بذور المواطنة لا تنمو في مزارع الشك
رجاء الأزهري
على غير ما ألفناه في لغة الرسميات، توجت سهرة تشريعيات 2016 بكلمة عتاب من الوزير حول ما تم من تشكيك في نزاهة الانتخابات وصدقيتها. وقد بدا أن ما أثار حفيظة حصاد حينها صدور ذلك من حزب حصد أكبر عدد مقاعد الفردوس المفقود. ما يعني أنه لم يكن هناك أي داع لزرع مزيد من بذور الشك في نفوس المغاربة. بل استمر وابل الاتهامات يكال على الحيطان الزرقاء ولا زال، حتى بعد أن دقت طبول النصر. فقابلتها، على الفور، ردود وتعاليق تشكك في شك هؤلاء، وستأتي بعدها بلا شك، سنوات من التشكيك في نوايا المعارضة على إثر نقد المعارضة لتسيير مشكوك في أمره. وهكذا يستمر مسلسل الكيل بمكيالين في سبيل تحقيق مصالح ضيقة، وهو ما ينذر بتجفيف ما تبقى من منابع الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة. فتتهالك قيمة الانتماء والعطاء المتبادل. ولات حين مناص.
تعددت منصات النقد ومنابر التشكيك في بلادنا لدى جل التنظيمات التي فوض لها أمر السهر على سكينة الشعب وإسعاده، فأصبحت تمثل وحدات إنتاجية متخصصة في صناعة البروباجوندا وإثارة الهواجس والشكوك. وقد وفرت بذلك مناصب شغل لامشروطة وقارة للاستهلاك والتوزيع إلى حين الإفراج عن سياسة بديلة للتشغيل. فتجد المواطن يستمع لنبض الإعلام ويستمتع بجودة المنتج وقدرته على نشر وعي جماعي بأهمية الشك، والذي صار مرادفا للفطنة السياسية وتنوير الرأي العام. هو نفسه التنوير الذي جعل حزب المقاطعين والملغاة يتربع على أعلى الدرجات في مرقاة الانتخابات. في حين أن من يتكئ على عصا الريب له فيها مآرب أخرى، فكم من حاجة قضيت وتقضى بتركها.
صحيح أن الشك المنهجي بمعناه الديكارتي الإيجابي هو نوع من إعمال الفكر لبلوغ اليقين والحقيقة. لكن عندما تغيب الحقيقة يصبح الشك هدفا لذاته كمذهب وعقيدة. وللشك المذهبي جذور ضاربة في التاريخ، فقد عرفت به طائفة السفسطائيين – أو مموهي الحكمة- التي زعزعت جنبات المجتمع اليوناني وكادت تعصف به. وهذا النوع يعتمد عادة كل أساليب الترهيب المستمر وزرع مشاعر اليأس والانهزامية عبر آليات العبث والمغالطات المنطقية والتلاعب بالمتناقضات. متناقضات لا تختلف عن الثنائيات الغريبة التي يتخبط فيها المجتمع المغربي، من قبيل: (تدبير الأزمة الاقتصادية/ الاحتفاظ بالرواتب العليا والامتيازات)، (نصرة الفقراء والمساكين/ الزيادة في الأسعار)، (الدعوة والورع/ الزنا في الفضاء العام)،(محاربة الفساد /عفا الله عما سلف)، (فضح اقتصاد الريع/ تعليق الحل وطي الصفحة)، (صعوبة الإصلاح بسبب التحكم/ التشبت بالحكم لمواصلة الإصلاح)...
يعالج القرآن الكريم الشك كموضوع ذي آثار سلبية على النفس البشرية، حيث نجد في قوله تعالى : " فما زلتم في شك مما جاءكم به" أن الشك ينزل صاحبه منزلة الجاهل، وقوله : "بل هم في شك يلعبون" فيه إحالة على العبث والضياع، كنتيجة للرهبة والفزع والهم والقلق كما تبين الآية : "إنهم كانوا في شك مريب". وقد ارتبط أيضا بالسلوكات الشيطانية نظرا لكون إبليس هو من زرع أول بذرة للشك والوسواس في نفس آدم وحواء، بزعزعة يقينهما في أمر الله لهما، فكان مصيرهما الطرد من الجنة.
يرتبط الشك في الاصطلاح غالبا بمعاني هدامة كالتمزق النفسي، الاضطراب، توتر العلاقات، زرع الفرقة والفتنة،... بل اعتبره البعض تجريحا وإهانة للمشكوك فيه. كما يلاحظ أن عقيدة الشك تتعاظم خطورتها كلما كبر حجم العلاقات والجهات التي تستهدفها، فأن تصبح مؤسسات الدولة موضع شك لدى المواطن، هو أكبر مفسدة لعلاقة المواطنين ببعضهم ولعلاقتهم بوطنهم. فالنفوس الراقية الحرة تعتبر الشك في الوطن إهانة، والغيرة عليه أمانة.
في علم الاجتماع السياسي، وبالنظر إلى آليات العقد الاجتماعي، يفترض أن تكون الحكومة،كجهاز تنفيذي للدولة الحديثة، هي المسؤولة عن تزكية الشعور بالمواطنة، وإن هي أخلت بشروط العقد، ولم تؤمن الحماية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بما فيها الصحة النفسية والشعور بالانتماء والطمأنينة والسعادة، كان من الطبيعي أن يتراجع الشعور بالمواطنة والولاء لقانون المجتمع-الدولة الذي تم التوافق حوله، وأن يظهر الخطر الذي يهدد وحدة صف المجتمعات أكثر من أي تهديد خارجي.
إن تكريس سلوك الثقة في المؤسسات وإرساء معادلة الحق والواجب، هو الضامن لأمن الوطن وصمام أمانه وسر طمأنينته وصموده أمام رياح الشر القادم من الخارج أو المنبعث من الداخل، وضد كل أمواج التضليل وتطويع العقول. لا يستقيم إذن, أن تعتنق مؤسسات حزبية عقيدة الشك, ولا يقبل من بعض مراكز القرار بالدولة الحديثة أن تبني هذا المذهب على جراح المواطن، لتسوق من خلاله صكوك العدمية وخطاب التيئيس عن وعي أو عن غير وعي. وإن كان هناك من أولويات وجب أن تنضبط لها أوراش تغيير حال الوطن، فينبغي أن يكون أولها مشروع إعادة الثقة وتحطيم بنية الشك، فمايزال لهذا الوطن أفئدة تهوي إليه، وطموح صادق لإطلاق ممكنات أبنائه لصنع غد أفضل.
الطاهر جوال
حاجتنا الى فكر البناء
الأخت رجاء الأزهري....مقالك القيم في غاية الأهمية يخاطب الوجدان المواطناتي و يهدف الى بناء الكيان الايجابي للمواطن الحق مهما كانت تموقعاته,,,,,لمثل هذه المقالات ...مقالات البناء و الأمل تحتاج بلادنا.....أملي أن أستمتع بالمزيد من بنات فكرك....