البابا شنودة فقيد المسلمين ايضا

البابا شنودة فقيد المسلمين ايضا


عبد الباري عطوان

لم يحظ زعيم قبطي على مدى الخمسة قرون الماضية ،وربما اكثر، بما حظي به البابا الراحل الانبا شنودة من احترام وتقدير من قبل المسلمين قبل المسيحيين في العالم العربي، بسبب حكمته المرتكزة على ثوابت وطنية لم تتزحزح مطلقا، رغم الضغوط الكبيرة التي تعرض لها من داخل مصر وخارجها.
اعترف انني لم اعرف الانبا شنودة جيدا، ولم التقه الا مرة واحدة في حياتي، وكانت بالصدفة عندما تجاورنا في طائرة كانت في طريقها الى ابوظبي، للمشاركة في مؤتمر حول مدينة القدس المحتلة، ذهبت اليه وصافحته، وعبرت له عن تقديري والغالبية الساحقة من العرب،مسلمين ومسيحيين، لمواقفه الرافضة للتطبيع مع اسرائيل، ومعارضته لاتفاقات كامب ديفيد، واصداره فتوى تحرّم على الاشقاء الاقباط زيارة الكنائس والمقدسات المسيحية في المدينة المقدسة.
الانبا شنودة، الذي كان بصحبة مرافق واحد من اتباعه، اعتقد انه سكرتيره، قال لي انه سيسخر كل حياته من اجل استعادة الحقوق المغتصبة في فلسطين كاملة دون نقصان. وقال باللهجة المصرية المحببة 'الفلسطينيون دول اهلنا واخوتنا، ولا يمكن ان نتخلى عنهم ابدا'. السيد باسل عقل رجل الاعمال الفلسطيني المعروف كان شاهدا على هذا الكلام، حيث كان معنا على ظهر الطائرة نفسها.
مصر والامة العربية بأسرها، وليس الاشقاء الاقباط والمسيحيين وحدهم، منيوا بخسارة كبرى بوفاة الانبا شنودة، وفي مثل هذا التوقيت الحرج الذي تحتاج فيه امتنا الى زعماء افذاذ في قامته، يمتلكون الحكمة والوطنية وبُعد النظر، والحفاظ على الثوابت.
البابا شنودة كان منحازا دائما الى نصرة المستضعفين، ومدافعا صلبا عن هوية مصر العربية ووحدتها الوطنية، وداعيا للتعايش بين ابناء الامة من المسيحيين والمسلمين، لم يتراجع قيد انملة عن هذه المبادئ والقيم الاخلاقية قبل الوطنية، ولهذا استحق عن جدارة لقب 'بابا العرب' دون منازع.
' ' '
ففي الوقت الذي بلغ النفاق ذروته في مصر مدحا بزيارة الرئيس الراحل محمد انور السادات للقدس المحتلة، وتوقيعه اتفاقات كامب ديفيد المهينة، وقف البابا شنودة وقفته الرجولية التي سجلها له التاريخ، وعارض هذه الزيارة، مثلما عارض الاتفاقات المذكورة، وانضم الى قائمة الشرف التي ضمت 1531 من رجالات مصر الذين اودعهم الرئيس السادات السجن، لمعارضته خطوته هذه، وقضى اكثر من 40 شهرا تحت الاقامة الجبرية متعبدا في دير بوادي النطرون.
الّبوا عليه بعض ضعاف النفوس في كنيسته، وحاولوا ايجاد قيادة قبطية روحية بديلة، ولكنه ظل صامدا في مواقفه، قابضا على جمر مبادئه وقيمه، ولم يتراجع مطلقا.
هزات طائفية عديدة تعرضت لها مصر، بسبب غلاة التطرف في الجانبين الاسلامي والمسيحي، حيث جرى احراق كنائس في رأس السنة القبطية، ثم جاءت احداث الزاوية الحمراء، حيث اطلق قبطي النار على مسلم لتفجير فتنة بين ابناء العقيدتين، وتوالت بعدها احداث طائفية عديدة، وكانت حكمة البابا شنودة هي عجلة الانقاذ في معظم الحالات، حيث عمل دائما على التهدئة وامتصاص النقمة، والتعاون بالكامل مع مؤسسة الأزهر.
بعض القوى الخارجية حاولت بدورها مرات عديدة زرع بذور الفتنة، واستخدام الاقباط لتمزيق الوحدة الوطنية، وضرب اواصر التعايش بين ابناء البلد الواحد، ولكن البابا شنودة كان الصخرة الاصلب في وجه هذه التدخلات الخارجية، وحرّض اتباعه على التصدي لها، وعدم الانجرار خلف بعض الاصوات القبطية في الخارج، وفي الولايات المتحدة خاصة، التي جرى توظيف بعضها كرأس حربة في مشروع مشبوه لتفجير حرب اهلية طائفية في مصر الكنانة.
البابا شنودة لم يرفض زيارة الاراضي الفلسطينية المحتلة، ولم يصدر فتوى بتجريم زيارة القدس على اتباعه فحسب، بل انه لم يستقبل مسؤولا اسرائيليا واحدا، حتى بعد استقبال زعماء بلاده لهم، وبعد توقيع القيادة الفلسطينية اتفاق اوسلو.
' ' '
ومن المفارقة ان ينتقل البابا شنودة الى الرفيق الاعلى في وقت يصدر فيه 'وعاظ السلاطين' في الاراضي الفلسطينية المحتلة فتاوى تطالب العرب والمسلمين بزيارة القدس المحتلة ومساجدها وكنائسها، تحت ذريعة الحفاظ على هويتها العربية الاسلامية، ودعم بعض اصحاب 'البسطات' الذين يبيعون بعض السلع التذكارية للسياح في اسواقها، وينسى هؤلاء ان دخل العرب من النفـــط وعوائـــــده يزيد عن 700 مليار دولار سنويا، و'فراطة' هذا المبلغ لا تنقـــذ اقتصـــاد المديــنة المقدسة فقط، بل تشتري معظم الاراضي الفلسطينية، ان لم تكن تحرر فلسطين كلها.
ولعل المفارقة الاخرى التي نتوقف عندها طويلا، وبإعجاب ايضا، ان يكون آخر من قابلهم البابا شنودة قبل وفاته هو الدكتور محمد بديع مرشد الاخوان المسلمين في مصر، في اطار خطة للمرشد لزيارة رؤساء الكنائس كل يوم ثلاثاء، وهي سنّة حميدة أرساها مؤسس الجماعة، ومرشدها الاول حسن البنا، الذي كان يعقد كل يوم ثلاثاء لقاء، يصدر في اعقابه رسالة الى اتباعه تتضمن ارشاداته وتوجيهاته. وكان لافتا ايضا ان الدكتور عمر التلمساني (رحمه الله) المرشد الثالث لجماعة الاخوان، حرص بعد خروجه من المعتقل بعد وفاة الرئيس السادات، على ان يزور البابا شنودة على رأس وفد من الجماعة في معتقله بدير النطرون، بعد ان عزله السادات من منصبه على رأس الكنيسة وفرض عليه الإقامة الجبرية.
رحم الله البابا شنودة، فقد كان من رجال الامة العظام، ورموزها الابرز، ومثالا ناصعا في التعايش والتحابب، والحفاظ على الهوية الوطنية المصرية الجامعة الموحدة، في اشد الظروف حلكة في تاريخ البلاد.
انها خسارة قد لا تعوض، وأملنا ان يواصل خلفه إرثه العظيم هذا، ويسير على هديه، ويتمسك بقيمه، ويبشر بثوابته، ويحافظ على الهوية الوطنية للكنيسة القبطية.

عدد التعليقات (4 تعليق)

1

mouha

لماذا خسارة قد لا تعوض ألا تأمن بوجود لله عز و جل من عمل خيرا يره و من عمل شرا يره كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام صدق لله العضيم. ليس الرجل من يقول كان شنودة بل الرجل من يقول ها أندا و الحيات حتما ستستمر بإرادة لله عز و جل المؤمن هو من يومن بالله و ملائكته و رسله و كتبه و بالقدر خيره و شره و من له شك في هذا فتلك هي الخسارة الحقيقية لنفسه طبعا. و قل إنا لله و إن إليه راجعون.

2012/03/20 - 04:03
2

mouha

لقد شاهدت مراسيم تشيع جنازة البابا شنودة ولكن مع الأسف الوضعية التي ظهر فيها المفقود و هو جالسا على كرسي الموت و على رأسه كومة من الذهب من المفروض أن تكون قيمتها لصالح الفقراء و المساكين تجعلنا نستخلص ما يلي : هؤلاء القوم لا يرحمون حتى موتاهم عوض أن يتركوا الرجل يخلد إلى راحته في وضعية ممددة و محترمة فضلو أن يروه جالسا في وضعية الحي لماذا؟ لأن هؤلاء القوم ببساطة لا يريدون أن يخدموا بعضهم البعض بل يريدون فقط من يخدمهم و لو كان ميتا  (و قل إعملوا فسيرى لله و رسوله عملكم و المؤمنون ) هذه هي الخسارة الحقيقية. الخلاصة : لقد مات شنودة لكن مع الأسف ترك المعقودة

2012/03/21 - 04:24
3

karima

kan baba chooda rajel tayeb...akhla9 3aliya...machi fhal had wlad sou9 molok l3arab khanazeer,,,,rahema lah baba chooda meskin

2012/03/21 - 09:49
4

galak fa9id moslimin

tamtil mab9ach yakal m3ana khas tatbi9 .fa9id moslimin chi 3alim wala imam wala fa3il khayr wala chi moslim li kan mata9i lah galak chnoda fa9id moslimin .

2012/03/22 - 10:07
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات