وما ينبئك مثل "مناضل منقلب" جلس على الكرسي....
لحسن عدنان
تساؤل كبير ذلك الذي يؤرق المواطن المغربي بشكل خاص والمواطن العربي بشكل عام : لماذا يتخلى من يسمون أنفسهم مناضلين عن مبادئهم ومواقفهم فور وصولهم لموقع في السلطة مهما كان شأنه ومهما كانت درجته في تراتبية الحكم والقرار؟ السؤال يصبح أكثر إلحاحا حين تلاحظ أن هذه هي الحال العامة بل والطبيعية بالنسبة لكل المناضلين من مختلف المشارب والتوجهات. فإذا كانت الإيديولوجيات والمذاهب السياسية تُفرقهم قبل الوصول إلى موقع السلطة فإنهم يتوحدون ويصبحون على قلب رجل واحد، يرددون نفس التبريرات ونفس التصريحات، وهم يدافعون عن مواقفهم الجديدة الموسومة بالانبطاح وخذلان من صوتوا عليهم والتنكر لجل مطالب الشعب ؟ ما الذي يجعل للسلطة كل هذا المفعول العجيب بحيث تنقلب المواقف فجأة بين عشية وضحاها من النقيض إلى النقيض ؟
الحالات القليلة بل والنادرة التي تفوق فيها أصحابها على أنفسهم واستطاعوا أن ينتصروا لمبادئهم تبقى شاذة
ومعزولة .والشاذ لا يقاس عليه كما يقال. فنحن إذا أمام حالة مضطردة ، وهي في حكم القانون الذي لا يتبدل ولا يتغير. وإن كان هناك من فرق فهو في درجة التنكر للماضي "النضالي". الغريب أن "المناضل" ينقلب على مبادئه ويتنكر لها بشكل يتناسب مع درجة تطرفه يوم كان يدافع عن هذه المبادئ.وهذا هو الخطير في مثل هذه الانقلابات العجيبة والتقلبات الغريبة. أي أن يدافع "المناضل سابقا" عن مجموعة من القضايا والمبادئ والمواقف، ويحشد لها الأصوات والمناصرين والمناضلين، وحين تهب رياح التغيير لصالح حزبه أو تياره، وتقذف به إلى موقع المسؤولية وممارسة السلطة ، لا يلبث إلا قليلا كي يتنكر لكل ما نادى به بالأمس القريب. ولا يتورع عن وصم من مازالوا سائرين على درب النضال المشترك بكل الأوصاف القدحية، ليس أقلها الجمود وعدم القدرة على مسايرة المستجدات والتغيرات. علما أن الحال قد تكون ساءت أكثر والوضع أصبح أكثر مأساوية.
إن الأمر يتطلب معالجة دقيقة ونظرة متعمقة للخلفيات الفكرية وللجانب النفسي وللثقافة السائدة وللممارسة السياسية في الأنساق العربية، وخاصة النسق السياسي المغربي الذي يحلو للكثيرين أن يُضفوا عليه صفة الاستثناء ..وإنه فعلا استثناء عجيب خاصة حين يتعلق الأمر بانقلاب المناضلين الكبار على مبادئهم وتنكرهم لماضيهم وتمثلهم لأسوإ ما في ممارسة السلطة من إقصاء وإبعاد للمنافسين وإجهاز على مطالب الشعب وعلى مكاسب الطبقات الفقيرة والهشة.
ليس من المبالغة أن يُشبَّهَ الأمر بالتحولات الجيولوجية العميقة التي تحدث في الطبيعة خلال آلاف بل ملايين السنين،لكنها تحدث في نفسيات ومواقف رهط "المناضلين" بين عشية وضحاها.فلا شيء يمكنه أن يبرر تحول مناضل يساري راديكالي من الإشادة بالاشتراكية وضرورة قيام الدولة بواجباتها خاصة في الشق الاجتماعي تجاه المواطنين إلى تبني أقصى درجات الرأسمالية والدفاع عن اقتصاد السوق والخوصصة وكل ما تجره من كوارث اقتصادية واجتماعية على الشعب ، لا شيء يبرر ما سبق ويفسره إلا تلك التحولات الراديكالية التي يكون سببها ممارسة السلطة والخضوع للتنويم المغناطيسي الذي يحدثه الكرسي في نفسية من يجلس عليه .إن هذا الكرسي العجيب يشكل حاجزا سميكا بينه وبين ماضيه المختلف والمباين كلية لحاضره المستجد.
تروي كتب التاريخ العربي أنه لما أفضى الأمر إلى عبد الملك بن مروان-أحد خلفاء بني أمية المعروفين بدمويتهم وبطشهم- والمصحف في حجره يقرأ فأطبقه وقال: (هذا آخر العهد بك). إن هذا الموقف ،بقدر غرائبيته وطرافته، يسلط شيئا من الضوء عما تحدثه السلطة في نفسية وعقلية من يمارسها. إنها تقطع صلته أحيانا بكل شيء بما في ذلك كتاب الله الذي يمكنه أن يدله أو يرشده إلى بعض الصواب المطلوب أو الرشد المرغوب.
ومع ذلك،إن صح هذا الخبر، فهو يدل على صراحة ووضوح عبد الملك بن مروان مع نفسه ومع القريبين منه ومع التاريخ إذ يسجل فظائعه وجرائمه ودمويته. فله أن ينسب كل ما اقترفه وصدر عنه لمن يشاء، لكن لن يستطيع أن يبرر باسم الدين أو باسم آيات من القرآن أفعاله المنكرة لأنه قطع الصلة بالقرآن بداية. هذه الشجاعة تُعجز الكثيرين من ممارسي السلطة فلا يزالون يمعنون في ممارساتهم الخاطئة ومواقفهم الباطلة ومع ذلك يجرؤون على أن يجدوا دائما وأبدا عشرات المبررات والتفاسير ، والفظيع أنهم لا يتوانون عن الاستناد للقرآن والحديث ماداموا أعلنوا يوما أنهم يستندون للدين في ممارساتهم ومواقفهم وأدبياتهم.
يردد المصريون مفسرين لمثل هذه التغيرات قولة معبرة مفادها ( أن الوزير يذهب نصف عقله عندما يدخل الوزارة.. بينما يذهب النصف الآخر بعد خروجه منها). لكن يبدو أن بعض الوزراء في المغرب، وخاصة أولئك الضالعين في النضال والحريصين على الشهادة والتضحية، يفقدون الذاكرة بشكل نهائي وينسون حتى ما كانوا يرددونه بالأمس القريب ويتنكرون لكثير من وعودهم ومبادئهم بمبررات واهية لا يصدقها عاقل.
هل يستطيع أحد اليوم في المغرب أن يجد نقط تشابه بين خطابات وتصريحات قيادات وزعامات حزب العدالة والتنمية يوم كانوا في صف المعارضة وبين خطاباتهم وتصريحاتهم حين وصلوا لمواقع المسؤولية والقرار؟ . إن المواطن ،والمتتبع بشكل خاص، يحار في فهم كل هذه التغيرات الكبيرة في مواقف الحزب، والتي تصل حد التصادم بين الأمس واليوم، خاصة في مواقف الأمين العام عبدالإله بن كيران. فلم يعد يهتم لا بانتظارات المواطن ولا بتحسن مستوى المعيشة ولا بمحاربة الفساد والاستبداد كما كان يزعم ، بل إن الرجل لا يحترم حتى مشاعر المواطن ولا يغلف أقواله ،أو بالأحرى طلقاته النارية، بشيء من الدبلوماسية واللباقة والحصافة. يهاجم ويجرح ويقذف ذات اليمين وذات الشمال. ويتعالى عن كل الشركاء والفرقاء ، فالحوار الاجتماعي متوقف والديون ترتفع بشكل مخيف. بل هناك من يقرأ في مواقفه الأخيرة ، وخاصة فيما يتعلق بتعنيف الأساتذة المتدربين، نوعا من تهييج المواطنين ضد بعضهم البعض ونشر بذور الاضطراب لاستغلال ذلك سياسيا.
إن تفسير مثل الانقلابات والتغيرات الكبيرة التي تطرأ على "المناضلين" بسبب ممارستهم للسلطة ووصولهم لمواقع القرار يتطلب تضافر وتكامل جهود متخصصين من شتى الحقول المعرفية التي لها صلة قريبة بهذا الموضوع .لكن لو تطوع المعنيون بالأمر ،أقصد "المناضلين المنقلبين"،وكتبوا مذكراتهم بالصراحة المطلوبة على شاكلة ما يفعله الساسة الغربيون، فربما سلطوا شيئا من الضوء على كثير من التغيرات التي تنتابهم والانقلابات التي تحدث فجأة في حياتهم ،وبذلك يكفرون عن شيء من أخطائهم وتنكرهم لمطالب من صوتوا عليهم وأوصلوهم لمواقع القرار.
في انتظار مثل هذا الفتح المبين ، يجب أن يحرص المواطن كي لا يلدغ من نفس الجحر مرارا وتكرارا.
إن ادعاء النضال مهمة سهلة ، ولا يكون مناضلا إلا من انسجمت وتطابقت أعماله ومواقفه مع تصريحاته ووعوده.
وإن كثيرين يحملون سبحاتهم للإشهار ويكثرون من الوعظ والإرشاد ، لكنهم بمواقفهم وقراراتهم يقضون على كل الآمال ويتنكرون لكل البرامج والوعود ويظهرون نوازع التسلط والقمع... لذلك يجب الاتعاظ والحذر في الآتي من الأيام.