حراك السيف
طه لمخير
ما أحسب المتاظهرين في ريف المغرب يعرفون ما يريدون، ولا أرى كثيرا منهم إلا متحمسا لفكرة عرقية هائما بها حد الثمالة، وإذا سألت أكثرهم لماذا تخرجون وقد شرعت الدولة في تلبية مطالبكم الأولى، وأهداكم الملك خطاب العرش لم يسبق قبل أن خصص لجهة دون غيرها، لو سألتهم لما أحارك أنْطَقُهُم جوابا يقنعك أو حجة تلجمك.
وكأني ببعضهم يريد غدا قبل حلول الغد، ويقيس الزمن بالنسبة له بالأيام والشهور، ويقيسه للدولة بالساعات والثواني، ويتمنى لو يَنتهِبُ الزمانَ انتهابا فينال الممكن كله وحتى شيئا من المستحيل...ولو جمعنا أبنية الأماني من أوهامهم ومثلناها وكشفنا عنها الغطاء لرأينا ثم جمهورية المستقبل التي لا يحكم خرائبها إلا الصعاليك وبارونات القنب الهندي وأمراء الحرب...وهي صور ومشاهد تمر بين أنفسنا وأفهامنا في هذا الحراك الغريب في تعابيره وألوانه وأعلامه، وما هو في ما يظهر ويتوكد مع الأيام إلا دابة للحمل وركوبة ومطايا لأغراض مخيفة.
أهو الإفراج عن المعتقلين؟ «مسمار جحا» الذي يتعلل به الخارجون إلى الطرقات المعطلون سير الحياة؟، ماذا لو أن الدولة اعترضت سبيل العدالة وكسرت كبرياءها وأفرجت عنهم، ثم عادوا إلى أشد مما كانوا عليه، أتعود فتعتقلهم؟ «لعب الدراري»، الدولة القوية لا تفرط في هيبتها ولا تقبل بابتزاز قرارها، وهل إذا هي أطلقت سراحهم سيكف أولئك عن الخروج، أم سيكون الأمر مغريا بالتمرد والجراءة أكثر على سلطة الدولة ومؤسساتها ؟.
إن النفس الإنسانية لا حدود لطيشها ونزَقِها خصوصا إذا سكنها عقل غلب عليه الجهل وأعماه التبخيس والتيئيس، لا يتصور الخلاص مما هو فيه من هموم إلا في ثورة دموية تنفجر من حوله، وأنها الوسيلة إلى تحقيق طِمَاحِه ورغباته، فتنقلب لديه الموازين إلى زيغ عجيب، فيرى التخريب وإضرام النيران والتعدي على الممتلكات هو تعبير متمدن عن المطالبة بالحقوق، ومن الشرف والثورية بحيث يسمو به صاحبه إلى مراتب الأبطال والزعماء... فيبيح لنفسه التعدي والاستعداء، ويصف قوات الأمن بالقمعية والمتوحشة إذا هي اعتقلته وكفَتْ الناس شرور أعماله.
فهذا صنف من الناس لا يرى الحياة إلا ساحة وغى، ولا يرى نفسه فيها إلا سيفا يقطع و طبلا يقرع... وصنف يزعم عند نفسه أنه مصلح ثائر جعلته قنوات وصحف الشامتين والمتربصين «أيقونة»، يرى أن يوما من أيامه كاليوم من أيام الله في خلق السماوات، فهو متنبىء الريف الذي يستحْيِ المشاعر العرقية، ويغيّر الطباع، ويجدد الانتماء و الولاء، ثم يريد أن يمشي بمناصريه فوق الناس وفوق الوطن وفوق التاريخ نفسه.
أنا لا ثقة لي في هؤلاء القادة العرقيين الذين أكلوا تاريخ الريف أكلا، ولا يحفظون منه إلا لحظات خاطفة تسوِّغ لهم ما نذروا له أنفسهم، لا أثق فيهم لأن حراكهم صورة من غرورهم وأنانيتهم، وصورة من محدوديتهم في الحيز والعنصر، ومزايدة الجزء على الكل. فهندسة هذا الحراك «كهندسة الشوكة كُلُّها من أجل آخرها»، واتجاهه ومنطقه يقضي عليه أن يتقبض ويتقوقع في حدود ذاتيته الصغيرة وكيانه العرقي المنفصل عن باقي العناصر والمكونات، وهذا سر عجزه وضموره داخليا لأنه يتوهم انفصالا وقطيعة عن باقي العناصر لا حقيقة لها، وبدَّل صورته الاحتجاجية الأولى إلى شكل دخله الغلط من كل جهاته، واقتحمته تيارات خارجية معادية للمغرب ك«دولةٍ أمة» ما انفكت تدفع بهذا الحراك إلى حفرة مجهولة.
الريف ليس هو إقليم «الباسك» ولا إقليم «كاتالونيا»، ولا هو «جنوب السودان» أو «اسكوتلندا»...الريف قطعة عزيزة من هذا الوطن، تاريخها من تاريخه ودماؤها في عروقه وهي ملك لجميع سكانه. فالمغربي إذا ذهب إلى دكالة فهو في
أرضه وإن كان من وجدة، وإذا حل بسوس فهو في أرضه وإن كان من طنجة، وإذا سكن في الحسيمة فهو في أرضه وإن كان مسقطه العيون...
وأما الذين يخدعون العامة ويستلبون عقولهم ويمنونهم بأحاديث من الوساوس والأوهام، ويحرضون على زعزعة الاستقرار في الداخل، وإخوانهم في الخارج الذين يأتون إلى المغرب يقضون لبابة مصيفهم في أمن وأمان ثم يعودون إلى مهاجرهم ل«يشبعو في بلادهم سبان»، ويلوكون ألسنتهم بالسخط والنَّفرة من أديم الأرض ولون السماء، هؤلاء الذين سماهم جلالة الملك في خطاب العرش «العدميون»، لأن الحياة لن تهنأهم حتى لو كان بساط الأرض من أوراق الورد، وكانت مزابل هذا الوطن بساتين وحدائق بابلية، وحتى لو كانت كلاب تلك المزابل...طيورا وطواويس.