المجتمع المدني أداة مساهمة في التنمية الترابية
يونس مليح
إن عبارة المجتمع المدني، كما جاءت في كتيب لمنظمة هاريكار غير الحكومية المعنون تحت "دور منظمات المجتمع المدني في التنمية الاجتماعية"، استعملت في الفكر الغربي، من زمن النهضة حتى القرن الثامن عشر، للدلالة على المجتمعات التي تجاوزت حالة الطبيعة والتي تأسست على عقد اجتماعي وحّدَ بين الأفراد وأفرز الدولة، فالعبارة كانت تدل طوال هذه الفترة على المجتمع والدولة معاً، أي أن المجتمع المدني، بحسب صياغاته الأولى، هو كل مجتمع بشري خرج من حالة الطبيعة ( الفطرية)، إلى الحالة المدنية التي تتمثل بوجود هيئة سياسية قائمة على اتفاق تعاقدي. وبهذا المعنى فإن المجتمع المدني هو المجتمع المنظم تنظيماً سياسياً، أو أن مفهوم المجتمع المدني يعبر عن كل واحد ولا تمايز فيه، يضم المجتمع والدولة معا. وهو مجتمع الأحرار المستقلين، ومن ثم فإن المجتمع المدني لا يعرف المراتب الاجتماعية ولا التدرج الاجتماعي، وتركيبه الداخلي لايعرف السيطرة ولا التبعية، والعلاقات داخل المجتمع المدني ليست علاقات بين قوى اجتماعية أو طبقات اجتماعية، ولكنها علاقات بين أحرار متساوين.
وقد أعطى البنك الدولي تعريفاً للمجتمع المدني أعده عدد من المراكز البحثية الرائدة، إذ يشير مصطلح المجتمع المدني إلى المجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية التي لها وجودٌ في الحياة العامة وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية. ومن ثم يشير مصطلح منظمات المجتمع المدني إلى مجموعة عريضة من المنظمات، تضم: الجماعات المجتمعية المحلية، والمنظمات غير الحكومية، والنقابات العمالية، وجماعات السكان الأصليين، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية، والنقابات المهنية، ومؤسسات العمل الخيري".
ويعتبر المجتمع المدني واحدا من أربعة ركائز أساسية تساهم في التطور داخل مجتمع معين، والثلاثة الأخرى المتبقية هي الدولة، المجتمع السياسي، والقطاع الخاص. وبشكل أكثر تحديدا، هو كل المنظمات الطوعية، غير الربحية، المستقلة والتي توجد وجها لوجه مع الدولة والمجتمع، والمجتمع السياسي والقطاع الخاص، والتي تعمل داخل وبين السكان لتعزيز القدرات الذاتية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والمدني والثقافي.
وفي السنوات الأخيرة، وذلك تماشيا مع التغيرات التي أثرت على وظيفة ودور الدولة في إدارة السياسات العامة والاقتصادية على المستوى العالمي، والتي أنجبت شكلا جديدا من المجتمع المدني الدولي، اعتمد المغرب مثل غيره من البلدان المتقدمة إستراتيجية تعتمد على الانفتاح وإشراك المجتمع المدني في قضايا الحكامة وتدبير المواضيع ذات الصلة بالتنمية الترابية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية). فالمجتمع المدني، أصبح في ظل هذه المتغيرات فاعل لا غنى عنه في أداء المجتمعات المعاصرة، هذا الوضع الجديد هو نتيجة العمل الذي قامت به مؤسسات تعمل في مجال حقوق الإنسان، وكذا في مجالات أخرى كتعزيز الدور الاجتماعي والسياسي للمرأة، وحماية الأطفال، ومكافحة الفساد، ومكافحة الفقر، والحفاظ على البيئة. وفي هذا السياق، سنحاول معالجة هذا الموضوع، وتقديم دور المجتمع المدني في التحسين والتطوير والمساهمة في التنمية الترابية، فضلا عن المبادرات التي اتخذتها الدولة في هذا المجال.
في المغرب، كما هو الحال في دول أخرى، النضال من أجل مجتمع مدني يرتكز على الأولويات المتعلقة بالحريات الأساسية المدنية، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، سواء في المناطق الحضرية أو القروية. وحاليا في المغرب، وصل عدد الجمعيات برسم سنة 2016 إلى 130 ألف جمعية، مقارنة مع سنة 2014 التي أحصت فيها السلطات 116 ألف جمعية، حيث تتصدر جهة الدار البيضاء - سطات عدد الجمعيات النشيطة،إذ يبلغ عددها 19 ألف و500 جمعية، وذلك وفقا للتقرير الحكومي لسنة 2016 حول الشراكة بين الدولة وجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، المتعلقة بالتمويل العمومي، هاته الجمعيات تشمل جميع الفئات وتخص العديد من المجالات. ووفقا لتصريحات مدلى بها إلى السلطات العمومية، فما يقرب من 70٪ من هذه الجمعيات تنشط في مجال التنمية الاجتماعية. لذلك، فالعدد المتزايد من الجمعيات في هذه السنة، يوضح وجود برامج من أجل المساعدة وبرامج تنموية بالمغرب، موجهة من طرف منظمات دولية مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي واليونسكو.
واليوم، يتعايش شكلين من الجمعيات، الأولى غير رسمية، وغير معترف بها من قبل الدولة والتي تميل إلى الزوال، وأخرى ذات طبيعة رسمية معترف لها بالشخصية الاعتبارية. وتقدم الجمعية إطارا منضبطا مع السياق الحداثي والعصري، من أجل التعبير عن التضامن. فلعدة سنوات، والسلطات العمومية تبدو واضحة في كون أن الدولة لا تستطيع أن تفعل كل شيء، من خلال هذا، يتم تشجيع الجمعيات على لعب أدوارها النشيطة في التنمية الاجتماعية، فالمشهد الجمعوي يبدو اليوم أكثر تنوعا، وموزعا جغرافيا على جميع التراب الوطني.
ولاشك أن الدستور المغربي الجديد لسنة 2011، قدم أدوارا جديدة للمجتمع المدني، بالإضافة إلى مجموعة من الحقوق الجديدة التي لم يكن يتضمنها الدستور السابق لسنة 1992، الكامنة في:
الحق في الحياة؛
الحق في الأمن الشخصي؛
الحق في السلامة الجسدية أو المعنوية؛
الحق في حماية الحياة الخاصة؛
قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة؛
حق الحصول على المعلومات؛
الحق في الرعاية الصحية؛
الحق في السكن اللائق.
زيادة على ما سبق، فقد أقر دستور 2011 المكانة الهامة التي يحتلها المجتمع المدني في التنمية الترابية للمملكة، وذلك من خلال منحه القدرة على المساهمة بشكل غير مباشر في سياق إعداد وإدارة ومراقبة وتتبع قرارات ومشاريع لدى المؤسست المنتخبة والسلطات العمومية، والقضايا التي تخص الشأن العام، أو عن طريق إعطائهم الفرصة لتقديم مقترحات إلى البرلمان، أو الحكومة، أو المؤسسات العامة الأخرى، أو من خلال تنصيص المشرع في الدستور على إنشاء مجلس استشاري للشباب والعمل الجمعوي، المنصوص عليه في الفصل 33 و170 من الدستور، إذ تتمثل مهمته في تشجيع المشاركة المباشرة للشباب والجمعيات في الحياة الوطنية بروح المواطنة المسؤولة، والنهوض بأوضاعهم، وتحفيزهم على الانخراط في كافة المجالات التي تؤثر على التنمية البشرية المستدامة.
فإشراك المجتمع المدني في تنفيذ القرارات والسياسات العمومية، إن كان يدل على شيء فهو يدل وبشكل واضح على انفتاح الدولة على محيطها الداخلي، وجعل المواطن المغربي على وجه الخصوص، ومنظمات المجتمع المدني على وجه العموم، شريكا في العملية التنموية الترابية، وشريكا في اتخاذ القرارات التي تساهم في الرقي وفي تطوير بلده سواء محليا أو وطنيا أو حتى دوليا، وهذا المنحى الذي سلكه دستور المملكة الجديد يجعل المجتمع المدني المتخصص في المجال التنموي والثقافي والاجتماعي وكذا السياسي، يتوفر على فرص مهمة لتقوية مركزه في السهر على تنفيذ القرارات العمومية في كثير من المجالات، والدستور الجديد لم يكتفي فقط بالتأكيد على ضرورة إشراك المجتمع المدني في عملية اتخاذ القرار العمومي، ولكن أيضا إشراكه في تنفيذها، وهو ما يؤكده الفصل الثاني عشر منه، حيث ينص على أنه: "تساهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها. وعلى هذه المؤسسات والسلطات تنظيم هذه المشاركة، طبق شروط وكيفيات يحددها القانون"، وأيضا الفصل الثالث عشر منه والذي ينص بدوره على ما يلي:" تعمل السلطات العمومية على إحداث هيئات للتشاور، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها"، وأيضا الفصل 139 من دستور 2011 الذي ينص على أنه "تضع مجالس الجهات، والجماعات الترابية الأخرى، آليات تشاركية للحوار والتشاور، لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برامج التنمية وتتبعها. وُيمكن للمواطنات والمواطنين والجمعيات تقديم عرائض، الهدف منها مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله".
فإشراك الدستور للمجتمع المدني في تنفيذ القرارات العمومية، هي محاولة للرفع من عمل وبنية وثقافة هذا الأخير، ودفعه إلى إحداث حركية جديدة بداخله، وبالتالي يصبح قادرا على الإنتاج والاستمرارية على الفعل التنموي في مختلف المجالات، ذلك أن هذه الاستدامة والاستمرارية كانت ومازالت مدار جدل بين المجتمع المدني والممولين، وذلك لضعف الخبرة وقلة الموارد، وغياب الطابع التشاركي المؤسساتي، وهنا نؤكد أنه ليس من الضرورة أن يحتفظ المجتمع المدني بالمشاريع التنموية – في مختلف المجالات– لوقت غير محدود، بل يسهر على تنفيذها وتسييرها، ثم إيصالها إلى مرحلة نجاح واضحة، وبعد ذلك تسليمها للفئات المستهدفة والمعنية، لتنتقل هذه الهيئة أو الجمعية إلى تبني مشروع آخر، ومن هنا يتحول المجتمع المدني إلى فاعل تنموي حقيقي، ينفد المشاريع والسياسات الترابية، ويسلم حصادها إلى الساكنة المستهدفة.
لذلك، فسياسة القرب التي أقرتها المنظمات غير الحكومية، تسمح بربط حوار من مختلف الفاعلين في مناخ من الثقة اللازمة، من أجل تبديد الصراعات، وفهم القضايا والمشاكل بطريقة صحية، صحيحة وفعالة. فكافة المنظمات غير الحكومية العاملة في مجالات التنمية، ترسم كهدف لها الرؤية الشاملة والمتكاملة من أجل التنمية، ومن هنا كانت الحاجة لتنفيذ برامج للتنمية المتكاملة في مختلف القطاعات على مدى عدة سنوات، مع استمرار دعم المنظمات غير الحكومية للسكان المستهدفين. ف"برنامج تقديم المساعدة للمجتمع المدني من أجل دعم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية"، والذي يهدف إلى المساهمة في الحد من الفقر، والاقصاء الاجتماعي، وتحسين مؤشرات التنمية البشرية في المغرب، وتخطط للاستفادة وإعادة نشر مهارات المنظمات غير الحكومية على التكيف بشكل أفضل مع توقعات المواطنين، مع ضمان موائمة وملائمة مبادئهم مع السياق الاجتماعي والاقتصادي المغربي.
وهكذا، فإن إسهام ومشاركة المنظمات غير الحكومية في التنمية الترابية، يجب أن يأخذ في عين الاعتبار دعم وبناء القدرات اللازمة لدعم تنفيذ المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على المستوى الترابي، وذلك عن طريق:
- الأنشطة المدرة للدخل (التنمية الزراعية، والحرف اليدوية، والسياحة البيئية، التداريب المهنية، والتجارة، والقروض الصغرى)؛
- الوصول إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية (الدعم الاجتماعي، السكن، محو الأمية، التعليم، والصحة)؛
- محاربة الإقصاء الاجتماعي (الأيتام، المعوقين، والنساء المعنفات)؛
- أنشطة متعددة القطاعات حول موضوع الهجرة والتنمية؛
- تعزيز التواصل الاجتماعي الفعال، الهادف إلى نشر وتعميم المناهج الجديدة، وأساليب وممارسات التنمية التي تشكل آلية دعم أساسية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية؛
وفي هذا الصدد، فالمغرب ملتزم بالمشراكة في العملية التنموية الحداثية، الأمر الذي أدى إلى ولادة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي وفرت الموقع الاستراتيجي لمنظمات المجتمع المدني، كمنظمات قريبة من المواطنين. بالتأكيد، فدستور 2011 كرس لمنطق الاعتراف بالدور المهم للمنظمات غير الحكومية في مجالات التنمية البشرية المستدامة، ووضع المادة الخام لكيفية إشراك منظمات المجتمع المدني في عملية صناعة القرار العمومي والترابي، وذلك من خلال التنصيص على عدد من الركائز والأساسيات التي بمقتضاها يمكن لهذه المنظمات أن تندمج وبشكل سلس في مسلسل التنمية الترابية، وذلك لن يتأتى إلا عن طريق وضع الآليات التي نص عليها دستور 2011 على أرض الواقع، والعمل كذلك على تفعيل توصيات الحوار الوطني حول المجتمع المدني والأدوار الدستورية الجديدة. فدور المجتمع المدني لا يزال غير مرضي، ويحتاج إلى مزيد من التحسين والعمل الجاد من أجل الوصول به إلى مرحلة النضج المطلوب.
mohamed el ghomri
merci bonne sujet