الحلف الثلاثي الغربي وضرب أهداف سورية
الحسين بوخرطة
أمام المعاناة التي تحملها النظام السوري في السابق بسبب استعمال الأسلحة الكيماوية في الحرب على الأرض السورية واستهداف المدنيين بالغازات السامة، يميل عدد من التحليلات الإعلامية إلى اعتبار إقدام نظام الأسد على إعادة استعمال نفس السلاح، وفي هذا التوقيت بالذات، بمثابة قرار جنوني. إنه حدث بارز في مسار تطور الأحداث عسكريا، مسار أحرز فيه النظام قبيل التغطية الإعلامية لمعاناة المدنيين، بدعم قوي من روسيا وإيران وحزب الله، تفوقا ميدانيا واضحا توج بالسيطرة على الغوطة الشرقية. وكانت النتيجة المنتظرة ما بعد انفجار الصواريخ المحملة بالغازات الكيماوية، اتهام الأسد بخرق القرار الأممي في شأن هذا النوع من الأسلحة الفتاكة المحظورة دوليا، وتم مباشرة بعد ذلك إعلان تشكيل الحلف الثلاثي من أمريكا وفرنسا وبريطانيا، ليتم توجيه ضربة لأهداف سورية بعناية شديدة، أي بدون أن يحدث ذلك أي اصطدام يذكر لا مع روسيا ولا مع إيران ولا مع حزب الله. كما تميزت فترة الإعداد للضربة بصمت بوتين، ليصرح بعد وقوعها أن تكرار مثل هذه الضربات من خارج الأمم المتحدة، سيؤدي إلى فوضى في العلاقات الدولية، وليعلن البرلمانيون بعد لقائهم الأسد أنه يتمتع بمعنويات مرتفعة. كما تمت الإشارة من طرف روسيا والغرب إلى صعوبة حل الأزمة السورية من داخل الأمم المتحدة.
وقبل هذا الحدث بأيام معدودة، وكما كتبت في مقال سابق، استقبل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وفد "قوات سوريا الديمقراطية" في قصر الإليزي، بحيث تمحور النقاش حول أوضاع الكرد بعد مغادرتهم مدينة عفرين بدون مقاومة، وطرحت مسألة التخوف من امتداد العمليات العسكرية الإستراتيجية لتركيا إلى منبج (شمال شرق سوريا). وبرزت عبارة هامة في بيان باريس بحيث تم ربط هذا الاستقبال بحرص فرنسا على استقرار المنطقة في إطار ما تمت تسميته بإيجاد "صيغة حكم متوازنة" من خلال حل سياسي. فبقدر ما يمكن أن نستحضر هنا فرضية غضب تركيا بسبب هذا الحدث، بقدر ما يمكن أن نفترض أن كل هذه الترتيبات تدخل في إطار إستراتيجية غير معلنة للحفاظ على مصالح الغرب في إطار الصراع الكوني الجديد. فبالوجود العسكري التركي، الذي امتد إلى عفرين، وبنشر قوات فرنسية في الشمال الشرقي السوري، سيكون الأكراد لا محالة في منأى من هجوم نظام الأسد مدعوما بالقوة العسكرية الروسية والإيرانية وحزب الله. ليس في صالح الأسد الدخول في حرب مع تركيا (تركيا ترتدي اليوم قناع عدم الرضا على أمريكا وفرنسا لدعمهما للأكراد لما لعبوه من دور في محاربة داعش)، كما من الصعب استيعاب فكرة مهاجمة الروس للجيش الفرنسي على الأرض السورية. إنها معطيات هامة جدا، ولا يمكن أن لا تكون تحت مجهر القوى المتصارعة كونيا خصوصا إذا أضفنا إلى ذلك فرضية وجود هاجس غربي لتحصين الشمال السوري لضمان حضور تياراته الكردية والعربية في التسوية السياسية. إنها التسوية التي لا يمكن أن تنجح في نظر المتتبعين ما لم يتم توافق القوى العظمى على حل يجسد مصالحها من خلال التيارات المتحالفة معها سوريا وإقليميا، والتي يجب أن تساهم في بناء المؤسسات في سوريا أولا، وفي بناء مشروع شرق أوسط جديد ثانيا. فما تم عرضه إعلاميا كخبر هام يوم 18 أبريل 2018 في شأن تنظيم خلوة في استوكهولم ما بين القوى الغربية وروسيا بحضور الأمين العام للأمم المتحدة يسير في اتجاه هذا المعطى الأساسي المؤطر للعلاقات الدولية في هذه الفترة الحساسة من تاريخها.
ارتباطا دائما باستعمال الأسلحة الكيماوية المحظورة، كان حدث محاولة اغتيال الجاسوس المزدوج سيرغي سكريبال وابته يوليا بالغاز الكيماوي السام، واتهام روسيا بارتكاب هذه الجريمة الشنعاء، دافعا أساسيا وسببا كافيا مكنا رئيسة وزراء دولة بريطانيا من تدويل هذه القضية وكسب تأييد حلفائها التقليديين، لتتحول التطورات الدولية بعد تعرض المدنيين السوريين لهجوم بأسلحة كيماوية في الغوطة الشرقية إلى مستجد سياسي بارز عجل تفعيل قرار إعلان تشكيل الحلف الثلاثي السالف الذكر على أساس توجيه الضربة المعلومة، ضربة لم يعتبرها أحد بالمفاجئة. إنها تطورات، إذا ما أضيفت إلى الإرادة الجديدة لفرنسا ماكرون في بناء سيادة جديدة للإتحاد الأوروبي، لا يمكن اعتبارها مجموعة أحداث متفرقة، بل تعطي طبيعتها وتوقيت إنجازها الانطباع وكأنها خاضعة لخطة بترتيبات غربية محكمة، خطة قد لا تعارضها روسيا وقد تكون متفقة في شأن شروط تنفيذها لإعادة رسم ملامح جديدة للصراع في المنطقة. لقد صرح ترامت قبل هذا الحدث رسميا بقرار سحب القوات الأمريكية من سوريا، ليلغي بعد ذلك جولته المقررة التي كان سيقوم بها إلى أمريكا الجنوبية في إطار قمة الأمريكيتين، ليباشر مباشرة بعد ذلك الاستعدادات لشن الضربة المعلومة. وهنا كذلك، يبقى من الهام جدا استحضار الإعداد للقمة التاريخية التي ستجمع الرئيس الأمريكي ترامب برئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون، وإعلان إمكانية تشكيل قوة عسكرية عربية تحل محل القوة العسكرية الأمريكية في سوريا، وكذا السوابق في مجال الضربات التي شنتها إسرائيل والتي استهدفت أهداف النظام السوري فيما قبل (ضرب قاعدة "تيفور" الجوية قرب حمص وأهداف إستراتيجية أخرى معروفة).
في نفس السياق، لا يمكن القفز عن ما ميز ويميز الأوضاع في سوريا من تعقيد قبيل الضربة وما بعدها، تعقيد أبان عن صعوبة أو استحالة التقدم في المفاوضات في جنيف واستانا في ظل تكافؤ موازين القوى الدولية والإقليمية في الميدان. لقد بات هذا الوضع محرجا وغامضا بالنسبة لكل الأطراف المتصارعة. إنه الوضع الذي يدفع إلى ترجيح افتراض حاجة الغرب إلى البحث عن مسوغات جديدة للعودة بأقل التكاليف إلى معترك الصراع من خلال تكتيك محكم لن يهدد الوجود الروسي ومصالحه بالمنطقة. كما يمكن الدفع بكون ما وقع كان الهدف منه إيقاف زحف الحلف الروسي السوري الإيراني بعد حسم المعركة في الغوطة الشرقية، لتعطي كل هذه التطورات الانطباع وكأنها بالكامل مجرد ترتيبات محبكة بنيات مبيتة تتيح تفاهمات على أساس موازين قوى جديدة.
المعطيات البارزة في صراع اليوم على الأرض السورية تبين أن الدول القوية المتصارعة كونيا أصبحت تميل إلى ارتداء الأقنعة واستبدالها كلما دعت الضرورة ذلك للحفاظ على مصالحها الإستراتيجية. فعلا، بعدما تحدثنا في مقالات سابقة عن "عسكرة العولمة"، وقيم "القوة الناعمة" والتحولات الجديدة التي تميز الصراع السياسي والاقتصادي في إطار عولمة اقتصاد السوق وسيطرة الشركات العابرة للقارات ومتعددة الجنسيات، والدعوة من خلال عدة مقالات إلى تشكيل حلف عربي- عثماني- فارسي لتحقيق النهضة الإقليمية، أكتفي في إطار تتبع الأوضاع، وتأكيد الحساسية الشديدة التي تميز الصراع الحالي، بالإشارة إلى مجموعة من الفرضيات لا لشيء سوى لإغناء النقاش في شأن مصير الصراع الدولي في المنطقة في إطار تسوية الملف السوري وما بعده:
* تركيا حليف مميز بالنسبة للغرب ولا يمكن أن يحاور رئيسها دوليا إلا باستحضار مصالح بلده المرتبطة أساسا بأوروبا، ودخوله شمال سوريا لا يمكن أن يكون وراءه قرار تركي انفرادي،
* فرنسا، نظرا لارتباطاتها المصلحية بتركيا الأردوغانية، لا يمكن أن لا تكون متعاطفة معها جراء ما تعرضت له من عمليات إرهابية متكررة قام بها "الحزب العمالي الكردستاني"،
* فرنسا وأمريكا يعترفان بالدور الكردي في مواجهة "داعش" في محاربة الإرهاب بسوريا، الإرهاب الذي ضرب غير ما مرة فرنسا وعدد من الدول الأوروبيةّ،
* روسيا لن تقبل بالإهانة والمذلة في سوريا مرة أخرى بعدما أصيبت بالإحباط نتيجة التطورات السياسية الكونية السابقة التي ميزت مجريات الأحداث في أفغانستان والعراق وليبيا،
* ما حققه القيصر بوتين إلى حدود اليوم لا يرقى إلى مستوى يمكنه من الضغط على الغرب لتغيير أسس التفاوض الدولي ومن تم إعادة النظر في القرارات الغربية المتعلقة بالعقوبات الثقيلة على بلاده، وعلى حليفه إيران،
* شن مثل هذه الضربة، بدون إعلان الحرب على سوريا، يمكن أن يكون دافعه الأساسي عند الغرب إستراتيجية لجس النبض لمعرفة حدة المقاومة السورية بالأسلحة الروسية المتطورة، ومدى إتقان استعمالها من طرف الجيش السوري،
* إستراتيجية الصراع الكوني عند أمريكا تعتمد بالموازاة على القوة العسكرية والحروب الاقتصادية غير المكلفة. لقد واجهت الصين مؤخرا، المؤيد القوي لروسيا وحلفائها في الشرق الأوسط، بفرض رسوما جمركية بنسبة 25 بالمائة على واردات الألمنيوم والحديد الصلب،
* إلى جانب التباهي الصيني والروسي مؤخرا بقوتيهما العسكرية وترسانتيهما المتطورة جدا، كان الرد بالمثل من طرف الصين على وارداتها من السيارات الأمريكية إشارة قوية للتعبير كون حلفها بدوره يتقن الحروب الاقتصادية، وأن ضرباته يمكن أن تكون أكثر قوة وموجعة، مبينة في نفس الآن، من خلال ترديد الإشارات، أن خسارة بلاد العم سام اقتصاديا، أي أمريكا، ليست في صالح بلاد ماوتسي تونغ (الصين أكبر دائن لأمريكا)،
* التثبيت الدستوري للرئيس الصيني في أعلى هرم السلطة في الصين مدى الحياة، والدعم القوي للشعب الروسي للقيصر بوتين في الانتخابات الرئاسية، وما تعرفه التفاعلات السياسية كونيا من تجاذبات قوية، واضطرار الغرب غير ما مرة إلى حل الأزمات المالية بالسماح بتدخل الدولة في السوق الاقتصادية، واعتماد اليد الحديدية في التعاطي مع نضالات الطبقة العاملة والحركات الاجتماعية... كلها مؤشرات تدفع إلى افتراض ميول العالم إلى قبول تحولات إيديولوجية جديدة تخدم خيار الترويج للدولة القوية على حساب الدولة الديمقراطية في إطار اقتصاد السوق.
* إذا ما تم ترتيب الضربة السالفة الذكر بدون علم روسيا، من المرجح أن تلجأ هذه الأخيرة إلى الرد السهل من خلال تقوية دعم قوات النظام السوري العسكرية لتوسيع نفوذه بالقصف القوي للمناطق التي توجد تحت نفوذ المعارضة، وبتمكينه من الأسلحة المتطورة.
* حدة تراكم الثروات سيزداد في الشمال على حساب الجنوب، والحروب بالوكالة، كصيغة جديدة تميز الصراع الدولي متعدد الأقطاب، ستستمر، والصراع السني الشيعي، في حالة دخول قوة عربية حلبة المواجهات العسكرية في سوريا، قد يتفاقم ما لم تتوالى المبادرات لبناء حلف اقتصادي إقليمي بأسس ومقومات جديدة تستهدف تنمية الشعوب العربية والفارسية والعثمانية. إن الإصلاح الديني الذي تباشره الدولة السعودية يمكن أن يكون أساسا للتقارب ما بين القوى الإقليمية الثلاث.
أمام هذه الفرضيات، وباستحضار وجود نيات مبيتة بأقنعة متجددة تعتمدها القوى المتصارعة في العالم، لا يملك المتتبع إلا التركيز على فهم منطق معارك تقاسم النفوذ كونيا. فاحتكاما إلى المبدأ وحسن النية، لا يمكن للمتتبع إلا أن يطمع قبل الضربة في أن يكون التريث سيد الموقف عند القوى الدولية الثلاث لأن
ضرب أهداف سورية في واقع الأمر ما هو إلا ضرب لتجهيزات أو بنية تحتية ممولة من ضرائب وموارد الشعب السوري، وأن هذه الضربة ليست مرادفا لمعاقبة نظام الأسد كما جاء في تصريحات القيادات السياسية للدول الثلاث. في نفس الملف، خلقت المطالبة بقرار أممي للتحقيق في استعمال السلاح الكيماوي ما بعد الضربة عدة تناقضات في ذهن المتتبعين. وتزيد حدة هذه التناقضات عندما يتم التصريح هنا وهناك كون الصعود اللافت لروسيا وحلفائها اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا ونوويا فرض أوضاعا جديدة في العالم يصعب من خلالها تكرار إعلان حرب على سوريا من خارج الأمم المتحدة كما وقع في ملف عراق صدام احسين أو ليبيا القذافي.
التحليلات كلها تميل إلى كون التشكيك في قيم القوة الناعمة لن يزيد العالم إلا تأزما وفوضى هدامة عكس تنبؤات الكاتب ديريدا صاحب عبارة "الفوضى الخلاقة". لقد تم اليوم الترويج لملف القضاء على داعش الذي صاحبه إضعاف للقدرات السياسية والعسكرية للمعارضة السورية، وتدخلت القوى الثلاث عسكريا بالمباشر، وتم تحصين الشمال السوري عسكريا من طرف تركيا وبتواجد سياسي لفرنسا ماكرون... لتبقى طبيعة ردود فعل الحلف الروسي وتفاعل القوى الغربية معه تحت المجهر.