المشرق العربي ولعبة الأمم

المشرق العربي ولعبة الأمم

عبد اللطيف الركيك

 

بعد نهاية حكم أوباما ونهاية سياسة أمريكية معينة في التعاطي مع قضايا المشرق والخليج العربيين، يبدأ مشروع استراتيجي أمريكي جديد في المنطقتين في ظل التوافق الأمريكي الروسي. وقبل رصد التحولات الحاسمة التي تعتمل حاليا في المنطقتين معا وجب التركيز على ملامح السياسة الأمريكية الروسية الجديدة من خلال التركيز على بعض البؤر التي تتبدى فيها تلك السياسة:

-ففي سوريا تم التوافق على بقاء النظام على أساس أن التعامل مع ثورة مسلحة ضد نظام استبدادي قد تحول بفعل تدويل الصراع وتنافس مصالح الدول الكبرى إلى حرب ضد الإرهاب، أي ضد القسم الأكبر من الثورة السورية التي دعمها الغرب وبعض الدول العربية في البداية قبل أن يتم الانقلاب عليها بعد أن هيمنت عليها الجماعات الاسلامية. وبصرف النظر عن الحل النهائي الذي سوف يسمح ببقاء النظام وفي نفس الوقت الاستجابة لطموحات بعض القوى السورية التي لا تزال تحظى بدعم الغرب، فإن الحل سيقوم في نظرنا على تقاسم المصالح بين روسيا وأمريكا وإيران. فروسيا ضمنت بقاء قواعدها العسكرية في سوريا لمدة نصف قرن. أما أمريكا فتلعب ورقة الأكراد، بينما سيتم السماح بترسيم الوجود الإيراني كضامن لمواجهة الاسلام السياسي السني في استغلال فج للصراع المذهبي. مشروع دولة كردية في شمال سوريا أو على الأقل منطقة حكم ذاتي مرحلي يبدو أمرا واقعا. في حين ضمن النظام السيطرة على مناطق العلويين والحزام السني في الوسط والشمال سيما بعد السماح له بالسيطرة على حلب تحت نظر الجميع. أما جنوبا فسوف ينعم السنة بوضعية خاصة مستفيدين من قرب المنطقة من إسرائيل. هذا ما يوحي به اتفاق الروس والأمريكيين على تحييد المنطقة. لكنها منطقة بدون موارد وستكون محاصرة بالوجود الإيراني الذي سيكون دائما.

-في اليمن: حرصت إدارة أوباما على عدم تمكين السعودية وتوابعها من السيطرة على شمال اليمن وغضت الطرف عن تدفق الأسلحة إلى الحوثيين الشيعة. لكن السعودية حظيت رغم ذلك بفرص وفشلت فشلا ذريعا في حسم الموقف عسكريا لأن الدعم الإيراني جعل الحوثيين لا يكتفون بالحفاظ على شمال اليمن بل جعلهم دائما في وضعية هجوم وأعطاهم القدرة على استنزاف السعودية على حدودها. وهذا ما جعل المسعى العسكري السعودي يتراجع من الرغبة في تحرير اليمن والحفاظ على أمن حدودها ومنع فتح جبهة على حدودها تجري فيها حرب مع إيران عبر الوكيل الحوثي الى مجرد سيطرة على جنوب يمني يسعى الى الاستقلال بدعم خفي من دولة عربية تشارك السعودية حربها في اليمن. وبذلك تكون إيران قد اختطفت الجزء الشمالي من اليمن بما يضمن لها السيطرة على عدد من المضايق الهامة في البحر الاحمر.  قد لا يكون الفشل السعودي في اليمن فشلا عسكريا صرفا بل فشل سياسي استراتيجي مقابل نجاح ايران في إقناع روسيا والغرب بأهمية دورها في اليمن بسبب الثقة في الاسلام الشيعي كرادع للاسلام السني الذي أصبح مرادفا للارهاب في نظر الغرب والشرق. وهذا ما سيسبب وجعا دائما للسعودية.

-في العراق: وبدعم روسي أمريكي إيراني تم التمكين للدولة الشيعية في العراق من خلال ما يسمى بالحرب على الارهاب. وترافق ذلك مع انخراط السعودية والامارات في دعم الحرب الدائرة في الموصل بعدما كانتا تعتبرانها مجرد غطاء لحرب طائفية ضد السنة. ما جعل السنة يقفون لوحدهم لمواجهة مصيرهم ضد جيش عراقي شيعي ومليشيات شيعية وقوات إيرانية لمدة أكثر من عقد من الزمن من تدمير المدن وقتل السنة وتهجيرهم وتغيير التركيبة الديمغرافية لاكثر مناطقهم لصالح الشيعة والاكراد. إذن استفاد الشيعة من توافق القوى الدولية والاقليمية لاقامة دولة طائفية تابعة لايران وهو ما يشكل نصرا مبرما لنظام الملالي في إيران ينضاف الى النصر المحقق على الجبهة السورية. في حين حقق الأكراد مشروعهم القومي دون تكلفة مستفيدين من الحماية الغربية، ويتجه الاكراد قريبا لتنظيم استفتاء تقرير المصير ما يجعل قيام كيان كردي في شمال العراق مسالة وقت فقط. في المحصلة هيمن الشيعة على آبار النفط في الجنوب، بينما سيطر الاكراد على حقول النفط في الشمال، بينما سيعاني السنة من المزيد من البؤس لوقوع مجالهم في صحاري قاحلة وبعض المناطق الزراعية الضيقة.

-في لبنان: الدولة التي يدار شأنها عبر السفارات الاجنبية أعطي الضوء الاخضر لايران لفرض نوع من الحماية على البلاد عبر مليشيات حزب الله على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية.

-في ليبيا : تتجه القوى الكبرى بتأثير مصري سعودي إماراتي نحو التمكين للجنرال حفتر لمواجهة المليشيات الاسلامية التي شكلتها ودعمتها قطر سابقا في مسعى القضاء على الحكومات التي شكلتها التيارات الاسلامية في طرابلس.

من الفائز في كل هذه الترتيبات الغامضة ومن الخاسر؟

كتركيب لما سبق من تفصيلات وكإجابة عن الأسئلة السابقة يمكن إبداء الملاحظات التالية مع التركيز على الوضع المستقبلي للسعودية.

-لأول مرة يحقق الروس اختراقا كبيرا للمنطقة بفضل الأدوات الإقليمية التي اصبحت تتوفر عليها روسيا، بل باتت تتقاسم النفوذ مع الغرب في الخليج والمشرق العربيين. 

-بالنسبة للأمريكيين فقد غيروا سياساتهم السابقة بالمنطقة والتي تم ترسيمها على مدى عقود. التحالفات الأمريكية في المنطقة تغيرت كثيرا بتغير النظرة الأمريكية لأدوات النفوذ التقليدية. دول كانت تستفيد من وضعية تشبه كثيرا وضعية المحمية الأمريكية لم تعد كذلك. المصالح الأمريكية لم تعد تتحقق بالضرورة بشكل خطي عبر شراكات ثنائية قارة، بل من خلال اللعب على ورقة التناقضات الإقليمية. مع حرص الأمريكيين على استمرار تدفق البترول وحماية أمن اسرائيل ومحاربة الإرهاب حسب الفهم الجديد.

-بالنسبة  لإيران فهي تسير عمليا نحو تحقيق أحلامها القومية مستفيدة من الخدمات التي تسديها للأطراف الراغبة في محاربة الإسلام السني تحت مسمى محاربة الإرهاب. حزام إيراني ممتد من إيران فالعراق فسوريا فلبنان ثم البحر الاحمر بات يلتف حول أعناق عدد من الدول العربية مع وجود قنابل ديمغرافية جاهزة للتفجير عن بعد في أكثر من بلد خليجي. إيران صارت وحشا إقليميا يتحكم في رقاب الجميع.

-بالنسبة للعرب سنجد ان أم الدنيا باتت غارقة في أزمتها الاقتصادية تتاجر في المواقف وتستجدي المعونات. الاردن خارج التغطية تماما. تبقى السعودية لوحدها أمام فوهة البركان لمواجهة المخططات الإيرانية المتساوقة مع الشرق والغرب دون أن تجد عرضا تنافسيا تقدمه للأطراف الدولية أو بضاعة من غير البترول تبتاعها لهم لعلهم يتخلون عن الغريم الإيراني ويديرون بوصلتهم باتجاهها. لكن السعودية تجد نفسها وحيدة تحارب على جبهات متعددة في غياب العون والمد. لا بل أصبحت تعاني في المدة الأخيرة من صداع يسببه مسمار صدأ مغروز في خاصرتها اسمه قطر. دولة شقيقة، لكنها تلعب لعبة خطرة وأكبر بكثير من حجمها، وفي اتجاهات متداخلة ومعقدة ومتشابكة تسير في اتجاه مناقض على طول الخط للمصالح السعودية. لقد لاحظنا كيف غيرت السعودية مؤخرا سياساتها في المنطقة وبدلت تعاملها مع الأطراف الدولية. فقد انتقلت من موقف الدفاع في قضية محاربة الإرهاب إلى تبني موقف هجومي من خلال تقديم عرض سخي للدول الكبرى في قضية محاربة الإرهاب يكون أفضل من العرض الإيراني في مسعى سحب هذه الورقة من يد الغول الفارسي. ابتدأت السعودية باتهام قطر لوقف السمسرة التي أصبحت تقوم بها الأخيرة لصالح اكثر من طرف. ردت قطر باستدعاء خمسة آلاف جندي تركي وعناصر من الحرس الثوري الإيراني غير بعيد عن الحدود السعودية. ما كشف الجانب الخفي في تحالف التيار الإخواني الذي تتبناه قطر وتركيا مع إيران الشيعية الإثني عشرية.

وعلى سبيل الختم، يمكن القول بأن التحولات الحالية في المشرق والخليج العربيين تسير في صالح روسيا وأمريكا وأخواتها والعراب الإيراني، بينما يتم الاستفراد بالدول العربية السنية الواحدة تلو الاخرى لرسم خريطة سياسية وديمغرافية جديدة بالإقليم تكون في صالح القوى التي تجيد لعبة الامم: لعبة المصالح.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة