حكاية سعيد

حكاية سعيد

محمد إبراهيم الزموري

 

صاحبنا سعيد هو مواطن مغربي، لم ينل من السعادة سوى الاسم، كان ككل صباح يرتب خيباته، يصحا باكرا، يرتشف قهوته المرة مع سيجارة من النوع الغير مصنف، يلملم جراحاته الغابرة، و ينظم وقته الرتيب بتنفيذ الأوامر و تجنب النواهي، يجلس على مكتبه الخشبي في الإدارة المغيبة بقرارات ارتجالية، يمارس هوايته المفضلة في محو الذاكرة و معانقة النسيان، فيتغلب عليه التذكر و تصحوا معها أيام الدراسة و الجامعة و طموحات لم يكتب لها الاكتمال، تذكر النضال خطأ ضمن فصائل طلابية محسوبة على أحزاب إدارية، و تذكر حكاية حب صامت عاشها بخياله بكل التفاصيل، تذكر امتحانات الكتابي و الشفوي و المراجعة في الحديقة العمومية، تذكر نصوص الشعر و الغزل و الانتفاضة، و محمود درويش و هو يودع (ريتا) بعدما غلب الوطن على أنانية الحب، تذكر شاي الأم و صباحات لم تعد تتكرر، تذكر فخر الأب بمشروع ابن خنقته المحسوبية و الزبونية، تذكر الأصدقاء الذين رحلوا و الجيران الذين تفرقوا، تذكر و تذكر حتى لم يعد له من الذكرى سوى طعم الغياب.

فصار مشروع الباحث الأكاديمي، مجرد موظف بسرداب الإدارة، يختم بشكل آلي معاملات المراجعين، و يوزع ابتسامات مصطنعة على الزملاء و المدراء و التافهين، يقضي معظم وقته في اجترار الكلمات المسهمة و المتقاطعة، و عندما ينسدل ستار التوقيت المستمر، يختفي وراء قنينات الخمر، كممارسة يومية حتى يعود النفس المتشضية على النسيان، و ليمارس المحو على ذاكرة ترفض الفقدان، يسأله صاحبه عن أحواله، فيجيب: أنا بخير، فقط القليل من وجع القلب، و موجات من الاختناق، و تعكر المزاج و العصبية، و الهذيان و بعض الجروح و الآلام، و أيضا الكثير من الخذلان، يضحك صاحبه الذي بدأ الخمر يلعب برأسه، و يسأله عن أحوال الزوجة و الأبناء، فيجيب: الأبناء ينتظرون دورهم في مسطرة النظام، يعلمونهم الخنوع و الخضوع، و قلة الاستفسار و السؤال، و الكثير من الحفظ و التذكر، حتى ينتجون أجساد طيعة في خدمة النظام، و حتى يكون تأثيث المشهد الدرامي لمنظومة تعليمية لا تجيد سوى صناعة الغباء، أما الزوجة فقد تعبت من واقع الحال و سافرت بتذكرة ذهاب بلا عودة مع المسلسلات التركية، مابين أنقرة و اسطنبول و أزمير، تناجي قصص الحب، و تحاكي أبطالها الوسيمين، بعدما تعبت من التأنيب و التوبيخ و لعن الطموحات المحدودة و الآمال المسدودة، هكذا صارت الحياة يا عزيزي غربة و جمود، يضحك صاحبي و يغير الحوار من ضجر النفس و دواخل الأنا و الأخر، إلى نتائج مباريات البارسا و الريال.

في هذه اللحظة ينتابني هدوء مفاجئ و كريه، حيث يصوم اللسان عن النطق، أدرك جيدا حينها أن سيلا من الدموع يتبعه، و أن عاصفة من الشجون سوف تشن هجمتها على في أية لحظة، فخيباتي استثنائية، ربما هي ضريبة أن تكون طيبا حد السذاجة، فتذاكر النسيان صارت باهضة الثمن، و العمر سمفونية رديئة و مكررة.

هذه بكل اختصار حكاية سعيد، و هي حكاية كل من ينتمي إلى المغرب العميق.

 

عدد التعليقات (1 تعليق)

1

عبد المالك الهواري

كذلك هو حال سعيد

روعة في تصوير المشهد، هذا مشهد يوثق للتاريخ المغربي المعاصر، يوثق للجراءم البشعة التي تمارس في حق الكفاءات المغربية سواء منها العاملة او المعطلة. الشكر اخي الكريم على هذا الإلتزام اتجاه القضايا العادلة.

2016/05/02 - 04:21
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات