المثقف الحقيقي والمثقف المزيف

المثقف الحقيقي والمثقف المزيف

عبد الفتاح عالمي

 

عندنا في المغرب، إذا ما رأى الناس امرأة متزوجةً بشخصٍ ضعيف الشخصية وهي تفعل ما يحلو لها دون أن تأبهَ لوجوده، فإنهم يقولون عنها بأنها تجعله '' دَفَّةً''؛ أي أنها تحركه في الاتجاه التي تهوى كما يحرك صاحب القارب الدفة من غير أن يحصل أيُّ استعصاء أو أي اعتراض. وبمنتهى الصراحة،فنحن المواطنون لسنا إلا دفَّةَ الحكومات المتعاقبة. فمن المعلوم أن الإنسان مسيَّرٌ من خالقه؛ لكن أن يكون مسيَّراً من الخلق، فهذا شيء غيرُ مستساغ. فالإنسان ليس حيوانا؛ كما أنه ليسَ آلةً. نعم، هناك قوانين يجبُ أن تُحترمَ حرفياً. لكن ليس هناك قانونٌ يسمح بأن يفرض عليك شخصٌ ما أن تسكتَ ولا تعبِّرَ بما يُخالجُ نفسك. فحرية التعبير هي أمرٌ ليس لأيٍّ كان السلطة عليه. فالطير تغرد بكل حرية ولا يمنعها من ذلك مانع، والحمير تنهق بكل حرية ..إلا الإنسان، فإنه يُمنعُ في حالات كثيرة من الكلام أو الضحك أو حتى البكاء أو اللعب... وهذا شيء لاعقلاني في حد ذاته. فتصور أن حتى الشيطان لم يمنعه الخالق من التعبير عن رأيه، وترك له الحرية في أن يفعل ما يشاء إلى يوم يُبعثون. وللتذكير فقط، فلم تعد هناك معارضة، ولم يعد هناك كُتاب نضاليون ولم يعد هناك مثقفون مهووسون بحرية التعبير؛ فكأنما أُلجِمَتِ الأفواهُ وكُمِّمَتِ الأصوات...فخشعتِ الأصوات، فلا تسمعُ إلا همسا؛ وتجافتِ الأقلامُ عن القراطيس وجفَّ الحبر... هناك، على مرأى العين حصان طروادة...ظاهرُهُ الأمن وباطنهُ العذاب... نعم، بإمكانك أن تقولَ ما شئتَ. بإمكانك أن تصهل وتدمدم وتُرغي وتُزبد...وفي نهاية هذه الفورة الهرقلية، ستجدُ أنك كنتَ تصهل في بيداء مقفرة مظلمة، وحيدا منبوذا...فيعود إليك وعيك حسيراً منكسراً...فتنزوي في خيالك، تنسجُ فيه ما يروق لك من مدنٍ فاضلة ومن تأملات مثالية... إنك أصبحت مثل ذلك الكلب الذي وضعوا حول عنقه سلسلة طويلة وتركوه يقفز ويجري...وحينا يظنُّ أنه حرٌّ وأنَّ عين الرقيب تجاهلته، فيستعدُّ للفرار...وحالما يقطع أمتاراً تخنقه السلسلة... هكذا أصبح المثقف...كلباً موثوقاً...لا هو بالحر، فيعبر وتتفاعل معه العقول...ولا هو بالأسير، فيعبر ليعارض من ألقوا به في الأسر... هكذا أصبح المثقف دَفَّةً...فإن كان البحر مُزبداً هائِجاّ فإنك تراهُم يديرونه في كل اتجاه بعنف وشدة. وإن كان البحر هادئا مطمئنا، فإنهم يرفعون أيديهم عنه ويطلقون له العنان. هذا المثقف الحقيقي... أما المثقف المزيَّف...فيا للعجب!...فإنَّ دعم وزارة الثقافة يصله ولو كان في أستراليا...لأنه من ربابنة السفينة...العفو، من قراصنة السفينة الذين يأخذون الدعم غصبا. هل بإمكانك أن تتحرَّكَ وهم قد وضعوا داخلك بطارية ولديهم أزرار يديرونك بها؟... من المستحيل أن تتحرك آلة نفدت بطاريتها...فأنتَ دائما قابلٌ للشحن...فهم يشحنونك بالمرارة والغصص كلما أعجبتهم أنفسهم أن يفعلوا بك ذلك... أنتَ تُحاربُ الدهر...وتكدُّ وترهق نفسك وتحملها ما لا طاقة لها به؛ وفي الأخير تقدم ذلك المحصول برداً وسلاماً لهم...وقد أعجبني هذا المثل المغربي الذي يقول:'' اخدمْ يا تاعس من أجل الناعس''... فهم دائما نائمون ومحاصيلنا تتدفق عليهم من كل صوب... وهذا السبب الذي جعلهم يشددون الخناق علينا حتى لا نستيقظ من سباتنا ونحبس عنهم محاصيلنا. نحن المُسيَّرون حقيقيون...نعيش الحياة على وجهها الحقيقي... أما الذين يُسيِّروننا فهم أشخاص مزيفون...نحن لا نعرف من يكونون...إذ لو كانوا حقيقيين لكانوا مثلنا لهم أبصار ينظرون بها وآذان يسمعون بها وضمائر توبخهم على ما يفعلون... هم فقط صور نتفكه عليها في الجرائد والشاشات...ونملأ وقتنا بما يفعلون حين لا نجد مواضيعا تلهمنا وتبعدنا عنهم. هم فقط أشباح.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات