في معاييرالانتقاء
بن لحمام بوجمعة
المسوغات التي أوردتها نقابة التعليم العالي لرفض مذكرة كتابة الدولة الأخيرة ، بشأن الاستعانة بدكاترة التربية الوطنية في سد الخصاص من الموارد البشرية بالجامعة ، تنطلق من نظرة ضيقة لا ترى الوضع في أبعاده كافة .ويخشى إذا ما خضع السيد الصمدي للضغوط ، ألا تجد النقابة ، ولا أي جهة أخرى معنية بحل المشاكل المتفاقمة في تعليمنا العالي ، بديلا يضمن لها حلولا مماثلة ، خاصة لمعضلتي الخصاص في الموارد البشرية والميزانية. وأقوى دليل على صحة هذا الرأي أن كل جهود إصلاح تعليمنا الجامعي – وضمنها ما تبذله النقابة نفسها – وعلى المدى الطويل من السنوات ، بل العقود ، التي مضت ، لم تفلح إلى يومنا في تخليص الجامعة من مشاكلها حتى انتهينا إلى الوضع الراهن ، الذي لم يعد بعده سوى الكارثة والانهيار لتعليمنا الجامعي .. فهل نعمى عن الصواب إلى هذا الحد ، ونستمر في الخبط في جدار الوهم والمستحيل ؟ !!
إن إلحاق دكاترة التربية الوطنية بالجامعة هو خير حل ضمن الحلول الأخرى المفترضة ، وليس سديدا أن تقف في وجهه نقابة التعليم العالي لأنها تعلم ، قبل غيرها ، أنه الحل الأمثل لتخطي مشكل الموارد البشرية بدلا عما تلجأ إليه من أصناف العرضيين الذين لا مؤهل لهم للتعليم الجامعي ؛ وخاصة حملة الماستر وطلبة السنة الثانية دكتوراه !! لأن لهؤلاء – دكاترة التربية الوطنية – مناصبهم المالية ، وأكثرهم خارج السلم ؛ فتوفر الجامعة أجور التدريس العرضي التي تنهك بها ميزانيتها. وأيضا فهؤلاء ، في معظمهم ، يمارسون التدريس العرضي بالكليات المختلفة ؛ فهم ذوو خبرة بالتعليم الجامعي وينجحون في هذه المهمة ، بل إنهم يمتلكون خبرة نوعية تتمثل في تمرسهم بالبيداغوجيا وديداكتيك الفصول التي تنقص أساتذة الجامعات . هذا فضلا عن كون معظمهم له مؤلفات ودراسات محكمة عديدة في المجلات المختلفة عربيا ودوليا ، ويمارسون البحث العلمي باستمرار رغم إكراهات التعليم الثانوي..
والحق أن موقف هذه النقابة ، بل موقف كل الوزارات التي سبقت ، والتي لم تستفد من هذه الفئة ، هو موقف ينم عن نظرة قاصرة ؛ فإن إجراء الإلحاق هو إجراء تعمل به كل الدول بما في ذلك الدول العربية ؛ بل إن أكثر دول الخليج تعمل به بشكل دوري فلا تدع الحاصلين على الدكتوراه الجدد من أساتذة الثانويات يستمرون بالتواجد بهذه المؤسسات فتنقلهم إلى الجامعة. وتونس في الموسم الجاري لجأت هي الأخرى إلى هذا الإجراء ، وكانت تلجأ إليه قبل ذلك ، هي وغيرها من جيراننا ، في السنوات التي مضت ، فهو تقليد معروف ومعمول به.
ثمة بالنهاية أمر أكثر أهمية هو ما كان يجب على نقابة التعليم العالي أن تركز عليه ، وهو معايير الانتقاء ، فتتعاون في ذلك مع إدارة الجامعة حتى يتم إلحاق من هم كفء وأهل من دكاترة التربية الوطنية ؛ الذين سيمثلون مكسبا للجامعة وإضافة نوعية لأساتذتها . وإذا كان صحيحا أن الحاملين للدكتوراه من أساتذة الثانويات لا يصلحون جميعهم للتدريس بالجامعة ، فإن أحدا لا يمكنه الجزم ، بالمقابل ، أن عددا منهم – هو الأكبر بكل تأكيد – يملك كل المؤهلات المطلوبة للتدريس بالجامعة ، بل وللنجاح في هذه المهمة أكثر من كثيرغيره . ولذلك لا يجب ، سواء على النقابة أو إدارة الجامعة ، أن تكون عدمية فيدفعها العناد إلى عدم رؤية حل ليس بالإمكان غيره في الواقع ، وهو خير الحلول في حالته.
إن ما يجب إذن أن ينصب عليه التفكير والعمل هو التمكن من تحديد معايير واضحة ودقيقة (كالملف العلمي والأقدمية في الشهادة.. إلخ) يجري على أساسها اختيار وانتقاء من هو أصلح للتدريس من أساتذة الثانويات الحاملين للدكتوراه . وهذا أمر نعلم أن الجامعة ونقابتها لا يعجزهما إذا سعتا إليه بالنزاهة المطلوبة بعيدا عن أمراض المحسوبية والحزبية والزبونية.. وما في قبيلها ، التي شوهت وفضحت جامعتنا وجعلتها أكثر جامعات العالم فشلا وفسادا . هذا ويجب أن تتحسب كتابة الدولة لأمر لا نظنه يخفى عنها وهو أن عددا مهما من هؤلاء الدكاترة لا رغبة له في الجامعة ، ويفضل البقاء في مؤسساته قريبا من سكناه وأبنائه وامتيازاته المختلفة.