رهانات التنمية وإكراهات البيئة ..

رهانات التنمية وإكراهات البيئة ..

محمد البورقادي

 

العالم يشكو حاله ..إنه يئن من حر مناخه ومن سخونة جوه ..إنه ينقرض تندريجيا .إنه يحتضر ..وإن لم نتداركه فقد يموت ويذهب للأبد وليته يذهب لوحده بل سيجرنا معه في سبيله .. 

إننا نعيش على هذا الكوكب منذ ملايين السنين نقتات من أرضه ونتنفس من هوائه ونعيش على نعمائه .إنه ملاذنا الوحيد ..إنه بيتنا 

إن جشعنا للإستهلاك ورغبتنا في الإنتاج اللامحدود جعلت منا وحوشا ضارية لها بعد واحد وهو البعد الإستهلاكي.. 

إن سيناريو الكارثة جاء كحلّ للخروج من أزمة ما بعد الحربين العالميتين ..حيث كان الفكر منصبا حول إعادة إعمار ما خلفته نتائج هاتين الحربين من دمار وخراب ..وكان السؤال حينها هو إخراج الدول المتضررة من محنتها باتجاه تنمية شاملة تبشّر بتعميم الإزدهار والرفاه والتقدم ..ومصداقا لذلك جاء مشروع "مرشال" التنموي لإعادة البناء من جهة ولمواكبة هذا البناء مع النمو المتزايد لجميع الدول من جهة أخرى ..لكن هذا المشروع كانت له آثار جانبية موازية لعملياته التنموية ..حيث أدى إلى تضاعف مستويات التلوث ..وتراجع الأنواع الحيّة وتقلص الأراضي الخصبة ..وأصبحت مخلفات الإستهلاك ومقذوفات المصانع عبئا على كوكب الأرض ..فالسوائل الكيماوية التي ترمى في البحار تشكل حقولا للموت تستنزف الأكسجين من الماء الذي تعيش به الكائنات البحرية ..

إن الإنسان في صراع دائم مع الطبيعة ..فهو يحاول أن يفهمها ..أن يسيطر عليها ..أن ينزع ثرواتها مهما كلفه ذلك ..إن إمكانياته لأجل ذلك محدودة جدا ولكن طموحاته كبيرة جدا ..إنها الطبيعة مصدره لإشباع حاجياته وضمان بقاءه على هذا الكوكب ..لكنه لا ينوي الإكتفاء بأخذ حاجاته الضرورية لبقاءه فقط ..بل يروم إخضاعها بالكامل واستنزاف مواردها وطاقاتها بالكامل ..إن انتصاره عليها لا يمثل انتصاره الحقيقي بل يمثل خيانته وغدره ..وبالتالي فهذا الإنتصار غير تام قد يؤدي لهزيمته وإفناءه إن لم يتم بشكل معقلن ..ذلك أن الإستهلاك المفرط للموارد الطبيعية بدون شروط وضوابط تراعى من شأنه تعجيل الإفلاس وطلب الإنتحار ..وهذا ما يحدث في عالمنا اليوم نتيجة لفرط الإنتاج المهول الذي تسير على وقعه الدول المتقدمة بالخصوص ..ولا شك أن هذا الإنتاج المفرط يسهم في رفاه الدول وارتفاع مستوى معيشتها ولكنه في المقابل يقلص أمد الحياة على الكوكب ويعجل بنفاذ مخزون الأرض ويدمر الإنسان من حيث لا يشعر ..

فالغازات الدفيئة التي تنبعث من عوادم وسائل النقل والمصانع تشكل طبقة سميكة في الجو تؤدي إلى اختراق طبقة الأوزون المسؤولة عن حجب الأشعة فوق البنفسجة التي تنبعث من الفضاء الخارجي ..هذه الطبقة التي تضاعف حجم ثقبها كثيرا في السنوات العشر الأخيرة مشكلا بذلك تهديدا حقيقيا لكوببنا .. 

كما أن الإنبعاثات الغازية تؤدي إلى حدوث الإحتباس الحراري الذي يرفع من درجة حرارة الأرض ..وارتفاعها يؤدي إلى إذابة الجليد في القطبين بشكل متسارع مما يرفع منسوب المياه في المحيطات وإن استمر هذا الإرتفاع ستذهب مدنا ساحلية بالجملة جراء المد البحري الذي ستعرفه ..

إن النمو المتزايد الذي يعرفه العالم الآن يهدد باستمرار الحياة على سطح الأرض لإنه غير عادل إنسانيا ولا ممكن بيئيا ..فقضية التنمية ومسألة الحفاض على البيئة هي معادلة صعبة للغاية ..تفرض وجود سياسات قوية وإرادات أقوى لتحقيقها ..فالدول المتقدمة قد ألفت ارتفاع مستوى نموها وتعوّد أفرادها على نمط عيش رغد تبعا لذلك وبالتالي يصعب عليها أن تفقد هاته المنحة بسهولة ولا يمكنها أن تتقبل فكرة تقليص الإنتاج والإستهلاك وتخفيض وثيرة نموها بسهولة أيضا إلا أن يكون هناك رهان آخر تعتمد عليه في بناء اقتصاداتها ..وهذا يتطلب جهدا مضاعفا وبحثا مشتركا تشترك فيه كل دول العالم ..ولن تتمكن هذه النظرية التقشفية من التطبيق إلا بعقد تنازلات بشأن تقليص الإنتاج الطاقي الذي يقوم على النفط والغاز الطبيعي كمورد رئيس والإعتماد على الطاقات المتجددة كالإشعاع الشمسي وقوة الرياح وأمواج البحر والمحيطات بدلا من ذلك ..لكن هاته الطاقات المتجددة البديلة لن تتمكن من تحقيق نفس مستوى النمو المحقق للتنمية المنشودة بنظر تلك الدول بالمقارنة مع ما تحققه الطاقات المستنفذة الأخرى وهذا ما يجعل الأمر صعبا لا يُشبع نهم الصناعات الغربية ولا يشفي طمع وجشع الرأسمالية الإمبيريالية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ..هاته الدول الرأسمالية لا تريد التفاوض بشأنه وأي قرار يلزمهم بتخفيض الإنتاج لا يوافقوا عليه ..

قد يستفيد جيلنا من خيرات هذه التنمية بحال أو بآخر ..وقد نفيد إلى أقصى الحدود من نتائج النمو الذي تعرفه الدول المتقدمة ..وهذا لا يمكننا إنكاره ..ذلك أن ارتفاع نسبة النمو يفرض تصريفه لكي لا يحدث التضخم تبعا لذلك ..كما أن انخفاضه قد يُعلي من قيمته المضافة لارتفاع الطلب عليه في مقابل نذرته .

إلا أننا قد نظلم الأجيال القادمة ونحيف على حقها في استغلال نصيبها من ثروات الأرض التي ينضب مخزونها بكثرة استهلاكها ..إننا نبيع حياة أبنائنا وأحفادنا بالوكالة ..إننا أنانيون !

"ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " إنما يشهده العالم من عواصف وأعاصير وتلوث وتغير مناخي وإهلاك للتنوع الإحيائي هو نتيجة لسوء ما بدر من الإنسان لضعفه أمام شهواته وأطماعه وعاقبة لقصر نظره ..إنه يحصد بعض ما عملت يداه عله يتراجع ويتدارك بخطط سليمة تروم الجمع بين الإنصاف والإستدامة لهذا الرأسمال الطبيعي ..

إن الكارثة باتت وشيكة جدا في ظل سعار الرأسمالية الذي لا يخبو ولا تفيد منه بشكل كبير إلا دول الشمال..أما البقية الباقية من دول الجنوب والشرق أوسط فهي كبش الفداء الذي يضحي بنفسه من أجل حياة الغير ..إن البلدان النامية تدفع الثمن غاليا نتيجة هذا الإحتكار الغربي ..إنها هي من ستدفع فواتير استهلاك الغرب إن لم تقيظ مضجعه ..إنها القصة الآن تماثل حكاية أصحاب السفينة الذين أرادوا أن يحدثوا ثقبا في طابقها الأسفل باعتباره الجزء المخصص لهم غير آبهين أن ذلك الثقب سيغرق السفينة بطوابقها كاملة ..

إننا الآن في صراع من أجل البقاء ..البقاء هنا لا يقتضي القدرة على استغلال الطبيعة ولكن على عقلنة هذا الإستغلال ..البقاء يقتضي التضحية والتنازل والقناعة والإعتدال والوسطية ولا يقتضي حب الطمع والجشع والأنانية ..البقاء ليس للأقوى ..البقاء لمن يوظف بعده الإنساني الأخلاقي فذلك هو سفينة نجاته التي قد توصله لبر الأمان ولكن لا تصلح ما أفسدته العقود الماضية 

 

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة