التاريخ المدرسي في المغرب: عن المخزن وبتفويض منه
المصطفى أيت يدير
تواقتت "فكرة التاريخ" كما صاغها العقل الغربي الناهض، منذ القرن الخامس عشر على الأقل، مع رأي درج على ألسنة أهل الاختصاص، ويحاجج به بقوة، مفاده "يوجد مؤرخون ولا يوجد تاريخ"، يعضد ذلك مسألة أن الناس يصنعون التاريخ وهم غير واعين بذلك كما توحي المادية التاريخية. هذه قضية منهجية يساجل حولها أكاديميا بين أقران يدعون منزلة تخصهم وحدهم ولا يشاركها الأستاذ مع الطالب، لعوز ابستيمي عند الأول وغياب الادراك عند الثاني، يتفق الطرفان حول الغاية ولا يدركان الوسيلة. هذه مجرد إشارة، سنستعين بها بعد حين لنتبين حدود كل من الأسطورة والتاريخ، ولا يهمنا منها إلا الوعي بوجود متبط حقيقي يحول دون نقل التاريخ العالم إلى التاريخ المدرسي بيسر وسلاسة، لكن يكفي أن نعرف منذ البداية أننا أمام "تاريخ موجه" لنحكم على التاريخ كما يدرس في المدرسة المغربية بالمؤدلج. (لمزيد تفصيل يراجع كولينجوود، سيرة ذاتية، 1987، بالفرنسية).
وقبل أن نبرز ما سطرناه في العنوان أعلاه، نوضح مهدا لحظة القطيعة التي من المفترض أن تحصل بين التاريخ والأسطورة، والتي لم تتحقق بتاتا كما يتضح جليا من خلال الوحدات المقررة في التاريخ المدرسي، وإن كان ليس هذا لب مرادنا هاهنا. تصور طفلا يزور رفقة والده قصر فرعون بوليلي، يقف تحت قوس قراقلا فيتساءل. ما جرى؟ فيروي له والده رواية ذات فصول عن شياطين وجان، عن ملوك وأنبياء، عن الحق والباطل، عن الكفر والإيمان، عن ضعف الإنسان وعظمة الرحمان، تمر الأيام ويكبر الطفل ويعود طالبا جامعيا مرافقا أستاذه. يدخل إلى قاعة الحفريات، وتترجم له النقوش بأسمائها وتواريخها، نقول هذا تاريخ وتلك أساطير. لن نزيد عن هذا القول إلا إشارة ثانية، نضيف من خلالها أن التاريخ المدرسي أسطورة صنعت ليسوقها المأجورون عن طيب خاطر أحيانا، وعن غير وعي أحيانا أخرى.
لما يتعلق الأمر بالتاريخ المدرسي، يتساءل الكثيرون ومنهم ما قد نسميهم تجاوزا بالنخبة، عن الفائدة من تدريسه أصلا؟ هذه القضية ترتبط بالنفعية الاجتماعية لأي علم، كأحد الأتافي الأساسية للسؤال الابستمولوجي للعلوم الاجتماعية عامة، لكن لا نلبث أن نتبين أن الأمر يراعى فيه اهتمام واضح للسلطة السياسية الحاكمة من خلال الغاية التي تنشدها لتكوين مواطنين على المقاس. من المفيد أن نعرض الدرس التاريخي في سلك دراسي معين لإثبات ما ذهبنا إليه قبلا. سنصطفي السلك الثانوي التأهيلي لإلمامنا به أولا وثانيا لكونه يعد الطالب الذي سيلج الجامعة بعد الانتهاء منه، وفي أثناء ذلك نبدي ملاحظات موجزة عن الكيفية والوظيفة والغاية المقصودة من بنائه كما هو.
يبتدئ هذا الدرس بالحديث عن الدولة السعدية، وليس المقصود من ذلك إلا إيضاح أن الحكم بالشرف أمر مرغوب فيه، ولا يزال كذلك، ويمضي في اتجاه الحديث عن الحكم القائم حاليا، وهو أمر لا مفر منه، يعتمد الأمر هنا حتما عن النص الذي يوالي السلطة السياسية واستبعاد نقيضه، هذا الإجراء ينافي تماما أبسط شروط التاريخ منهجيا، والغريب أنه يعتمد في نفس التأليف لما يتعلق الأمر بتاريخ غير تاريخ المغرب العلوي، ويجتهد هذا التأليف في بيان أن الدولة من خلال الأسرة الحاكمة لا تأل جهدا في خدمة مواطنيها والدفاع عن كيانهم ووحدتهم، بل لا تتردد في الإصلاح إذا كان ضروريا، وإذا فشل المبرر هو أن المجتمع هو المسؤول، وفي حالة خسارة مواجهة مباشرة مع الآخر يؤتى بنص فقهي للمقابلة بين دار الكفر ودار الإيمان، وأن النصر آت لا محالة، هكذا إلى أن ننتهي في نهاية هذا السلك الدراسي، بمقولة فجة مفادها أن المغرب دخل طور بناء الدولة الحديثة ذات المقومات الشكلية والهيكلية التي لن تسمح أبدا بانهيارها، كالقول بوجود الدستور الذي يراعي الحق والواجب، ووجود فصل حقيقي للسلط وخلاف هذا كثير.
ملاحظات عامة:
- من حيث المنهج: غني عن البيان أن مؤلفي الكتب المدرسية، يتم انتقاؤهم بتوجيه وتحت الطلب، وليس الكفاءة المعرفية والمنهجية مطلوبة، ونحن على علم بمستوى أغلبهم، المطلوب فقط التطبيق الحرفي للتعليمات الفوقية، والاعتراف بمحدودية الاجتهاد، يعزز هذا الرأي، أن التأليف ليس إلا إتماما لسياسة يفوضها المخزن لمريديه، بعد أن مر الأمر من سلسلة مواثيق ولجان وآراء. أكبر فقر يعانيه هؤلاء في التأليف هو العوز المنهجي، فمن الهين مثلا أن نرى الماضي يناقش ويحلل برؤية الحاضر، يكنى هذا الأمر بالدياكرونية، وطالما دعي إلى أخذه بعين الاعتبار في التاريخ. هذا بالإضافة إلى أن المنهج التاريخي المدرسي المتبنى يتنكر تماما للمرجع الذي أخذ منه. ( قارن الحسني الإدريسي مدرسيا مع عبد الله العروي أكاديميا).
- على مستوى الموضوع: نتطرق هنا لنماذج من التحكم في بناء الدرس التاريخي منها مثلا:
بنية الدولة: يجتهد الدرس التاريخي المدرسي في ترسيخ نوع الدولة القائمة، وتثبيت فاعليتها، من خلال اكتسابها لمشروعية نتجت عن توليفة بين الفقه والتاريخ، أو بين الدين والسياسية، وتبيان أن هذا الشكل من الدولة الأقرب إلى الأوتوقراطية أفيد من دولة قائمة على العقد السياسي والاجتماعي.
بنية المجتمع: ليس المجتمع المغربي أولا وأخيرا إلا مجتمع القبيلة، مع أن ثمة رغبة واضحة في إبراز أن هذا الأمر قائم لكن الدولة تعلو عليها، وأن السلطة السياسية هي، ومن تلقاء نفسها وبمن منها، هي
التي سمحت لها بالاستمرار، ولو رغبت في إفنائها لفعلت دون مشقة. وهل يصح الحديث أصلا عن الوطنية والمواطنة في ظل وجود القبيلة، واقعا كانت أم وهما.
مسألة التراب: لم يعد خفيا أن المخزن المغربي خاصة في القرن التاسع عشر، فرط في جزء هام من تاريخه ( للمزيد يراجع أرشيف القرن التاسع عشر في الخزانة الملكية والخزانة الحسنية ومديرية الوثائق الملكية)، وأن مبعوثيه للتفاوض مثلا مع الفرنسيين الموجودين في الجزائر كانوا يتلقون الرشاوي والسلطان على علم تام بذلك، ولم يبادر إلى اتخاذ المتعين، مع أن البيعة تنص على الحفاظ على دود الإيالة المغربية. الأدهى أن بيد المخزن وثائق وقعها سابقا مع العثمانيين لتعيين الحدود بدقة، كان عليه أن يبني موقفه عليها، ولكن احتكار السلطة هو الذي أدى إلى منع كل تنظيم سياسي أو اجتماعي، يقوم بالمهمة بدله. (للمزيد ينظر، جرما عياش، أصول حرب الريف، مترجم).
مسألة السلطة: مارس المخزن السلطة كما بينتها ودافعت عنها كتب السياسة الشرعية والآداب السلطانية، مضمون الحكم هنا يقول، الحكم الجائر أبقى من العدل المهمل، وهو مضمون كرس دولة الغصب وسلطة الواحد، كما لو أن عدل السلطان وجوره قضاء الله نافذ في المجتمع وغير ذلك فتنة. لا فرق في ذلك بين حكم الأولين في القرن السابع عشر وحكم القائمين في يوم الناس هذا.
درس الانتصارات والتغاضي عن الهزائم: بين انتصار وادي المخازن الذي حققه المغرب نهاية القرن السادس عشر وهزيمة إسلي وتطاوين نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان المغرب مهيئا ليفقد سيادته، ضعف توج باستدعاء السلطان في فاس الفرنسيين لحمايته من القبائل الهائجة في الأحواز بعد اقتناعهم بموجبات انفراط عقد البيعة، والحقيقة إذن أن الحماية كانت للسلطان ولم تكن للمجتمع، ويتحمل المستعمر كامل المسؤولية في شكل نظام الحكم القائم حاليا وفي بنية الدولة التي تجمعنا الآن على الأقل. المثير أن الحديث عن الهزائم التي تلقاها المخزن في الداخل ومع الخارج لا يشار إليها، وإذا حصل ذلك فالنصوص التي تبرر الهزيمة هي من صناعة مؤرخي الشرفاء، يؤجرون بالمنصب أو بالجاه المتوارث.