الكتابُ المقدّس
عادل اعياشي
قد يتبادر إلى ذهن القراء الأعزاء أن الأمر يتعلق بالكتاب المقدس عند إخواننا المسيحيين، غير أن المقصود أبعد من ذلك تماما، فما أعنيه هنا بالكتاب المقدس هو ذاك الرفيق الذي تنطوي بين دفتيه ضروب العلم ومناهل المعرفة، هو ذاك الصديق الحميم الذي يصطحبك إلى عوالم مشوقة وآفاق بعيدة يحكي لك قصص السابقين واللاحقين ويكشف لك عن أغوار العالم وثقافات البشرية، فمتى احتجت إليه تجده بجانبك، وفيا لك، غير متخاذل ولا متهاون ولا متردد، يعطيك بشغف دون أن يسأل، يسهر الليل برفقتك دون تعب ولا ملل، يحفظ سرك، يناجيك بصوتك، يدنو منك بحب، يعانقك بود، يمنحك كينونته ويذوب معك في أفكارك ومتخيلاتك، تكلمه فيجيبك، ترفع من صوتك فينحني لك، يسأل عنك يغار عليك، يحترمك في حضورك وغيابك، انه الكتاب خير جليس في الزمان على قول المتنبي، فكم من نفوس ارتقت بصحبته، وكم من أرواح هُذّبت في حضرته، وكم من عقول استنارت بشمعته وكم من قلوب أضيئت بأحرفه، رغم أننا أهملنا صحبته وأدرنا ظهورنا له راضخين لضغوطات العصر ومنصرفين إلى بدائل تقنية أكثر سرعة وسهولة، إلا انه يظل بامتياز شعلة السخاء، ومنبع المدارك ونبراس الباحثين والعارفين، فلا طعم للعلم إلا من زاده، ولا حلاوة للمعرفة والتعلم إلا في مجلسه، تجده شامخا متواضعا يزين رفوف مكتبك ويصطف باقتدار إلى جانب رفقائه ليمنحوك جميعا إحساسا عميقا بالألفة والعشرة في زمن طغت عليه الوحدة والفرقة.
إنه الكتاب، حين تُقلّب صفحاته فكأنك تُسخر كل حواسك وجوارحك لهذا الكائن المعطاء، فتجد نفسك فجأة واهبا له كل شَخْصِك دون شعور، تلغي ماضيك ومستقبلك، لتُمعن النظر في ما يرويه لك بصدق وإخلاص، ولتسمع صدى وجودك يتردد بين أسْطره وفقراته وفي ثنايا أحرفه الرنّانة، كأنه يقول لك أنا جزءٌ منك احضنّي إليك ولا تفارقني قيْدَ أُنملة، فهو الأصلُ والمراد، مهما ابتعدتَ وسرحتَ وأخذتكَ مشاغل الدنيا الكثيرة، فذكراه تنتظرك بحرقة لتلتقي به في لحظة عشق آسرة لقاء الأحبة، تحت سقف مكتبك، أو في زاوية من غرفتك، أو على شاطئ البحر أو على الرصيف أو في المنام، رائحته الأخاذة تنسيك نسيم الربيع بل كل عطور الأرض، وغلافه المتلون يبدو كلوحة خالدة تنبض بالحياة أجمل من كل اللوحات، يبتسم في وجهكَ كأول نظرة، يتمنى الظفر بصداقتك الأبدية بعد أن يُفْصحَ عن عنوانه وجوهره، يَهوى دِفئ أَصابعِكَ حين تَحمله بِرفق، وتَغمُره السعادة حين تضمّه إلى صدركَ أو تُخفيه بين مَلابسكَ خوفا من أن تمسّه قطرات المطر بسوءٍ أو تلسعْه أشعة الشمس الحارقة، أو حين يهزمك النومُ على الأريكة فتراه في أحلامك برداء الحكمةِ والحقيقة.
قال الجاحظ في مدحه :
نعم الذخر والعُقدة هو .. ونعم الجليس والعُدَّة ونعم النشرة والنزهة .. ونعم المشتغل والحرفة ونعم الأنيس لساعة الوحدة .. ونعم المعرفةُ ببلاد الغربة ونعم القرين والدخِيل .. ونعم الوزير والنزيل
أفبعد كل هذا لا يكون مقدسا !