب الاقتصادي الأمريكي بيتر دروكر بمجيء الاقتصاد القائم على المعرفة في نهاية القرن الماضي، كأرضية لتأسيس مجتمع المعرفة، ووفقا لما يرى ساكايا، فإننا بصدد تدشين عهد جديد: "أرى أننا ندخل مرحلة جديدة من الحضارة، والتي تكون فيها القيمة المرتبطة بالمعرفة هي القوة الدافعة". ولذا فنحن قد دخلنا بالفعل في "قرن المعرفة".
وكتعريف للبحث العلمي، فهو عملية ديناميكية ونهج عقلاني يدرس الظواهر، ومشاكل من أجل حلها، والحصول على إجابات دقيقة من هذه البحوث. وتتميز هذه العملية بكونها منتظمة ودقيقة تؤدي إلى اكتساب معارف جديدة. فوظيفة البحث هي الوصف، والشرح، والفهم، والتحكم، والتكهن بالحقائق، والظواهر والسلوكيات. فالدقة العلمية تسترشد بمفهوم الموضوعية، وهذا يعني أن الباحث يتعامل فقط مع الحقائق، ضمن إطار محدد من قبل الوسط العلمي.
ولاشك أن البحث العلمي يلعب دورا جد مهم في بناء الحضارات وبناء الأمم وبناء الثروة، فالأمة الواعية العارفة التي ترتكز على العلم والعلوم في بناء حضاراتها وفي تكوين أبنائها لاشك في أنها تتربع على عرش التقارير العالمية سواء التي تصنف الدول على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو العلمي.
فهل استطاع المغرب إعطاء الأولوية للبحث العلمي؟ وهل الميزانية المخصصة للبحث العلمي ببلادنا كافية لإنشاء باحثين وعلماء مغاربة؟
ينفق المغرب على البحث العلمي حوالي 0.8% من الناتج الداخلي الخام، وهي ميزانية ضعيفة جدا بمقياس المعايير الدولية، إذ تعتبر معايير المنظمات الدولية مثل البنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة أن نسبة الإنفاق المثالي هي التي تكون أكثر من 2 بالمائة، وتكون جيدة إذا كانت من 2 بالمائة إلى 1.6 بالمائة، ومن 1.6% إلى 1% تكون حرجة، ودون ذلك ضعيفة جدا.
وقد احتل المغرب المرتبة 84 من أصل 142 دولة في مؤشر الابتكار العالمي، الصادر في تقرير المعرفة العربي الثالث لعام 2014، الذي تعده بدعم ورعاية مشتركة من مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم والمكتب الإقليمي للدول العربية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بينما احتلت الإمارات العربية المتحدة المركز 36 بمعدل 43.25%، والسعودية المرتبة 38 بمعدل 41.61%، وقطر المرتبة 47 بمعدل 40.31%.
هذا المركز الذي احتله المغرب ما بين الدول العربية وخصوصا دول الخليج، يوضح بأن المغرب لازال ينقصه الكثير في مجال الابتكار، الشيء الذي يجب معه الأخذ بعين الاعتبار بأن الابتكار لن يتأتى في ظل منظومة تعليمية فاشلة وفي ظل مخططات واستراتيجيات متحولة ومتغيرة مع تغير كل حكومة، وفي ظل كذلك عدم وجود رؤيا شاملة ومركزة تضع الإصبع على الخلل في هذه المنظومة التي تعد الأساس من أجل الرقي بالبحث العلمي ببلادنا.
وقد إحتل المغرب المرتبة 77 من حيث جودة التعليم من بين148 دولة، وفقا للتقرير العالمي المفصل حول "جودة التعليم" لعام 2013 -2014، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي. وعلى صعيد المنطقة العربية، صنف هذا التقرير العالمي قطر في المركز الأول عربيا وخليجيا و18 عالميا في مؤشر رأس المال البشري، تلتها الإمارات في المركز 24 عالميا، ثم إسرائيل في المركز 25 عالميا، فالمملكة العربية السعودية بالمركز 39، ثم البحرين في المركز 40، وعُمان في المرتبة 41 عالميا.
يتبين من هذا الترتيب، بأن المغرب مازال مـتأخرا بمراحل عديدة عن اللحاق بركب الدول المتقدمة في مجال التعليم، فالدول العربية مثلا وعلى الخصوص دول الخليج كقطر والإمارات، تقدمت كثيرا فيما يخص الميدان التعليمي، وهذا راجع بالأساس للبرامج والمخططات التعليمية التي تستعملها هذه الدول، وهو ما يبدو واضحا للعيان من خلال التقدم الحاصل في هذه الدول سواء على المستوى الاقتصادي أو على مستوى البنيات التحتية، وحتى على مستوى البحث العلمي. لذلك على المغرب نهج نفس الطريق من أجل اللحاق بركب الدول المتقدمة علميا، من خلال تبني استراتيجيات وخطط تأخذ بعين الاعتبار مجال العلم والبحث العلمي كأحد ركائزها ومقوماتها.
وعلى الصعيد العالمي، حلت سويسرا كأفضل بلد في الاستثمار بالبشر، تلتها فنلندة، ثم سنغافورة ثالثا، وهولندا رابعا، ثم السويد خامسا، وألمانيا سادسا، ثم النرويج سابعا، تلتها بريطانيا ثامنا، ثم الدانمارك تاسعا، وكندا عاشرا.
فإسرائيل مثلا، تنفق على البحث العلمي 9 ملايير دولار حسب معطيات العام 2008، وهو ما يوازي 4.7% من إنتاج إسرائيل القومي، كما أن معدل ما تصرفه الحكومة الإسرائيلية على البحث والتطوير المدني في مؤسسات التعليم العالي بلغ 34.6% من الموازنة الحكومية المخصصة للتعليم العالي بكامله. ووصل عدد الباحثين في إسرائيل حوالي 24 ألف باحث، بمعدل 5 آلاف باحث لكل مليون نسمة، وحوالي 90 ألف عالم ومهندس في إسرائيل يعملون في البحث العلمي، وتكلفة الباحث الواحد 162 ألف دولار في السنة، ما يعادل أربع أضعاف تكلفة الباحث العربي، في الوقت الذي يوجد في العالم العربي 363 باحثاً لكل مليون نسمة.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعرضت لأكبر أزمة إقتصادية لها في القرن العشرين، بدأت مع انهيار سوق الأسهم الأمريكية في 29 أكتوبر 1929 والمسمى بـ"الثلاثاء الأسود" وكان تأثير الأزمة مدمراً على كل الدول تقريباً الفقيرة منها والغنية، تنفق وحدها سنوياً على البحث العلمي أكثر من 168 بليون دولار، أي حوالي 32% من مجمل ما ينفق العالم كله، وتحتل الآن عرش الدول المتقدمة، إلى حد وصلت معه السيطرة على العالم.
وتشير إحصاءات صادرة عن منظمة الأمم المتحدة أن ما يقرب من 50 بالمائة من الأطباء و23 بالمائة من المهندسين و15 بالمائة من العلماء من مجموع الكفاءات العربية المتخرجة يهاجرون متوجهين إلى أوروبا، وكندا والولايات المتحدة بوجه خاص، وتستقطب ثلاث دول غربية غنية هي الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا 75 بالمائة من المهاجرين العرب.
واعتبرت الدراسة، أن مستوى الإنفاق على البحث العلمي، والتقني في الوطن العربي، يبلغ درجة متدنية مقارنة بما عليه الحال في بقية دول العالم، موضحة أن الإنفاق السنوي للدول العربية على البحث العلمي لا يتجاوز 0.2 بالمائة من إجمالي الموازنات العربية (حسب إحصاءات جامعة الدول العربية ومنظمة العمل العربي)، في حين تبلغ في إسرائيل 2.6 بالمائة في الموازنة السنوية وذلك مقارنة بما تنفقه أمريكا 3.6 بالمائة والسويد 3.8 بالمائة.
وقد قدرت إحصاءات أجرتها جامعة الدول العربية ومنظمة العمل العربي مؤخرا حجم الخسائر العربية من هجرة العقول للخارج بما لا يقل عن 200 مليار دولار سنويا بسبب ضعف الاهتمام بالبحث العلمي. ويبقى السؤال، هل يمكن وقف نزيف العقول المغربية على الخصوص والعربية على وجه العموم؟
يرجع هذا النزيف بالأساس في المغرب إلى عدة نقط يمكن إجمالها في عدم تقدير العلم والعلماء في المغرب وفي معظم الدول العربية؛ وعدم ثقة الدولة بأصحاب الاختراعات والأفكار، وتخلف النظم التربوية والبطالة العلمية، وعدم وجود المناخ الملائم للبحث العلمي.
في حين أن بلدان العالم الأخرى بدأت في إعلان نفسها مدنا للمعرفة، أو مدنا ذكية، ومن بينها سنغافورة، برشلونة، مانشستر، كوبنهاغن/مالمو، دبي، ملبورن، شنغهاي، ومونتيري، حيث تنبثق أهم مميزات المدن الذكية من منظور تكنولوجيا المعلومات، فالجمعية العالمية لمواني الاتصالات لديها مجموعة اهتمام خاص بالمجتمعات الذكية، مع جائزة للمدينة الذكية. ووفق ما يرون، فإن عوامل النجاح المهمة التالية هي التي تشكل المجتمع الذكي، وهي: البنية التحتية للنطاق العريض، قوة العمل المعرفية، والديمقراطية الرقمية المتجددة. وقد صنف الموقع الرسمي للمجتمعات الذكية (www.intelligentcommunity.org)، 7 مجتمعات ذكية لسنة 2015، وهذه اللائحة تتضمن مدن تنتمي إلى 5 دول مختلفة، ثلاثة منها من الولايات المتحدة الأمريكية؛ وواحدة من أستراليا؛ وواحدة من البرازيل؛ وأخرى من كندا؛ والأخيرة من تايوان، وحسب الترتيب، فالمجتمعات الذكية السبعة لسنة 2015 هي كل من: مقاطعة أرلينغتون بولاية فيرجينيا، كولومبوس أوهايو، وميتشل داكوت الجنوبية من الولايات المتحدة الأمريكية؛ وابسويتش كوينزلاند من أستراليا؛ وري ودي جانيرو من البرازيل؛ وساري كولومبيا البريطانية من كندا؛ ونيو تايبيه من تايوان.
بينما بالمقابل نلاحظ بأن المغرب غارق في مشاكله التعليمية الكثيرة والمتشعبة، وبالإكراهات العديدة التي تشوب مجال البحث العلمي، والتي تجعله غير قادر على اللحاق بركب الدول المتقدمة، فلماذا لا نسمع نحن أيضا بأن المغرب أصبح يوما من بين البلدان الرائدة في مجال البحث العلمي، ومن البلدان التي تعلن نفسها مدنا للمعرفة ومدنا ذكية؟ هذا لن يتحقق في ظل الاستراتيجيات والمخططات الفاشلة التي تعنى بالبحث العلمي وبالمنظومة التعليمية ببلادنا، وراجع أيضا للبنية التحتية غير الملائمة والتي لا تستجيب لمتطلبات عالم المعرفة، وعالم التطور، وعالم التكنولوجيات الحديثة.
فالمغرب من أجل أن يحدوا حذو الدول المتقدمة في مجال البحث العلمي، يجب أن يعطي هذا المجال مصدر الصدارة في أي سياسة مستقبلية له، سواء عن طريق الرفع من القيمة المالية المرصودة للبحث العلمي، أو عن طريق بناء مؤسسات تعنى بالبحث العلمي والتقني والمعلومياتي والفني، وأيضا العمل على تغيير الضوابط البيداغوجية لولوج سلك الأساتذة الجامعيين، فالكفاءات من حاملي شهادة الدكتوراه ببلادنا أصبحوا محاربين من طرف لوبيات الفساد والزبونية والمحسوبية بجامعاتنا المغربية، حتى نرقى لمصاف الدول المتقدمة والمتطورة، لأن التكوين العلمي الجاد للثروة البشرية وللمورد البشري هو الذي ينتج الثروة المادية والرمزية وليس العكس، فمن غير المعقول أن عاهل البلاد يتحدث عن تقوية وتعزيز البحث العلمي ببلادنا، في حين أن الواقع هو خلاف ذلك، فالميزانيات المخصصة لمراكز البحث العلمي وبالخصوص مراكز البحث في الدكتوراه لن تستطيع الوصول بالبحث العلمي ببلادنا إلى مصاف الدول المتقدمة، فعن أي بحث علمي نتحدث، وعن أي ثروة إنسانية نتكلم في ظل هذه الميزانيات التي لا ترقى حتى لمستوى التطلعات، وهو ما يحمل في طياته العديد من التساؤلات حول واقع ومستقبل البحث العلمي ببلادنا.
والإشكال المطروح أيضا، هو ما يبدو واضحا من خلال مراكز البحث في الدكتوراه ببلادنا، والتي أصبحت مصنعا لإنتاج الفشل العلمي، وهذا راجع بالأساس للطريقة التي يتم بها انتقاء الطلبة بسلك الدكتوراه في بعض الجامعات، والتي أصبح فيها الأساتذة الجامعيون ينتقون ما طابت لهم أنفسهم وما اشتهوه من الطلبة التي تربطهم بهم علاقة، فأصبحنا نرى الزبونية والمحسوبية دخلت حتى مجال البحث العلمي، الذي كان منزها عن مثل هذه الأفعال، فكيف يمكننا الحديث عن بحث علمي في ظل ما تنتجه الجامعات المغربية من فشل علمي؟ وعن أي مستقبل للبحث العلمي ببلادنا نتحدث؟