كلفة الشعبوية..
اسماعيل الحلوتي
خلافا لما عرفته بلادنا خلال مراحلها السياسية الذهبية، من زعماء كبار ذوي كاريزما قوية، ساهموا في إثراء المشهد السياسي بأفكارهم النيرة وخطبهم البليغة، تاركين خلفهم بصمات متميزة تشهد لهم بمواقفهم الجريئة، فضلا عما عرف عنهم من حكمة وتبصر في معالجة القضايا الشائكة، وقدرة عالية على تدبير الاختلاف في أحلك الظروف، منهم من طواه الثرى ومنهم من مازال حيا بيننا. ظهرت في السنوات الأخيرة طينة جديدة من القيادات، تكاد تكون أقرب إلى التهريج والبلطجة منهما إلى السياسة.
ذلك أنه في غياب ديمقراطية حزبية داخلية، أصبح المجال مستباحا أمام نماذج غريبة من الديماغوجيين والغوغائيين، المتجردين من روح المواطنة والحس بالمسؤولية، العاجزين عن الالتزام بالوعود وتجسيد المبادئ السامية، المرجحين لكفة مصالحهم الذاتية والحزبية الضيقة، الذين هم على استعداد دائم لتنفيذ الأوامر والامتثال لإملاءات المؤسسات الدولية، خنق الحريات وقطع الطريق على المناضلين الحقيقيين، التواقين إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، والمتطلعين إلى التنافس الشريف والبناء الديمقراطي. فهؤلاء القادة الجدد، يستمدون قوتهم من خطاب فرجوي تافه، تستعمل فيه الكلمات القوية لإثارة المشاعر وإلهاب حماس الجماهير الشعبية، وتباح فيه أيضا مختلف الألفاظ والأساليب الاستفزازية، المشحونة بالسخرية أو العنف اللفظي. تسندهم شرذمة من الانتهازيين داخل الحزب وخارجه من "أساتذة جامعيين" و"إعلاميين"، ممن يجيدون التصفيق ومباركة القرارات الارتجالية والقاسية. زعماء ينهلون من قاموس ما بات يعرف ب"الشعبوية"، في سبيل بناء مجدهم السياسي واعتلاء الكراسي، لذلك لا يتوانون في الركوب على كل الأمواج مهما كلفهم الأمر من مخاطر. والأفظع أن "الشعبوية" في هذا الزمن الأغبر، أمست تحقق مكاسب هامة لمن يمتلك الشارع ويجيد استدرار عطف الناس بشتى الوسائل، خاصة أثناء الفترات الانتخابية والهجوم على الخصوم السياسيين.
والشعبوية إيديولوجية وفلسفة سياسية، تقوم على مخاطبة العواطف والوجدان، بدل اعتماد المنطق والإقناع في الحشد الشعبي لمواجهة النظام السياسي القائم والجيوب المقاومة للتغيير والإصلاح. وهي ليست حكرا على "السياسيين" ببلادنا، بل أصبحت أسلوبا منتشرا في بلدان العالم، لارتباطها الوثيق بما أضحى يطبع المجتمعات من تحولات. تتأسس على لغة مفهومة لدى عامة الناس، ويرتكز روادها على الديماغوجية والتضليل والمناورات، مستغلين تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، في التلاعب بالعقول ودغدغة المشاعر. ويمكن اختزالها، في كونها خطابا سياسيا قدحيا وعاطفيا، يميل أحيانا إلى التهويل وترهيب الدولة، وكثيرا ما يعزف على أوتار الفقراء والمهمشين، عن طريق الوعود الكاذبة وبيعهم الأوهام، في غياب بدائل وحلول ناجعة لمشاكلهم.
ويعتبر عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة السابق والأمين العام لحزب "العدالة والتنمية"، أحد أبرز رواد الشعبوية في بلادنا، ساعده على ذلك دهاؤه وأداؤه المتميز في تقمص دور المظلوم والمضطهد، الهروب إلى الأمام، التباكي والرقص والتهديد والوعيد... وتمرسه على "فن" الخطابة، المكتسب عن تدرجه في الشبيبة الإسلامية وحركة التوحيد والإصلاح، وخبرته في فرض النظام والاستكانة لقراراته داخل الحزب، حتى وإن كان يبدو في أحايين عدة متشنجا وفاقدا التوازن في علاقته مع ذاته والمجتمع. لاسيما أنه وجد تربة خصبة في أحزمة البؤس وبين البسطاء، موهما إياهم بأن "التماسيح والعفاريت"
و"التحكم" هم مصدر كل الشرور، وأن حزبه هبة ربانية جادت بها السماء إبان "الربيع العربي"، لإنقاذ البلاد والعباد من الفقر والفساد، مدعيا أن أعضاء وقياديي حزبه أنقياء وأتقياء، لا يأتيهم الباطل من أمامهم ولا من خلفهم. فازدادت شعبيته وحظيت خطاباته بالمساندة من قبل الفئات الهشة والفقيرة، التي تعاني من شظف العيش وتمر بحالات نفسية عصيبة في ظل واقع مأزوم.
ولعل من بين ما أهله إلى التفوق على خصومه السياسيين والرفع من شعبيته، هو نجاحه في استدراجهم إلى "ملعبه" لممارسة "لعبة" البلطجة والتهريج التي يتقنها أكثر من غيره ومن أي شيء آخر، وهناك فعل بهم الغرائب والعجائب، حيث بهدلهم شر بهدلة، ولم يستطيعوا مجاراته في كسب ود المسحوقين ومحدودي الدخل وجزء من الطبقة المتوسطة، رغم ما أقدم عليه من إجراءات مؤلمة، تجلت أساسا في الاقتطاع غير المشروع من أجور المضربين، إلغاء دعم المواد الأساسية وتحرير أسعار المحروقات، "إصلاح" نظام التقاعد والتوظيف بالعقدة...
وإذا ما كانت هناك من "حسنات" للشعبوية، جنى الإسلاميون ثمارها خلال ثلاث محطات انتخابية، إذ مكنتهم من الفوز في تشريعيات 2011 و2016، واكتساح المدن الكبرى في الانتخابات الجماعية والجهوية عام 2015، فإنها في المقابل ذات كلفة باهظة، تتمثل في تهديد الحياة الحزبية، إفراغ السياسة من معناها النبيل وتحريف النقاش السياسي عن انشغالات المجتمع، تغييب الفكر الاستراتيجي، الخروج الإعلامي غير المدروس وانعكاساته أحيانا على العلاقات الدبلوماسية، تأجيج الفتن والمعارك الوهمية، تدني الخطاب السياسي والإضرار بصورة المؤسسات الدستورية، بث الإحباط وتنفير المواطنين من السياسة والانتخابات.
فضلا عن تسببها في إعفاء بنكيران من رئاسة الحكومة، لإخفاقه في تشكيل أغلبية حكومية رغم مرور نصف سنة عن تكليفه، وما عقب تعويضه برئيس المجلس الوطني للحزب سعد الدين العثماني من غليان وتبادل الاتهامات بين قياداته. وما تمر به أحزاب أخرى من تصدعات وأزمات قبل الانعقاد الوشيك لمؤتمراتها الوطنية، إذ لم يعمل قادتها سوى على إضعافها وشل أجهزتها والإساءة إلى ماضيها العريق، عبر الاستبداد بالرأي وسوء تدبير الاختلاف... ترى هل تطوي المؤتمرات القادمة صفحة القادة الشعبويين، وتأتي بقيادات تعتمد على العقلانية والحوار الجاد، وتكون قادرة على إعادة الإشعاع للحياة الحزبية والثقة للمواطنين بالعمل السياسي وجدوائية المشاركة في الانتخابات؟
اسماعيل ح.
إلى صاحب التعليق الأول: وافد (ابن اليوم)
ومادام ابن كيران جبلا شامخا قد لا تهزه رياح مقال بسيط، فما الذي يزعجك يا ابن اليوم. أما كان حريا بك أن تلتزم بحسن اللباقة واحترام من أدركهم الخريف؟ ولم لا تلجأ إلى الدفاع عن مثالك الأعلى بالكتابة دون إلحاق الأذى بالمختلفين معك في الرأي؟ ألا تؤمن بالديمقراطية؟ عموما أسأل المولى عز وجل أن يهدينا جميعا لما فيه خير بلادنا، لأننا كلنا معنيين بالإصلاح والتغيير نحو الأفضل... مع أخلص تحيات "ابن الأمس"
وافد
ابن اليوم
يصدق عليك المثل القائل رمتني بدائها وانسلت: ألست أنت من استحمر وسفه فئة عريضة من الشعب فقط لكونها خالفتك في الرأي ولم تصوت على مثلك الأعلى ألست أنت من أساء الأدب حين رميت زعيما بالشعبوية وهو ليس كذلك ألست أنت من خالف أولا قواعد الديموقراطية ألست أنت من دافعت عن أفكارك ولكن بجرح من خالفك في الرأي نصيحتك أولى لنفسك وقديما قيل يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم أتنهى عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم من خالص قلبي أقول آمين لدعوتك وأن يسخرنا الله جميعا لما فيه خير للبلاد والعباد لولا أن لازمة ابن كيران صارت في كتاباتك مثل لازمة "سقط الصاروخ في الحديقة" وهي تحكي نكتة لعلك تعرفها، لما كنت رددت عليك وشكرا لو قبلت الاختلاف من غير تجريح ولا سب ولا إهانة ولا... كما عهدت في أبناء الأمس لك خالص التحية يا ابن الأمس
وافد
ابن اليوم
ابن كيران مضى وقد أبرأ ذمته، فما بالك لازلت ترتدي تلك العباءة القديمة التي لا تناسب قياسك، فأجدك تتعثر كلما خطوت، وقد أدركك الخريف. عده من الموتى واذكره بخير، وانس أمره ... حدثنا رجاء وأنت الخبير عن العماري ودور المعاضة من غير تنميق ولا مجاملة كما سبق منك في مقال فائت. حدثنا عن الفتيت وكيف سقطت طائرته في الوزارة بعدما كان في ولاية الرباط وحدثنا عن أخنوش وكيف استطاع بقدرة قادر أن يجمع كل وزارات المال والنفوذ، وحدثنا عن ... أما عن الشعب فلا تنصب نفسك عنه وليا، فله ملك يضمن حقوقه وله حكومة وله رأي قاله في الانتخابات، أما أن تسفه كل الشعب أو جله لاختياره فبئس ما فعلت، تدعو إلى الديموقراطية وها قد عاكست توجهاتك فلم ترتد عنها. لا تتمايز عن منطق الدولة العميقة في شيء. نحن أبناء اليوم فحدثنا عما ينفعنا اليوم أو غدا وما مضى فات ولا تتعلل بكون حديثك درس حتى لا يتكرر "ضلال" الشعب. فالمغاربة لا يجتمعون على باطل ولا شرير ولا شعبوي. الخير من شهد له الناس بالخير والشرير كذلك بنفس المقياس والميزان. وابن كيرانك جبل شامخ رجل حر أصيل وبشهادة الخصوم، فلا تحاول عبثا المس بخيريته.