الاعتزاز بالهوية المغربية..رهان ربح القضايا المستقبلية
يونس مليح
لقد ارتبط الإنسان منذ وجوده بشيئين هما المكان والزمان، فالإنسان مرتبط بالمكان من حيث وجود ذاته، وإذا كان المكان يدل على وجود الإنسان في جزء معين منه، فإن الزمن هو الذي يحدد مدى هذا الوجود وكميته، ولذلك فالمكان هو الوطن والانتماء المكاني هو الانتماء الوطني. إذ تظهر صور هذا الانتماء وهذه الهوية لدى الفرد منذ ولادته عندما يتعلق بوالدته التي تقوم على رعايته، ثم يتوالى هذا السلوك ليشمل تعلقه بكافة أفراد الأسرة، التي هي الوحدة الاجتماعية الأساسية لشخصية الفرد، ويظهر انتماء الفرد إلى أسرته بتشربه قيم واتجاهات الأسرة، لتصبح جزءا من شخصيته، يجسدها بالعمل لتصب في بحر الانتماء والهوية، فالرابطة الأسرية أمر ضروري للمحافظة على تماسك المجتمع وتكوين الانتماء. فهذه المرحل كلها تصب في النهاية في بوتقة واحدة هي الانتماء والتشبث بالهوية، وهو الأمر الذي يعد أغلى شيء يملكه الإنسان بحيث يؤويه ويحميه.
وقد أصل النبي (ص) لمبدأ العلاقة بين المسلم وبين الوطن، وذلك بحبه وحسن الانتماء إليه، إذ بدون ذلك لا يقوى الإنسان على الإبداع والعطاء، فحب الوطن سبب مباشر من أسباب النجاح والفلاح والإنتاج والعمل والدفاع عنه. لذلك، كانت هواجس الشوق للوطن عاليه لدى النبي (ص) وأصحابه. ومن أجل تحقيق الفلاح في موطنهم الجديد سأل النبي (ص) ربه أن يجعل حب المدينة في قلبه وقلب أصحابه كحب مكة، فقال عليه الصلاة والسلام:" اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد ".
وقد تغنى العديد من الكتاب والأدباء والشعراء بحب الوطن، بحيث نجد الشاعر أحمد شوقي يكتب في بعده وفراقه للوطن ما يلي: وطني لو شغلت بالخلد عنه .. نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيل .. ظمأ للسواد من عين شمس
شهد الله لم يغب عن جفوني .. شخصه ساعة ولم يخل حسي
فكيف يمكننا الحديث عن الاعتزاز بالهوية المغربية؟ وما هي تجلياته ومظاهرها ؟ وكيف يمكن للمواطن المغربي أن يرتقي بمستوى انتمائه وحبه للوطن؟
لقد أكد الملك محمد السادس في خطابه الذي ألقاه في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية التاسعة على أنه :" من حق كل المغاربة، أفرادا وجماعات، أينما كانوا، أن يعتزوا بالانتماء لهذا الوطن. وكواحد من المغاربة، فإن أغلى إحساس عندي في حياتي هو اعتزازي بمغربيتي. وأنتم أيضا، يجب أن تعبروا عن هذا الاعتزاز بالوطن، وأن تجسدوه كل يوم، وفي كل لحظة، في عملكم وتعاملكم، وفي خطاباتكم، وفي بيوتكم، وفي القيام بمسؤولياتكم. ولمن لا يدرك معنى حب الوطن، ويحمد الله تعالى، على ما أعطاه لهذا البلد، أقول: تابعوا ما يقع في العديد من دول المنطقة، فإن في ذلك عبرة لمن يعتبر. أما المغرب فسيواصل طريقه بثقة للحاق بالدول الصاعدة".
كما أكد الملك في نفس الخطاب على أن:" هذا الاعتزاز بالانتماء للمغرب هو شعور وطني صادق ينبغي أن يحس به جميع المغاربة. إنه شعور لا يباع ولا يشترى، ولا يسقط من السماء. بل هو إحساس نبيل، نابع من القلب، عماده حسن التربية، على حب الوطن وعلى مكارم الأخلاق. إنه إحساس يكبر مع المواطن، ويعمق إيمانه وارتباطه بوطنه. والاعتزاز لا يعني الانغلاق على الذات، أو التعالي على الآخر. فالمغاربة معروفون بالانفتاح والتفاعل الإيجابي مع مختلف الشعوب والحضارات".
فتأكيد الملك على أهمية الهوية المغربية، ينبع من الدور الهام الذي تلعبه هذه الأخيرة في بت روح التلاحم والتآزر والاتحاد بين مختلف شرائح المجتمع لرفع الحواجز وبناء دولة الحق والقانون التي نادى بها الدستور 2011، من خلال العديد من فصوله التي تركز في كثير من الأحيان على الترابط الروحي بين مختلف مكونات الجسم المغربي من خلال هويته الوطنية للدفاع عن حوزة الوطن وعن الشعار الخالد للبلاد "الله-الوطن-الملك".
فالهوية يقصد بها مجموع ما يكون الشيء أو الشخص أو الجماعة من صفات تجعله هو هو دائما، إنها مجمل السمات التي تميـّز شيئاً عن غيره أو شخصاً عن غيره أو مجموعة عن غيرها. وعناصر الهوية هي شيء متحرك ديناميكي يمكن أن يبرز أحدها أو بعضها في مرحلة معينة وبعضها الآخر في مرحلة أخرى إنها بكل بساطة عناصر جمعية تجعل الشعب أو المجموعة مشتركة في: الأرض، اللغة، التاريخ، الحضارة، الثقافة، العادات، التقاليد والطموح وغيرها.
وتعتبر الهوية من أهم السمات المميزة للمجتمع، فهي التي تجسد الطموحات المستقبلية في المجتمع، وتبرز معالم التطور في سلوك الأفراد وإنجازاتهم في المجالات المختلفة، بل تنطوي علي المبادئ والقيم التي تدفع الإنسان إلي تحقيق غايات معينة، وعلي ضوء ذلك فالهوية الثقافية لمجتمع ما لابد وأن تستند إلي أصول تستمد منها قوتها، وإلى معايير قيمية ومبادئ أخلاقية وضوابط اجتماعية وغايات سامية تجعلها مركزا للاستقطاب العالمي والإنساني، كما شغلت قضية الهوية الثقافية بال المفكرين والعلماء والمثقفين والقادة في دول العالم، خاصة في عصر العولمة الذي ترك أثارا نفسية نتج عنها تحول في الهوية.
ويمكن القول بأن كل مجتمع له هويته التي تميزه عن سائر المجتمعات، وأن كل فرد يكتسب هويته من المجتمع الذي ينتمي إليه، والهوية ليست من الأمور الثانوية غير الضرورية في حياة الأفراد والشعوب والأمم، بل هي مسألة وجودية، وضرورة حيوية، تتعلق أساسا في مستوى من مستوياتها بمعاني الغائية والهدفية في حياة الإنسان، فالفرد الذي لا يشعر بالانتماء، ولا يعتز بهويته، لا يمكن أن يفكر في رسالة اجتماعية، أو ينهض بواجباته الحضارية تجاه المجتمع الذي يفترض أنه ينتمي إليه. والفرد الذي يتخلى عن هويته ويستلب لهوية أخرى لا يبعد أن يجند لضرب مصالح أمته ومجتمعه ودولته، وفضلا عن ذلك فالفرد الذي لا يعرف له هوية، لا يمكن أن يبدع، فإن الإبداع لابد له من انتماء، لابد له من مرجعية حضارية، فوحدها الشجرة التي تضرب جذورها بعمق في الأرض، هي التي تستطيع أن تعانق أفنانها عنان السماء. فمثل هذا الفرد الذي لا يعرف له هوية أو انتماء، عبر عنه كولن ولسن (Colin Henry Wilson) باللامنتمي أي شخص بلا هدف ولا غاية في الحياة، ورسم له صورة بليغة شبهه فيها بشظية خشب تحت الجلد.
من هذه التوطئة حول الهوية، يتضح لنا وبشكل جلي الدور المهم للهوية والتي تتجلى بشكل واضح في تحقيق الأهداف المسطرة لدى الشخص في حياته، ومكانته داخل مجتمعه، ودوره داخل مكونات هذا المجتمع، فبدون هوية لا يمكننا الحديث عن مستقبل، لا يمكننا الحديث عن هدف في الحياة، بدون هوية نحن لا شيء في منظومتنا المجتمعية، فالهوية تعطي للشخص مكانته وتصنيفه، لهذا وجب العمل على تعزيزها والاعتزاز.
والهوية المغربية أكد عليها دستور المملكة المغربية لسنة 2011 حينما خصها بما يلي: "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية-الإسلامية والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز يتبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها".
من خلال هذا التصدير يتضح لنا بشكلي جلي، الركائز الأساسية التي بنيت عليها الهوية الوطنية المغربية منذ قرون، وهي الإسلام، العربية، والأمازيغية كأحد الروافض المؤثثة لهوية المغاربة، والذين تعايشوا معها في ظل أمن روحي، وانسجام فكري، ووحدة ثقافية واجتماعية وسياسية.
إن من أبرز الدوافع نحو تأكيد الهوية الوطنية هو ما يشهده عالم اليوم المتغير في كثير من أحداثه، والمتمثل في الانفتاح والنمو والتقدم التكنولوجي الذي ربما يكون له تأثيراته علي الهوية الثقافية للمجتمع، ومما لا شك فيه أن العولمة الثقافية أصبحت تباشر تأثيرها علي الأجيال الجديدة من أبناء المجتمع، وسرت مفاهيم جديدة ومفردات غربية علي لغتنا العربية، وصار الشباب العربي يرددها ويدافع عنها، بل صار مكمن الخطورة يتمثل فيما يمكن أن تتعرض له قيم الانتماء والاعتزاز بالوطن والعروبة والإسلام من تهديد، وصار من الواجب علي مؤسسات التربية والتعليم أن تتحمل مسئولياتها لاستعادة التوازن المفقود والدفاع عن هويتنا وثقافتنا.
فهناك بعض الدول مثل استراليا اشتكت من المادة الإعلامية للتليفزيون الأمريكي علي الأطفال؛ لخطورتها علي فقدان الانتماء، وقد عبرت وزيرة الثقافة الكندية عن انزعاجها من الهيمنة الثقافية الأمريكية، حيث إن 60% من برامج التليفزيون الكندي مستوردة، وأن 90% من الأخلاق ليست كندية، كذلك اشتكت فرنسا من هيمنة اللغة الإنجليزية والتأثير علي الهوية الفرنسية، كما أن الصينيين واليابانيين لم يهملوا لغتهم الأم ولم يجعلوا الثقافة الأمريكية تؤثر في حياتهم الاجتماعية والثقافية، بل احتفظوا بثقافتهم من عادات ولغة وتقاليد، وبذلك ظلوا محافظين علي هويتهم الثقافية.
ومن هنا صارت المؤسسات التعليمية مطالبة بالحفاظ على الهوية المغربية للمواطنين المعرضة للتدهور والاندثار، وأن تعمل على التأكيد علي الهوية المغربية للمجتمع، لأن التعليم يشكل حجر الزاوية في تشكيل الهوية وفي تعزيزها والحفاظ عليها لكل شعب من الشعوب، لذلك فإن الدول تتخذ التعليم كأداة أساسية لتربية أبنائها منذ الصغر علي المبادئ والأفكار والأيدلوجيات التي تشكل في النهاية الهوية الوطنية للمجتمع.
كما يجب العمل على وضع أنشطة تلبي رغبات الطلبة، وتحقق مقترحاتهم وتركز على جوانب تستهدف تعزيز الهوية الوطنية لديهم، وترسيخ آليات الاعتزاز بالتراث الوطني، والتعرف على عناصره، وكذلك تدريب الطالب على كيفية الحفاظ على هذا التراث وصون مفرداته، بالإضافة إلى حماية البيئة وتعزيز مفاهيم الاستدامة في مختلف المجالات البيئية بما يترجم التوجيهات الملكية السامية الداعية إلى الاعتزاز بالهوية الوطنية.
وحتى نحافظ ونعتز بهذه الهوية، يجب علينا الحفاظ على الموروث الثقافي والفكري من الاندثار، ونساهم في المسيرة التنموية والرؤية التي تؤكد الانفتاح على الحضارات، والتشجيع على الابداع وترسيخ مفاهيم الجودة وتعميق ثقافة التميز، والمشاركة في بناء المجتمع وإحيائه ثقافيا واقتصاديا وتنمويا للوصول إلى الرقي وتحقيق أقصى غايات السيادة والريادة للمملكة المغربية حتى ينظر العالم إلينا بعين الإكبار والإجلال.
كلنا ندافع عن هويتنا المغربية لأنها أصل وانتماء، وهي فخر كل مغربي، لذلك فالجميع يسعى لإظهارها في أحسن صورة، لكن ما هو ظاهر للأسف أن بعض الأشخاص يميلون إلى التخلي عنها والتشبه بأمم أخرى كالغراب الذي أراد أن يقلد مشية الحمامة فعجز عن ذلك ليجد نفسه قد فشل ونسي أيضا مشيته، هذه فقط حكمة لمن أراد أن يعتبر، فالعزة كل العزة لمن يحافظ على هويته المغربية و يفتخر بها ويمثلها خير تمثيل.
حسن
متأثر
مقال رائع صراحة، فالاعتزاز بالهوية المغربية هو السبيل الوحيد نحو تحقيق المراد شكرا لك أستاذ يونس