المواطنة والرعية...تطابق أم تضاد؟
بدر بية
غالبا ما تثير مسألة الرعية والمواطنة نقاشا شائكا بين التيارات السلفية و التيارات التنويرية، والتي شكلت أحد أسباب المواجهة المستمرة التي لا تكاد تتوقف فصولها حتى اليوم.
فلا ريب في أن للمصطلحين سياقات وبيئة حاضنة لكل منهما، ويرجع ذلك للاختلاف والتمايز بين الشرق والغرب، نتج عنه اختلاف في الرؤية الموجهة للإنسان في كلا المجتمعين.
فبعد أن كان المجتمع الأوربي يرزح تحت وطأة القيود التي كانت سائدة في مراحل سابقة، شهد تغيرات مهمة داخل بنيانه المجتمعي، كان لها وقع كبير في مسار النهضة والتقدم. حيث أسس ذلك لبداية عصر التنوير والإصلاح، ينبني على استخدام العقل في حل المشاكل الاجتماعية والسياسية، ومعالجة التخلف والانحطاط المسيطر على المجتمع الأوربي حينه.
من القيم الأساسية التي حملها منعطف الديمقراطية في الأزمنة الحديثة، تبرز قيمة المواطنة بما هي تحول في الرؤيا للفرد، فبعد أن كان الأخير "رعية " في مملكة أو إمبراطورية أو تابع لكنيسة، أضحى، بعد موجة من الصيرورات الثقافية والاجتماعية والسياسية، مواطنا في دولة ملؤها المساواة بين الناس دون تفاضل على أساس ديني أو عرقي كما جرت به الأمور خلال العصور الوسطى في أوربا وغيرها (1).
أما في المجتمع الإسلامي فإننا نلفي اختلافا عميقا مقارنة مع النسق الإصلاحي الذي شهده الغرب، ويرجع ذلك للمرجعية التقليدانية التي عملت على تغييب العقل لصالح التراث.
المواطنة في الفكر الغربي: السياق والتجليات
تعتبر حركة النهضة منطلقا حاسما في تاريخ أوربا، حيث انتقلت بموجبه من عصر التخلف والخرافة إلى زمن العلم والمعرفة وحقوق الإنسان الذي كان يتعطش إليه الجميع. إذ عم النقد على نطاق واسع توخى من ورائها روادها غربلة الماضي لبناء المستقبل.
ويرجع هذا إلى سلسلة من التراكمات المعرفية التي شهدها المجتمع الأوربي، الذي استلهم من الفلاسفة اليونانيين والرومان أسس ومبادئ الفكر، وذلك عبر ترجمت مؤلفاتهم إلى اللهجات الأوربية ليفهمها العام والخاص، مما ساعدهم على بناء نظرياتهم، فتم انتقاد الجمود الفكري الذي كانت تتبناه الكنيسة، إذ اعتمدوا على العقل والمنطق عوضا عن الوهم والتقليد، وذلك في سبيل خدمة الإنسان لتطوير ذكائه واجتهاده وعبقريته.
وقد شكلت الثورة الفرنسية منعطفا حاسما في الصيرورة الإصلاحية الغربية، وذلك من خلال تنصيصها على مركزية حقوق الإنسان والمواطن بالموازاة مع التطورات العلمية، حيث تجسدت بذلك ثقافة التعدد والعدل والمساواة وغيرها من المبادئ التي نادى بها الفلاسفة، وفي مقدمتهم مهندس العقد الاجتماعي "روسو" الذي اعتبرت أفكاره بمثابة إنجيل للثورة الفرنسية.
إن فكرة المواطنة شديدة الصلة بالحداثة السياسية والفلسفية والفكرية، ويتأكد هذا عندما نقف عند المنجزات الفكرية السياسية للحداثة: القانون الطبيعي، وحقوق الإنسان، والعقد الاجتماعي، والفصل بين السلطات، والنظام السياسي الدستوري، والمجتمع المدني، والديمقراطي، فلا مجتمع مدني بدون مواطنة، ولا مواطنة بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية حقيقية بدون مواطنين بمعنى الكلمة، يمارسونها وينظمون على أساسها علاقاتهم مع بعضهم البعض من جهة، وعلاقاتهم مع الدولة من جهة أخرى (2).
وتبعا لذلك، فإن مفهوم المواطنة شكل عماد القيم الغربية، خاصة وأنه جاء نتيجة لنضالات وتضحيات هذه الشعوب التي كانت تتوق إلى الانعتاق من ظلمات الاستبداد، حيث تم التنصيص على أهميته، بجعله مبدأ لا يقبل المساس، نظرا لمحوريته في بناء مجتمع الحداثة والعقلانية، مرتكزه العيش المشترك، وفضيلة الحوار، والإيمان بالفرد وبدوره في مختلف المناحي الحياتية بعيدا عن وصاية الجماعة.
وتستند المواطنة في مراميها على المساواة في الحقوق والواجبات، ودولة فصل السلط، والإطار المؤسساتي، والمشاركة السياسية، وضمان حقوق المعارضة والأقليات، ومرجعية القوانين وسموها...، والتي تعتبر عصب الديمقراطية، ومدخلا لتأسيس مدنية الدولة، ينعم فيها المواطن برغد العيش المادي والمعنوي.
لذا، فإن فكر الحداثة يتركز بشكل أساس على قيمة الحرية والاستخدام الأقصى للعقل بمفهومه النقدي ومنح الفرد مكانة متميزة داخل المجتمع في إطار دولة حديثة تشكل نظاما عقلانيا يتولى تدبير الشأن العام استنادا إلى أرضية
تمثيلية. ذلك أن الديمقراطية كنظام مدني تقتضي أن لا أحد في المجتمع يملك الحقيقة السياسية(أي ما يصلح وما لا يصلح لخير وسعادة ونمو المجتمع) بل إن تلك الحقيقة تتكون شيئا فشيئا عن طريق المناقشة المتواصلة ومحاولات إقناع البعض الآخر.(3)
موقع المواطنة في المتن الإسلامي..!!
إذا كانت المواطنة قد شكلت أس أساس الديمقراطية الغربية، فإن هذا المفهوم-المواطنة- وبالرغم من تداوله في المجتمعات الإسلامية في العقود الأخيرة، إلا أن ذلك لا يعني أن الفرد يتمتع بحقوقه كما في التجربة الغربية، إذ أن مفهوم "الرعية" أو "الرعايا" بصيغة الجمع لا زال حاضرا في المشهد الإسلامي حتى اليوم.
ففي المتن الإسلامي تنشط كلمة "الرعية" التي تحمل في طياتها دلالات تنم عن المرتبة التي يحتلها الإنسان، مقارنة بالغرب. فقد شكل التحالف بين السلطان والفقيه فكي كماشة في مواجهة العامة واستتباعهم فكريا وسياسيا، نتج عن ذلك غياب الوعي والنشاط والحيوية في مجتمع مغلوب على أمره ومسيطر عليه أو على أقل تقدير محتقر ومهمل، يهيمن فيه الخضوع ويبرز فيه الاستسلام.(4)
ولا شك أن استخدام مصطلح "الرعية" في الفضاء الإسلامي، يحضر من خلال التنصيص الديني، والممارسة الاستبدادية للحكام، حيث يحاول الفقيه السلطاني أن يتقرب إلى الحاكم المستبد بدعوة من يسميهم "الرعية" لطاعة الحاكم في المنشط والمكره، وذلك إما تقربا إلى عطايا الحاكم، أو طمعا في توفير أرضية صالحة من أجل إقامة "شريعة الله وأوامره". وفي المقابل فإن الحاكم
المستبد استصحب التأويل الفقهي الذي يحث "الرعية" على الطاعة، بهدف استدامة الفكر وتسويغه، وقمع أي خروج عليه من قبل المعارضة...ذلك أن تعبير "الرعية" ظل شديد الصلة بقيم مفرطة في المحافظة (التمييز بين المؤمن وغير المؤمن، غياب المساواة بين الرجال والنساء، تحريم الخروج على الحاكم، قمع الحريات السياسية، فرض طاعة الحاكم والخضوع له...) ومن ضمن هذه القيم تبقى مسألة الطاعة من أهم الأسس التي يرتكز عليها الإيغال في اعتبار الإنسان رعية يشبه الحيوان، والابتعاد عن المواطن المنبعث من الإنسان.(5)
فالطاعة حسب المنطق الفقهي تسبق العدل والشورى والحقوق وغيرها، ولا خروج عن الإمام حتى وإن فسق في أعماله كأخذ الأموال، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، وشرب الخمر، ونحو ذلك، وجعل الطاعة واجبة بالرغبة أو الرهبة، في الصراء والضراء، لتجنب "الفتنة والفوضى"، وأن الصبر على طاعة الحاكم الجائر أولى من الخروج عليه.
فالصبر والطاعة في ظل هكذا نظام حتمية لا مفر منها، وكل محاولة للنقد ستؤدي بصاحبها للهلاك المحقق، حيث تصير "الرعية" مستعبدة ومكبلة تعامل معاملة دونية، مثقلة بالواجبات في مقابل الحقوق التي تبقى مرتهنة لما يجود به الحاكم "بأمر الله".
في المجمل، لا مفر ولا محيد عن اعتناق الحداثة، باعتبارها السبيل الوحيد للقطع مع دابر التخلف، والانعتاق من أغلال وقيود الوهم الذي ينخر "العقل الإسلامي"، وذلك عبر غربلة الماضي لبناء مستقبل مشرق، شعاره الإنسان أولا وأخيرا.
المراجع المعتمدة:
1-عبد الرحيم العلام، الملكية وما يحيط بها في الدستور المغربي المعدل، دفاتر وجهة نظر(33)، مطبعة النجاح الجديدة، ط1، 2015، ص 152.
2-نفس المرجع، ص 153.
3-مصطفى الغرافي، الحداثة والفكر التاريخي عند عبد الله العروي، وجهة نظر، عدد 65 صيف 2015، ص.ص 61-62.
4-نفس المرجع، ص 61 .
5-عبد الرحيم العلام، مرجع سابق، ص.ص 166-167.