اليهود.. كم دافَعنا عنهم ووقفنا في وجه إبادتهم
عادل اعياشي
بالرغم من أنّ الصراع مع اليهود قد بلغ ذروتَه بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنّ هناك محطات فارقة في التاريخ أبان فيها العربُ والمسلمون عن إنسانيةٍ عميقةٍ تجاه اليهود المضطّهدين عبر العالم، وتروي شهادات عدّة ووقائع بالجملة على أن المسلمين قد أبانوا -بالرغم من مكائد اليهود ضدّهم- عن مروءةٍ كبيرة في دفاعهم عن اليهود المطاردين من النازية على وجه الخصوص إبّان الحرب العالمية الثانية، وسواء كان ما يُسمى بالهولوكوست حقيقة أم خيالا، إلا أن الاعتداء على اليهود في فتراتٍ محددة من التاريخ الحديث بات موثقاً من المُعتدين أنفسِهم، ورغم هذه الصفحات الإنسانية المَجيدة المحفورة في الصراع العربي الإسرائيلي، إلا أنّ إسرائيل لم تعترف يوماً بفضل العرب في حماية اليهود من العصف النازي بهم، ويبدو أن ما تُمارسه من مجازر ضد الفلسطينيين وسلبٍ للأرضِ والحقّ على مرأى ومسمعٍ من العالم خير دليل على هذا النكران.
يروي التاريخُ أن الإمبراطورية الرومانية التي كانت تَدين بالمسيحية قد ضيّقت الخناق على المُنتسبين لليهودية وأمرتهم قصراً بتحويل ديانتهم إلى المسيحية، وأدى هذا التحوّل إلى انخفاضٍ كبيرٍ في أعداد اليهود بين القرنين الرابع والسابع الميلاديين، إضافة إلى أنهم جُرّدوا من حقوقهم كمواطنين ومُنعوا من حريةِ إقامة شعائرهم وطقوسهم الدينية ومُورس عليهم الظلم والإقصاء، في المقابل كانت حياة اليهود في ظلّ الحضارة العربية الإسلامية حياةً آمنة مطمئنة، فقد عاملهم المسلمون معاملةَ أهل الكتاب، وأشركوهم في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وكان لهم دورٌ في إعمار وبناء الحضارة الإسلامية في ظل تعايشٍ سلميٍ يسود فيه الاحترام المتبادل رغم اختلاف الدين والمعتقد، وهو ما جعل اليهود أنفسهم يُطلقون على هذه الفترة العصر الذهبي لليهود، بفضل سماحة المسلمين والعرب معهم لأكثر من 800 سنة في الأندلس.
بعد احتلال فرنسا من قبل ألمانيا النازية عام 1940، بدأت حكومة فيشي باضطهاد اليهود المقيمين فيها، ومن بين القصص المروية في هذا الشأن قصة المغني الجزائري المعروف سمير هلالي الذي خبأه فقيهٌ في المسجد يدعى الإمام قدور بن غبريط، بعدما علِمت السلطات الألمانية بجذوره اليهودية فقامت بمطاردته، وساهم قدور بن غبريط خلال إدارته لمسجد "باريس" في إنقاذ مئاتِ اليهود من خطر وقوعهم في قبضة القوات النازية، حيث قام بمنحهم وثائق هويةٍ مزورة تُثبت أنهم من المسلمين، وجاء في كتاب "قصص مفقودة من الهولوكوست في البلاد العربية" لروبيرت ساتلوف قصصٌ لمُسلمين كُثر خبّأوا يهوداً في منازلهم ومزارعهم وأماكن اشتغالهم في فترة ما يسمى ب"المحرقة النازية".
ومع الاحتلال الألماني للبلقان عام 1943، رفض المواطنون الألبان الامتثال للمحتلّ بتقديم قائمة اليهود الذين يعيشون داخل البلاد، ووفّرت ألبانيا ذات الغالبية المسلمة زيادةً على ذلك للكثير من الأسر اليهودية وثائق خاصة أخفت هويتهم الحقيقية، وساعدتهم في الانصهار داخل المجتمع الألباني، ولم يُدافع الألبان عن المواطنين اليهود فحسب، بل جهزوا أيضًا ملجأً سريا لِلاَجئين منهم قَدِموا من دولٍ أخرى ليجدوا أنفسهم تحت خطر الطرد إلى معسكرات الاعتقال من طرف المحتل الايطالي لألبانيا آنذاك.
واذكرُ جيّداً ما رواهُ أعمامي لي عن مساعدتهم لليهود المغاربة الذين كانوا يعيشون في جبال الريف أوضاعاً مزرية من الفقر والجوع، وكيف أنّهم كانوا يأوونهم ويُقدّمون لهم المأكلَ والمشرب والملبس قبل أن يَختفوا فجأةً عن الأنظار. وهناك كتبٌ عديدة لكتّاب عرب وأجانب تتحدث عن فضل العرب والمسلمين في إنقاذ اليهود من الإبادة الجماعية على يد النازية، منها كتاب "الإسلام والعرب وإنقاذ اليهود من الفناء" للكاتب أحمد بدر نصار، وكتاب "العرب والمحرقة النازية" لجلبير الأشقر، و"النجم الأصفر والهلال" لمحمد العساوي باللغة الفرنسية، وكتاب روبيرت ساتلوف الذي سبق ذكره وغيرها من الكتب والشهادات.
ورغم هذا التاريخ الموثّق من الملاحم العربية والإسلامية التي قدّمت يدَ العون لليهود، إلا أن الردّ كان منافياً للقيمِ والأعراف الإنسانية، فكان المقابل ما رأيناه ونراه يومياً من البطش الإسرائيلي بالمسلمين في فلسطين وغيرها، ويومَ كانت ألبانيا شعباً يُذبح وأمة تُباد لم نر تدخلاً إسرائيلياً أو لوبياً يهودياً يقول للصرب كفى من هذا الدم المُهرق، وإذا كان صاعُ الرحمةِ والمروءة قد رُدَّ بصاعين من القتلِ والاحتلال من الجانب الإسرائيلي، إلا أن ما فعلهُ العرب والمسلمون لا يملك إلا أن يُسجَّلَ بماءٍ من ذهب في صفحات التاريخ الخالدة كدليلٍ جازمٍ على سماحة الإسلام والمسلمين.