"الدبلوماسية المغربية في افريقيا وآفاق التعاون جنوب جنوب"

"الدبلوماسية المغربية في افريقيا وآفاق التعاون جنوب جنوب"

أحــرمــــوش جمـــال

 

أعطى صاحب الجلالة الملك محمد السادس للسياسة الخارجية للمملكة اتجاه أفريقيا نفسا قويا، حيث لم يتوان منذ توليه مقاليد الحكم، في تدعيم وترسيخ هذه العلاقات، وجعلها واحدة من المحاور الرئيسية للسياسة الخارجية للمملكة، والارتقاء بها إلى مستوى الشراكة

 

الحقيقية الفاعلة والمتضامنة، التي تندرج في إطار أوسع للتعاون جنوب-جنوب، وهنا استحضر على سبيل المثال لا الحصر، الزيارات الناجحة التي قام بها سابقا صاحب الجلالة للعديد من البلدان الأفريقية، والمبادرات الرامية إلى تعزيز العلاقات مع شركائنا، وتوقيع 500 اتفاقية خلال عقد من الزمن مع أكثر من 40 بلدا.

 

إنها الرؤية الملكية التي تقوم على أربعة أسس، وهي الجذور التاريخية، والتضامن الفعال والاستماع لطموحات الأشقاء الأفارقة، وهو التزام متواصل لفائدة التنمية الاجتماعية والاقتصادية في أفريقيا. وكذا هي رؤية متجددة، يتعين على الدبلوماسية المغربية تنفيذها.

 

وأمام الظروف العصيبة التي يعيشها العالم وخاصة المنطقة العربية على الصعيد السياسي ، والتي تعرف انسدادا تاريخيا واضطرابا قِيميا ، ونكوصا خطيراً أفضى إلى أوضاع مأساوية في بعض بلدان المنطقة ، وإلى قلق وارتباك كبِيرين في السلوك والوعي السياسي والثقافي ببلدان آخرى ، جعل الكثير من المكتسبات الديمقراطية المتحققة موضع صراع وتصادم من جديد.

 

وهو ما يدعو بالضرورة إعلان الحاجة إلى التنوير بمعاييره الفكرية والحضارية والتربوية التي تتطلبها المرحلة السياسية والحضارية بالمنطقة العربية ، خصوصا شمال إفريقيا والشرق الأوسط[1].

 

وفي ظل هذا الوضع المتأزم تحاول البلاد تنصيب نفسها كشريك ذو مصداقية في تعاملاتها مع مختلف القوى الدولية ، هذه الأخيرة لا تجد مانعا في الدخول في برامج ومشاريع مشتركة تتنوع بين التمويل والاقتراح والمواكبة ولتنويع علاقاته الدولية في كل المجالات التفت المغرب إلى أكثر من جهة منها الدول الافريقية والتي تعتبر فضاءً للتعاون وتبادل الخبرات والتجارب.

 

أولا: انفتاح المغرب على محيطه الإفريقي

 

من عاد إلى من؟ هل عاد المغرب إلى الاتحاد الإفريقي ، أم عاد الاتحاد الإفريقي إلى المغرب؟ في الواقع "لم يغادر المغرب إفريقيا" يوما ، كما قال الملك مُحمّد السادس في رسالته السامية الموجهة إلى القمة الإفريقية المنعقدة في كيغالي عاصمة رواندا.

 

كان المغرب في كلّ وقت في قلب إفريقيا على الرغم من انّه في شمالها. فبالرغم من كون المغرب قد غاب عن منظمة الوحدة الإفريقية سابقا والاتحاد الاقريقي حاليا ؛ فإنه لم يفارق أبدا إفريقيا.

 

" [...] فالمغرب بلد إفريقى بانتمائه ، وسيبقى كذلك. وسنظل نحن المغاربة جميعا في خدمة إفريقيا... وسنكون في المقدمة من أجل كرامة المواطن الإفريقي واحترام قارتنا"[2].

 

لقد صدق تنبؤ الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه. فالمغرب أوفى بوعده.

 

فبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود ، لم يسبق لإفريقيا أن كانت في صلب السياسة الخارجية للمغرب وعمله الدولي ، أكثر مما هي عليه اليوم.

 

فالمغرب كما جاء في الرسالة السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس الموجهة إلى القمة ال 27 للاتحاد الإفريقي المنعقدة بكيغالي بتاريخ 17/07/2016، ((( تمكن من بلورة نموذج فريد وأصيل وملموس للتعاون جنوب – جنوب، مكن ليس فقط من تعزيز مجالات التعاون التقليدية ، كالتكوين والدعم التقني ، وإنما طورها لتشمل ميادين إستراتيجية جديدة ، كالأمن الغذائي ، وتطوير البنيات التحتية... )) )[3].

 

فعندما صرح الملك الراحل في إحدى خطبه بأن " المغرب شجرة غصونها في أوربا وجذورها في إفريقيا " فلِأن المكون الإفريقي ظلّ دائما حاضرا في الشخصية والهوية المغربيتين ، وتوضح مجموعة من المؤشرات أن أشكال التعاون المغربي- الإفريقي في مختلف الميادين و المستويات آخذة في التطور والتوسع ، فمن الناحية البشرية التي تعتبر عماد أية إستراتيجية تنموية فقد جعل المغرب من تأهيل وتكوين الإنسان الإفريقي أساس سياسته التعاونية مع مختلف الدول الإفريقية ، بحيث تم تكوين العديد من الأطر في مجموعة

 

من التخصصات الجماعية والتقنية ، نهيك عن وضع الخبرة التي اكتسبها المغرب في عدة مجالات بالتعاون مع شركائه التقليديين رهن إشارة الدول الإفريقية.

 

هذا التعاون يضم مجموعة من المجالات تتوزع بين ؛ القطاعات الانتخابية ، التربية والتكوين ، قطاعات إجتماعية وخدماتية ، وفي هذا السياق تبقى الإدارة الجماعية فضاء أساسي للتعاون والتعاضد ، بهدف توطيد وتطوير علاقات تضامن بين المدن والسلطات الجماعية وتبادل المعلومات حول التجارب الإفريقية في مجال التنظيم الجماعي ، وتنمية الديمقراطية المحلية والعمل الجماعي في إفريقيا مع تحسين البيئة الحضرية والمساهمة في حماية الطفولة والمرأة[4].

 

وفي سياق التفاعل مع المحيط الإفريقي احتضنت مدينة مراكش القمة الإفريقية للمدن والحكومات المحلية[5] التي حضرها حوالي أربعة آلاف مشارك ، كنموذج للتعاون جنوب-جنوب يروم ترسيخ اللامركزية والتشاور حول التنمية المحلية بدول القارة السمراء ولتقديم حلول واقتراحات لتحديث الإدارة الجماعية.

 

هذه القمم أثمرت[6] نتائج تمكنت من التأسيس لحركة مدنية على المستوى المؤسساتي والتنمية المحلية بها ، وتجاوز حاجز اللغة وتحقيق الاندماج في الفضاء الإفريقي، وقد مكن هذا الحوار من استقطاب جهات حكومية لمثل هذه اللقاءات قصد توفير الخدمات الأساسية للإنسان الإفريقي ، كما انتقلت القمم من التأسيس والبناء إلى الحضور الفعلي و المساهمة في تحقيق أهداف الألفية خصوصا بعد نجاحا في تأسيس منظمة المدن والحكومات المحلية المنعقد بباريس سنة 2004.

 

وفي هذا الصدد فقد شكل الخطاب السامي الذي ألقاه جلالة الملك في افتتاح المنتدى الاقتصادي المغربي-الإيفواري بأبيدجان حدثا استثنائيا بكل المقاييس ، إذ أرسى معالم لشراكة إستراتيجية متينة ومنفتحة ، يقول جلالته ''[...] إن إفريقيا قارة كبيرة ، بقواها الحية وبمواردها وإمكاناتها. فعليها أن تعتمد على إمكاناتها الذاتية. ذلك أنها لم تعد قارة مستعمرة. لذا ، فإفريقيا مطالبة اليوم بأن تضع ثقتها في إفريقيا.

 

فقارتنا ليست في حاجة للمساعدات ، بقدر ما تحتاج لشراكات ذات نفع متبادل. كما أنها تحتاج لمشاريع التنمية البشرية والاجتماعية أكثر من حاجتها لمساعدات إنسانية.

 

وعلى إفريقيا أيضا ألا تظل رهينة لماضيها ولمشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحالية. بل عليها أن تتطلع لمستقبلها ، بكل عزم وتفاؤل ، وأن تستثمر في سبيل ذلك كل طاقاتها. وإذا كان القرن الماضي بمثابة قرن الانعتاق من الاستعمار بالنسبة للدول الإفريقية ، فإن القرن الحادي والعشرين ينبغي أن يكون قرن انتصار الشعوب على آفات التخلف والفقر والإقصاء [7]".

 

وقد جاءت زيارة عمل وصداقة لصاحب الجلالة إلى جمهورية الكوت ديفوار في ماي 2015 لتأكيد ما تم الإتفاق عليه في المنتدى الاقتصادي المغربي-الإيفواري.

 

وفي هذا الصدد أوضح البيان المشترك الذي صدر بهذه المناسبة أن هذه الزيارة "تندرج في إطار تعزيز الشراكة القوية والطموحة والمربحة للطرفين القائمة بين البلدين في كافة القطاعات وكذا تمتين المشاورات السياسية المنتظمة بين قائدي البلدين بشأن القضايا الإفريقية والدولية".

 

وسجل البيان أنه خلال السنوات الثلاث المنصرمة تطورت الشراكة بين البلدين بشكل كبير حيث تم التوقيع على نحو 50 اتفاقية تعاون من ضمنها العديد من الاتفاقيات التي تهم الاستثمار وإنجاز مشاريع تنموية[8].

 

وإلى جانبك ذلك سعى المغرب من خلال بوابة المركز الإفريقي للتدريب والبحث الإداري للإنماء CAFRAD إلى تقوية علاقة التعاون في مجال الإدارة الجماعية عن طريق وضع برامج تكوين لأطر الدول الإفريقية الشقيقة ، ودعم أنشطة الحكومات في مجال تنمية القدرات الإدارية والخدمات ، وتأهيل الموارد البشرية وتطوير الشراكات الإقليمية والدولية وتبادل الخبرات وإعداد الدراسات والبحوث.

 

ومن ثمرة هذا التعاون استفادة أكثر من 487 إطارا إفريقيا من التكوين المستمر مع استكمال الخبر بالمدرسة الوطنية للإدارة ابتداءً من سنة 1983 غير أنها عرفت تطورا كبيرا

 

خلال السنوات الأخيرة خاصة بعد الزيارة الملكية التي قام بها جلالة الملك محمد السادس إلى عدد من الدول الإفريقية خلال سنة 1014 ( السنغال – مالي - الكوت ديفوار – غينيا بيساو...) ، التي توجت بإبرام العديد من الإتفاقيات ، كما تم إِيفاد مجموعة من البعثات مكونة من خبراء و مسؤولين مغاربة إلى مختل إداريات الدول الإفريقية لمساعدتها في مجال تدبير الموارد البشرية والإدارة الالكتروني ، غير أن التعاون جنوب-جنوب لا يقتصر فقط على الدول الإفريقية فقط بل يتعداها ليشمل مجموعة من الدول الأخرى من دول عربية وآسيوية والجنوب أمريكية. والتي تربطها بالمغرب عدة شراكات واتفاقيات ، وعليه نتساءل عن مدى انخراط المغرب في هذا التعاون وما هي الأبعاد الدولية لهذا التعاون؟

 

ثانيا: البعد الدولي للتعاون جنوب- جنوب

 

إن سياسة التعاون الخارجية للمغرب جنوب-جنوب لا تقتصر على الفضاء الإفريقي فقط بل تتعدى ذلك لتشمل دول عربية وأسيوية وغيرها من الدول ، وفي هذا الصدد فقد نجحت الجمعية المغربية للجماعات المحلية (الترابية) على سبيل المثال في نسج علاقات شراكة مع العديد من المدن والمنظمات العربية والآسيوية والجنوب أمريكية[9].

 

وتعتبر المؤتمرات العربية في هذا الشأن مرجعا مهما ، يتم من خلالها التطرق للقضايا العربية ومستقبلها ، ولعل أبرز مثال دال على ذلك ؛ نجاح مؤتمر مراكش ما بين 04-07 يوليوز 2007 حول موضوع " شراكة فعالة من أجل تنمية مستدامة للمدن" في تعبئة شركاء دوليين كبار منهم برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-HABAIT) والجمعية الدولية للمدن الفرانكفونية وهيئة الشراكة الأور- متوسطية.

 

ولتعزيز التعاون البين-القاري شاركت مجموعة من المنظمات والمؤسسات الإقليمية التابعة للأمم المتحدة في مشاريع تعاونية لتحسين خدمات الإسكان والبنية التحتية الحضرية، ومن بين هذه المنظمات نجد:

 

* الإتحاد الإفريقي ؛

 

* جامعة الدول العربية ؛

 

* الإتحاد الأوربي ؛

 

* منظمة المؤتمر الإسلامي ؛

 

* مصرف التنمية الإفريقي ؛

 

* مصرف التنمية الأسيوي.

 

وعموما ؛ يمكن القول أن تعزيز روابط التضامن والتعاون بكل أبعادهما مع القارة الإفريقية التي تشكل محورا رئيسيا من السياسة الخارجية المغربية كما حددها صاحب الجلالة الملك محمد السادس تعبيرا متجددا على الطابع الإفريقي للمغرب الذي يندرج في سياق استمرارية تاريخية عمادها العديد من المبادلات المثمرة على مستويات عدة.

 

وتشكل الزيارات المتعددة التي قام بها جلالة الملك محمد السادس إلى مختلف الدول الإفريقية دليلا على الإرادة الملكية لترسيخ وتعميق جذور “الشجرة المغربية” بشكل أكبر في القارة التي ينتمي إليه بفعل الروابط المنسوجة عبر قرون من التاريخ.

 

فالتعاون جنوب-جنوب، يقول جلالته "[...] ليس مجرد شعار أو ترف سياسي ، بل هو ضرورة ملحة تفرضها حدة وحجم التحديات التي تواجه بلداننا ، بحيث لا يمكن معها الاعتماد على أشكال التعاون التقليدية ، التي أصبحت غير قادرة على الاستجابة للحاجيات المتزايدة لشعوبنا..."[10].

 

كما دعا صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى " [...] فضاء لإرساء نموذج للتعاون جنوب - جنوب فعّال، تضامني ومتعدد الأبعاد، يقوم على الاستثمار الأمثل للطاقات والثروات التي تزخر بها بلداننا"، مشددا على ضرورة أن يتحرر هذا التعاون من إرث الماضي، وأن يتوجه لخدمة المصالح الإستراتيجية لهذه البلدان.

 

ان التعاون مع الدول الإفريقية لم تعد خيارا بل ضرورة حتمية لتمكين بلدان الجنوب من الاستجابة لتطلعات شعوبها من أجل تنمية بشرية عادلة ونمو اقتصادي متواصل، وهذا يتأتى من خلال إقحام متنامي لمتدخلين مغاربة جدد في جهود نقل المعرفة وتبادل الخبرة .

 

وعموما فإن مشروع أنبوب الغاز الذي يربط بين المغرب ونيجيريا يمثل ترجمة واقعية لتوجه الرباط الاستراتيجي نحو أفريقيا وخطوة فعالة تبرز مدى الحرص المغربي على التعاون جنوب جنوب وخلق رؤية استثمارية وموارد جديدة تعمق الانفتاح المغربي على جميع الأصعدة تجاه دول القارة الأفريقية.

 

المشروع الغازي الضخم من الأهمية بما كان لان طول الانبوب يبلغ حوالي أربعة آلاف كيلومتر ويعبر عشر دول ليتصل في نهايته بالسوق الاوروبي، كما قال اصحاب المشروع الذين يرون فيه نموذجا "للتعاون بين دول الجنوب".

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات