شعرة معاوية أوالمسافة الضيقة بين البداوة والتمدن بحواضرنا
عبدالفتاح المنطري
ليس من روح التمدن إطلاقا و لا من أخلاق التحضر في زمن الانفتاح على تجارب البلدان الراقية عبر الشبكة العنكبوتية أوالقنوات الفضائية الأجنبية أو من خلال الزيارة الفعلية لها، و مع قرب انخراط بلادنا في مفهوم المدن الذكية ، أن يبقى المواطن المغربي حبيس عقلية الحلقة واللغط واللغو والثقافة الشفوية بأصوات منكرة منفرة ،حيث يتسمر ليلا أو نهارا شباب أو كهول أو شيوخ أحيانا تحت نوافذ وشرفات المنازل وعند أبواب العمارات السكنية وعلى قارعة الطريق ، وبأزقة الأحياء الآهلة وغير الآهلة بالسكان، ومنهم من يتلصص على السكان أو يستفز مشاعرهم ببلادة أو بغير وعي أو دون مبالاة في الغالب الأعم وبطرق تثير الاشمئزاز والتقزز
يقول الله تبارك وتعالى في سورة لقمان بالآية 19 (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ...) «واغضض» أي اخفض «من صوتك.. إن أنكر الأصوات» أقبحها «لصوت الحمير» أوله زفير وآخره شهيق ...وتواضع في مشيك، واخفض من صوتك فلا ترفعه، إن أقبح الأصوات وأبغضها لصوت الحمير المعروفة ببلادتها وأصواتها المرتفعة
بلادنا فتحت أوراشا ماكرو-اقتصادية هائلة، هنا وهناك ..أعلى برج في إفريقيا ، ومركبات تجارية وخدماتية متقدمة بمحطات سككية كبرى تضاهي ما هو كائن ببلدان سبقتنا إلى ذلك بعشرات السنين ، والقطارات الفائقة السرعة ، والخدمة الإلكترونية العمومية المتطورة الممهدة للحكومة الإلكترونية والتي أتت أيضا متأخرة عن بلدان تشبهنا في نفس التصنيف العالمي لمؤشرات التنمية البشرية ، وهلم جرا
لكن ، هل يوازي هذا التطور المتسارع ، البناء التربوي للإنسان المغربي باعتباره محور التنمية ، وإليه توجه هذه الاستثمارات الرأسمالية الضخمة ؟ إنه التناقض الصارخ بكل ما في الكلمة من معنى بين ماهو اقتصادي محض و بين ماهو اجتماعي محض .فأمام الانسحاب شبه الكلي للأسرة والجيران والمجتمع في كثير من حواضرنا الكبرى في التربية والمساعدة عليها للناشئة ولمختلف الشرائح العمرية مع تصاعد حجم الأسر النووية ، لم يعد القاطن المتحضر بالمدينة المكتظة بالسكان بإمكانه التعايش مع أشباه رجال وأشباه نساء ، معظمهم من الشباب الطائش المتهور ، الذي لا يعرف شيئا عن أخلاق التساكن والتقدير المتبادل للحقوق والواجبات ، وثقافة المواطنة والمسؤولية الاجتماعية والحرية المحكومة بقوانين وأعراف وتقاليد راسخة
هناك مظاهر تخلف اجتماعي بالأحياء السكنية خصوصا بسلسلة العمارات التي نبتت كالزرع منذ حوالي عقد أو عقدين داخل المدن الكبرى، وهي في الغالب من صنف السكن الاقتصادي الذي يقطنه من هب ودب ، والأمر بالطبع ليس فيه تعميم
فالصلحاء لا تخلو منهم أرض سواء من الذكور أو من الإناث ، وكما قال عبد الحميد ابراهيم قادري في مقال له نشر بمجلة صوت الشمال تحت عنوان : بين التحضر و التمدن..(قد يلتقي تفكير من يسوق جملا أو حمارا في شارع من شوارع المدينة ...فيربك حركة المرور،ويعطل السير بتفكير من يتوقف بسيارته الفارهة في قارعة الطريق ليتحدث لصديقه الذي يشبهه في التفكير و لا يبالي بما يحدثه للآخرين من حرج،ويلتقي تفكير من يطرق بعصاه باب قريبه الذي يسكن في عمارة بقوة في منتصف الليل بتلقائيتة البدوية فيزعج جميع سكان العمارة،بتفكير الذي ينادي صاحبه في منتصف الليل، فيستعمل منبه سيارته بقوة ولا يبالي بإزعاج الآخرين..أو ترى رجلا يركب سيارة فاخرة ويلبس ربطة عنق تحسبه رجلا متحضرا، ولكن تراه في موقف آخر لايحترم إشارات الأمور ولا يهمه أن يدهس طفلا، فما الفرق بين المتمدن والمتحضر؟ ففي اللغة يقال مَدِنَ فلانٌ أي أتى المدينة،و تمدَّن الرجل عاش عيشة أهل المدينة و أخذ بأسباب الحضارة المناقضة للبداوة،وإذا أخذنا بهذا المعنى تكون المدنية كلمة مرادفة للحضارة،و تقابلها البداوة،بخشونتها في الملبس و المأكل و المعاملة والتفكير هذا هو المدلول الثقافي و العلمي للمدنية)،ويضيف السيد قادري في حديثه عن المدينة بالجزائر ، وهم أشبه بالمغاربة إلى حد ما في سلوكياتهم الاجتماعية ...بهذا التحليل و التصور تتشخص أمامنا أربعة أصناف من البشر
صنف متحضر تحكم حركة حياته قيم إنسانية و روحية تسمو به نحو الكمال البشري، فيعيش وفق سنن الكون التي تقوم على التطور الذهني والأخذ بنظرية التسخير و السببية التي أودعها الله في كونه، فيعقل هدفه في الحياة، ويلتزم بالمنظومة الأخلاقية الإيجابية في حياته، و علاقاته بالمحيط الإنساني و في معاملاته مع الآخرين ،والتناغم مع محيطه الاجتماعي والطبيعي بموضوعية.صنف متمدن تحكم حركةَ حياته قيمٌ ماديةٌ و منافعُ ذاتيةٌ تقوم على تسخير الطبيعة و التحكم في تقنيات الحياة في صورتها المادية،والتنافس على متع الحياة المشوبة بالأنانية وحب الذات. وصنف بدوي تحكم حركتَه قيمُ المروءة و الكرم والوفاء و الشجاعة والخضوع لسلطان القبيلة و التعصب لها،وتقوم حياتُه على القناعة والخشونة في المأكل و المشرب،و فضاضة في المعاملة و حدة في الطبع والقول و العمل،وهؤلاء كثيرون في مجتمعنا...وصنف غوغائي لا تحكمه قوانين و ليس في أفراده صفة ثابتة،وليس لهم ذوق سليم و لا قيم تنظم حياتهم،يعيشون على الفوضى الأخلاقية فلا تربطهم بمجتمعهم إلا العلاقات المادية،فهم كالأنعام بل هم أضل،أخذوا من الحضارة حروفَها و من المدنية الحديثة وسائلَها و أنانيتَها،و من البداوة فضاضتَها وسفاهتَها،و هؤلاء هم بلية المجتمع الكبرى،و مصيبته العظمى، المتسببون في تخلفنا وتدهور أخلاقنا،و هم مصدر الآفات الاجتماعية التي تصيب شبابنا،و نشر الفساد الذي ينخر مؤسساتنا الإدارية و الاقتصادية ويميع قوانيننا ومثلنا العليا
وفي نظري المتواضع ، لابد على الدولة أن توظف آلياتها الإعلامية والزجرية والثقافية والتعليمية في أقصى حدودها الممكنة مثلما هو جار بالدول الراقية أمام انسحاب شبه كلي للأسرة والجيران والمجتمع في تربية الإنسان المغربي على قيم التحضر والتمدن والمواطنة الحقة ، وتتعاون في هذه المهمة الاجتماعية ، كل أطياف وشرائح المجتمع المدني ووسائل الاتصال الخاصة ومواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت في متاحة للجميع ودور الشباب والرياضة والثقافة والأندية والجمعيات الثقافية والاجتماعية والمساجد والزوايا الصوفية وأقسام محو الأمية والمكتبات والحدائق العامة
يقول الروائي ألبير كامو :رجل بلا أخلاق هو وحش تم إطلاقه على هذا العالم. وعيب أن يشهد لنا المستشرقجوستاف لوبون شهادة لا نقدر ثمنها اليوم : إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية، فلقد كان العرب أساتذتنا.. وإن جامعات الغرب لم تعرف مورداً علمياً سوى مؤلفات العرب، فهم الذين مدنوا أوروبا مادةً وعقلاً وأخلاقاً، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه.. إن أوروبا مَدينة للعرب بحضارتها.. وإن العرب هم أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.. فهم الذين علموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل: حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان.. ولقد كانت أخلاق المسلمين في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيراً من أخلاق أمم الأرض قاطبةً