مَنْ يَرْحَمُ رجاءَ المُواطِنِ يا خُدَّامَ الخواصّ.

مَنْ يَرْحَمُ رجاءَ المُواطِنِ يا خُدَّامَ الخواصّ.

يونس عقيد

 

ذات مرة قَصدتُ مصحّة خاصةً لطبيب يعالج مشاكل النظر،أدَّيتُ مبلغ مئتي درهم ، حان دوري فذخلتُ. فَتحَ ''الطبيب'' الباب بحركة مُسرعة، أَوْمأ لي بالجلوس .أمرني بقراءة بعض الرموز على لوحته .سأَلني عن طبيعة عملي.أخبرته بذلك وأخبرته بما قاله لي أطباء أخرون قبله، ليهم بالقول اني أعاني مشكلا أخر دون أن يكبد نفسه عناء شرحه لي. أطلق أشعة آلة أفقدتني البصر لِهُنيهَاتِ، ووصف لي دواءا بعد أن جرب عدساته على أعيني ،والتي لم أتردد في اخباره بعدم رضاي عنها. ''هذه هي التي ستليق بك''. هَمَّ مُجيبا عن عدم رِضاي، مُذكِّرا اٍياي بأحلام مستغانمي وهي تكتب عن اضطهاد السَّواد اللذي يليق بالمرأة. رميت بورقة فحصه غَيْرَ آبِهِ في أحد أركان المنزل.وقبل ذلك كنت قد اشتريت إطاراتِ زُجاجية لدى بائع بالشارع الرحب ، وعند ذخولي الى أحد متاجر النظارات الزُّجاجية، رفض ''الحِرفيُّ'' صناعة نظارات باستعمال تلك الاطارات مدعيا أن الآلة الثاقبة غير متوفرة وأن الاطارات الموجودة لديه كلها تتجاوز قيمتها المالية الألف درهم. عُدت أدراجي مقاوما أشعة الشمس وأنا أتساءل ان كان هذا كل ما أستحق بعد أن أعطيت أجرة يوم كامل من عملي الشاق بالقطاع العام المُتعب للأعين والجسد والنفس، وان كان من الصواب أن أعامل أبناء هؤلاء جميعا بنفس الشكل إن كانوا من زُبنائي.

 

مرة أخرى، قصدت طبيبا أخر. كان عجوزا قد راكم من التجربة الكثير بالقطاع العام. وعلى كبر سنه وارتعاش يديه. بدأ الحوار معي حول اٍكراهات عملي ومشاقِّه، وبقينا نقارن الماضي بالحاضر متحسرين على جمالية الكتب مقارنة بالتعلم الرقمي وأضراره. ولمست أنه أعطاني من اهتمامه ما يغنيني عن العلاج بالكامل. وعلاوة على ذلك، لاحظت أن كل مريض ينال من فحصه الروتيني ما يقارب العشرة دقائق. بعد الفحص بقي يُجرب عدساته مصرا على ضرورة النظر الى الرموز دون تكبد عناء التركيز. خرجت وأنا أتساءل ان كان قد تلقى أيام تكوينه بالسبعينات أسس التواصل وخذمة المواطن، وكيف تمكن من الحفاظ على هدوئه ورصانته والعمل بكل حرفية وأمانة بعد سنوات طوال من الجراحات والتشخيصات والمقابلات، في حين أن الطبيب الشاب الأخر، وآخرين مثله لا يهتمون سوى لتحقيق أكبر كم من الأرباح والزبناء العابرين ، دون الاٍكثراث لمدى رضى المُواطن سواء عن التكلفة التي يؤديها عن خذماتهم أو حتى عن جودة الخذمة نفسها.

 

فقد يدفع المواطن ضعف الفاتورة القانونية لفحص طبي عابر وأبكم دون حتى أن يفهم شيئا من خربشات الطبيب أو عن مضاعفات الدواء الموصوف وكيفية استعماله، هذا إلَّم يتم دفعه عنوة لاجراء جراحة غير ضرورية وجعله يرتجف كالذبابة تحت رحمة أرجل و خيوط العنكبوت. كما قد يؤدي ضعف فاتورة النقل ليجد نفسه أشبه بمن يمتطي أفعوانية مُفزعةً من فرط السُّرعة ومن تَوعُّداتِ السائق بقلب الحافلة عند ترجِّيه بخفضها.وكثيرون أيضا من يجدون أنفسهم مُجبرين على دفع اتاوات اضافية من أجل تعليم خاص لأبنائهم لا يختلف عن العام سوى بالسَّخاء في النقط وسهولة الغش وتجاوز المستويات الدراسية دون خِبرة تُمَكِّن من استشراف مستقبل مهني ناجح.

 

الشيء الذي يزيد من أثر التردي هذا هو كون العديد من هذه الخذمات ترتبط أشد ارتباط بالواقع اليومي للمُواطن،إضافةً إلى عدم توفر هذا الأخير على بديل عنها يُراعي وضعه الحقيقيِّ والمَأْزوم. فهو لا يمكنه أن يستغني عن شيء ما يحمل مُسَمَّى التَّطبيب أو التعليم أو التَّنقل أو غيرها، باعتبارها ضرورات ترتبط بحاجياته الوجودية اليومية. بل وقد يجد هذا المواطن نفسَه مُجبرا مرات عديدة على الخضوع لابتزازات أربابها حين يستفردون به على حين غَرَّة ويصيرون ملجأه الوحيد الأوحد.

 

صَحيحٌ أن الدولة تتحمل مسؤولية كبرى طبعا، فرغم المراسيم ومشاريع القوانين التي تسعى بها لتخليق القطاع الخاص، فان المراقبة تبقى قليلة بالمقارنة مع حجم الخذمات المعروضة، وأحيانا كثيرة تكون تلك المراقبة مُداهِنة وغير صارِمة، سواء فيما يتعلق بكفاءة العمالة المشتغلة بالقطاع ، أو بجودة الخذمات أو حتى فيما يتعلق بالضمانات المُخولة للعمال أنفسهم. فعوض أن ترى الدولة في القطاع شريكا وتدعمه بالخبرة والتكوين المستمر والتوجيه ، تكتفي هذه الأخيرة فقط بالاشراف على التأسيس عبر لجانها ، دون أن تكبد نفسها عناء المتابعة والمراقبة الفعالة والصارمة ،وكأنها في ذلك تُفوض صلاحية الاشراف على القطاعات العامة المُثقِلة لكاهلها لمستثمرين لا يَمُتون بصلة في غالبية الأحيان للميدان الذي يشرفون عليه. وعندما يُوظِّف هؤلاء المستثمرين مدراء ذوي تجربة، فإنهم من البدء يُقيدون عملهم بضرورة الصمت والتجاوز عن الخروقات المعهودة لديهم.

 

ولنضع النقط على الحروف كما وضع ذلك أبو الأسود الدُؤَلي أيام الحكمة في زمن علي بن أبي طالب، سنسرد مُبررا لحسن الفعل علَّ من ضل يهتدي. والحكمة هي أن السائق يمرض بعد طول جلوس وقيادة،وأن الطبيب يغيب عن ابنه حين يُودِعه ليدرس ويتربى تحت أعين المدرس،وأن المُدرس يسقط بين أيادي الطبيب المتفحصة لعِلله بين الفينة والأخرى،وأن الجميع يُحمل فوق نعش أصم لا يسمع من مبرراتنا الواهية سوى تثاقل الجسد المعتل والمُتآكل بتناقضات العُمر، على الجميع أن يعود للوراء ويرى كيف أنَّ الأخلاق كانت جزءا من تاريخ مجتمعنا أيام مجده الأولى.وأن المال وسيلة وليست غاية تبرر القفز على مستحقات البشر . فكما قال واضح الحروف نفسه،أن تنهى عن فعل وتأتي بمثله،عار عليك اذا فعلت عظيم.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات