قداسة ليلة القدر في السنغال واختلافها بين الطرق الصوفية - المريدية نموذجا
حسن مبارك اسبايس
قادتني زيارة عمل خلال الشهر الفضيل إلى العاصمة السنغالية دكار ، وصادف وجودي هناك العشر الأواخر من شهر رمضان المعظم ، العشر التي يتنافس فيها المتنافسون في العبادة لما فيها من الخيرات والعتق من النار ولتفردها بليلة عظيمة يتحراها المسلمون في الكون كله لأنها"خير من ألف شهر" وهي ليلة القدر.
وما يشد انتباه الزائر لهذا البلد الأفريقي المسلم بنسبة كبيرة تزيد على 95% من سكانه مسلمون، هو ذلك التنافس في إحياء ليلة القدر وطقوس القداسة في الاحتفال بها تختلف بين الطرق الصوفية الرئيسية في البلاد وهي: الطريقة التيجانية( الأوسع انتشارا بين السكان وهي نسبة إلى المؤسس أحمد التيجاني) والطريقة المريدية( وتعني مريدو الله من الإرادة وأسسها الشيخأحمد بن محمد بن حبيب الله بن محمد الخير بن حبيب الله بن محمد الكبير بن سعيد بن عثمانوهو المشهور في السنغال بالشيخ أحمد بمب (بمبا) والملقب أيضًا بالخديم أو خادم الرسول صلى الله عليه وسلم )والطريقة القادرية(نسبة إلى المؤسس عبدالقادر الجيلاني) والطريقة اللايينية ( ويستقر غالبية أتباعها في شمال العاصمة داكار وهي نسبة إلى مؤسسها "سيدنا الإمام لاي " وهناك أيضا حركات صوفية صغيرة مثل حركة نبي الله التي أسسها محمد جورجي سيني جي وتتخذ من منطقة واكام في دكار مقرا لها ثم حركة "سفينة الفقراء إلى الله" التي يقودها سيرين مور تالا ندييغيني لا إله إلا الله.
ومن خلال استفسارنا عن الاختلافات تلك في الاحتفال بليلة القدر فقد تبين أنه في هذا العام مثلا احتفلت المريدية بالليلة في الخامس والعشرين من الشهر الفضيل أي ليلة الخميس 24 إلى الجمعة 25 رمضان، بخلاف التيجانية الذين احتفلوا في السابع والعشرين أي السبت 26 إلى الأحد 27 رمضان كذلك الأمر بالنسبة لبقية الطرق الصوفية الأخرى واختلافها في الاحتفال والتحري لليلة العظيمة في العشر الأواخر من الشهر الفضيل. وتقام الاحتفالات في الشارع العام حيث تتنافس الأحياء والأزقة والحواري في مظاهر الاحتفال من خلال إقامة الخيام الكبيرة المعدة للحفلات والمجهزة بالمنصات ومكبرات الصوت ومصابح الزينة من الإنارة والمصاحف وكتب قصائد شيوخ ومريدو الطريقة التي يتسابق الرجال ممن يعتقد أنهم مريدون مميزون في حفظ القصائد وترديدها فيما تفرش الأرض بالحصير المعد للصلاة والكراسي للحضور ثم تنطلق الليلة بعيد صلاة العشاء والتراويح ، أما النساء فتنخرطن مبكرا في الإعداد لليلة على طريقتهن من خلال التكاتف والتعاون على إعداد الأكل بشكل خاص لهذه الليلة والطبخ بما يكفي لتلبية حاجيات جميع الحاضرين حيث يساهم الكل في تضامن منقطع ويشكل الدجاج الوجبة المحورية في تلك الوجبة.
ولتسليط الضوء على احتفال إحدى هذه الطرق، حضرنا جانبا من احتفالات الطريقة المريدية في المدينة القديمة حيث التقينا السيد أحمد سو رئيس جمعية "وكان حقا علينا نصر المؤمنين" في الطريقة المريدية بحي المدينة القديمة في العاصمة دكار، وهي الجمعية التي منحها هذا الاسم الخليفة الخامس للطريقة المريدية الشيخ سالو مبكي، حيث حاولنا من خلاله الوقوف على بعض من جوانب احتفال الطريقة المريدية بليلة القدر.
يقول أحمد سو ، الذي كان منخرطا في إحياء الحفل عند حديثنا إليه، كما ترون نحن الليلة نحتفل بليلة القدر أو الليلة الكبيرة كما يحلو للبعض هنا أن يسميها، وكما تلاحظ نحن نحتفل بها هذا العام في ليلة الرابع والعشرين من رمضان أي ليلة الخامس والعشرين من الشهر الفضيل، موضحا أن الاختيار لم يكن عبثا بل يأتي بناء على حسابات وضعها مؤسس الطريقة المريدية حيث وضع حسابا مرتبطا بيوم بداية الشهر الفضيل أي أن أول يوم صوم الشهر هو ما يحدد تحري الليلة، وهذه السنة كان الأول من رمضان هو الثلاثاء فإنه بحسب الشيخ المؤسس وحساباته فإن ليلة 24 إلى 25 رمضان هي ليلة القدر!
وأكد أحمد سو أن الاحتفالات الكبرى تقام في مديمة توبا(طوبى) التي أسس فيها الشيخ احمد بمبا الطريقة، وحيث يوجد المسجد الكبير، أكبر مساجد الدولة، والذي يشكل مزارا لكل مريدي الطريقة الذين يأتون ليس فقط من السنغال ولكن من كل بقاع العالم، بحسب قوله، وترأست الليلة هذا العام ابنة المريد السيدة ميمونة مبكي في الجامع الكبير في توبا تنفيذا لتعليمات ووصية الشيخ المؤسس الذي حث المريدين بالحرص على إحياء الليلة وتحريها في العشر الأواخر بحسب الجدول الذي وضعه والحساب التي اعتمده والذي تتحدد ليلة القدر من خلاله اعتمادا على فاتح رمضان المبارك واليوم الذي وقع فيه.
أضاف سو أن الطريقة استمرت بعد المؤسس بواسطة خلفائه من أبنائه الخمسة الذكور الذين كان آخر هم سيرين سالو مبكي الذي بعد وفاته سنة 1997 انتقلت الخلافة إلى أبناء الأبناء من شجرة المؤسس ويقودها الآن سيرين مختار مبكي، أوضح أن المريدية لم يصنفها الكثيرون على أنها طريقة على شاكلة التيجانية، وإن كانت في الحقيقة بشكل أو بآخر تفرعت عن التيجانية، وأن المؤسس نفسه لم يكن يريد أن يسميها طريقة لأنه كان يريدها أن تحافظ على خطها الصافي الغير مرتبط بشخص كما هو حال بقية الطرق الصوفية الأخرى التي تحمل أسماء مؤسسيها كالتيجانية واللايينية والقادرية التي قد تفهم أيضا على أنها إيديولوجيات تتخذ من المؤسيسين مرجعيات لها، ولذلك حرص مؤسس المريدية أن يكون الاسم مرتبطا بالتوجه " مريد الله " وليس بالأشخاص كالارتباط باسمه "الشيخ الخادم" الذي هو لقب المؤسس كذلك " أي خادم الرسول" هو نفسه مارس طقوس التيجانية والقادرية في بداية الأمر التي هي إحدى الطرق الصوفية المعروفة كالقادرية أيضا.
وذكر سو أن مؤسس المريدية خلف إرثا كتابيا كبيرا يحث فيه الأتباع على اتباع الطريقة التي يعتبرها صحيحة تدل على طريق الله وإرادته، موضحا أن الطريقة تعتمد على قراءة القرآن الكريم وترديد القصائد الصوفية للطريقة المريدية التي دونها شيوخ الطريقة ومريديها، كما ذكر أن الاستعمار الفرنسي نال من شيخ الطريقة المريدية ومؤسسها ونفاه إلى الغابون على اعتبار أنه يقيم الجهاد ضد الاستعمار الفرنسي ومكث هناك لمدة سبع سنوات ثم أعاده بعد ذلك إلى البلاد ووضعه تحت الإقامة الجبرية ثم نفاه إلى موريتانيا قبل أن يعود إلى البلاد مرة أخرى حيث وافته المنية وبعد ذلك نقل جثمانه إلى مدينة توبا(طوبى) حيث يوجد مقر الطريقة ومسجدها على بعد 195 كلم من دكار.
ويبدو أن المستعمر ظل يتوجسس من الشيخ الخادم خيفة أنه وأنصاره يخططون للجهاد والكفاح المسلح ولم يأمنوا له إلا بعد أن أكد أنه ومريدي الطريقة لا ينوون إلا جهاد النفس والترفع على الماديات وقد صنفه بعض المؤرخين أنه من أقطاب الصوفية في القرن العشرين لما تميز به من قدرة على رفع سلاح الدعوة وسلاح الدين لتربية القلوب ولم يحمل سيفا ولا بندقية، يضيف دائما الأستاذ أحمد سو.
من خلال ما سبق لا يختلف اثنان أن هناك من البدع والأعمال التي تخالف الإسلام السني الصحيح وهناك معتقدات كثيرة ترجح كفة تقديس الصوفية بشكل أو بآخر للمريد المؤسس لهذه الطريقة أو تلك خصوصا وأن الأمر يتعلق بشريحة عريضة من المسلمين في هذا البلد الأفريقي ، وهنا نتساءل عن دور الإسلام الدعوي في تصحيح المسار وتوضيح الأمور لهؤلاء وبشكل خاص في وقت يتشبع فيه أتباع هذه الطرق الصوفية بالأفكار ويحرصون على تمريرها للأجيال القادمة وترسيخها في معتقداتهم مما يصعب معه التصحيح. فما رأي علماء الأمة؟